بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام.. وتعظيم الاستفادة بالوقت
ها هو ذا الفلك قد دارَ بفضْل الله دورته، بعد أن سبحْنا في شئون دنيانا سبحًا طويلًا، فإذا بنا نودِّع عامًا هجريًّا مضَى، وطُويتْ صفحته فما لها من نُشور إلى يوم يقوم الناس لربِّ العالمين، نودِّع ذلك العام الذي مضَى بخيره وشرِّه، بحلوه ومُرِّه، بآماله وآلامه، وفي ذات الوقت نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا، قد نشرتْ في الخافقين صفحته بيضاء نقيَّة، يحملها الكِرام الكاتبون؛ لكي يُسطروا فيها ما تَجنيه أيدي العباد، ومن فوق الكلِّ رحمن رحيم، عفو كريم حليم، يبسط يدَه بالليل؛ ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل؛ عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزلُ ربُّنا كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثُلثُ الليل الآخِرُ، فيقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له، مَن يسألني فأُعطيَه، مَن يستغفرني فأغْفِرَ له» رواه البخاري.
وعنه أيضًا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: «إذا أراد عبدي أن يعملَ سيِّئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإنْ عَمِلها فاكتبوها بمثلها، وإنْ ترَكها من أجْلي فاكتبوها له حسنة، وإنْ أرادَ أن يعمل حسنة فلم يعملْها، اكتبوها له حسنة، فإنْ عَمِلها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» رواه البخاري.
وعليه فإنَّه يجدر بنا- وهذا حالنا مع أيام دَهْرنا- أنْ نَقِف وقفة تَدبُّرٍ وتأمُّل؛ لنرى عن كَثبٍ نظرة الإسلام لعامل الزمن، وكيف أَوْلَته كبيرَ عنايتها، وأحاطتْه بعظيم رعايتها؛ نظرًا لِمَا له من أهميَّة عُظْمى في دنيا الناس، فالزمن هو وعاء العُمر، وكلُّ كائن حيٍّ إنما هو عبارة عن حزمة من الأيام والساعات، والأشهر والسنوات، وأنَّ كلَّ يومٍ يَمضي فإنَّه ينقص منه، وفي هذا المعنى يقول القائل:
وَالْمَرْءُ يَفْرَحُ بِالأَيَّامِ يَقْطَعُهَا *** وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ
ونودُّ أن تكونَ مناقشتنا لهذا الموضوع على النحو التالي:
أولا: الزمن في البيان القرآني:
حينما نطالع الكتاب العزيز، فإننا نجد فيه بهذا الخصوص عجبًا؛ فقد اهتمَّ القرآن الكريم بالحديث عن الزمن اهتمامًا كبيرًا، وتتضِح لنا معالِمُ هذا الاهتمام من خلال الأغراض التي تَمَّت الإشارة إليها، والتي نوجزها فيما يلي:
1- الزمن آية من آيات الله:
فقد اعتبر القرآن الزمن مادةً أصيلة للتذكير بنعَم الله وآلائه؛ يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
كما يُطالعنا الكتاب العزيز بقول الله- سبحانه وتعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
ويتمثَّل التذكير بالزمن في هذه الآية في إبراز كون الزمن وعاءً للنعم التي يسبغها الله على عباده، فإذا كان المعنى اللغوي والتفسيري لأيام الله هنا يُراد به نعم الله، فإن كلَّ نعمة لها زمنٌ تصل إلى العباد فيه، فكأنَّ الله يُذَكِّرنا بالنعم من خلال أزمانها وأوقات حصولها، كما يمتدُّ هذا المعنى ليشمل التذكير بالنِّقَم كذلك؛ ذلك لأن التذكير كما يكون بالسرَّاء يكون بالضرَّاء، وفي ذلك من العِبَر ما فيه، فالذين يشكرون الله على العطايا والْهِبات، ويصبرون في الشدائد والْمُلمَّات، حَرِيٌّ بهم لزوم الطاعات، والابتعاد قدْرَ الوُسْع عن مفارقة الذنوب والسيِّئات؛ فبالشكر تدوم النعم، وبالبَطَر تحلُّ النِّقم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
2- القسم بالزمن:
لقد أقْسَمَ الله بالزمن، وبوحدات قياسه، في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، كاليوم والساعة والشهر والسنة، والحين والدَّهْر؛ يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]، ويقول- جل ذكره-: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56]، ويقول أيضًا: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1- 2]، ويقول: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2]، ويقول: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1، 2]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1- 2]، إلى غير ذلك من الآيات البيِّنات.
وكلُّ هذا إنْ دلَّ فإنَّما يدلُّ على أهميَّة المقسَم به وشرفه، وبخاصة إذا كان المقْسِم هو الله- جل جلاله.
3- ارتباط الزمن بالأَجْرام وسيلة للتعرُّف على أوقات العبادات والمعاملات:
كما يسَّر الله للإنسان سبيلَ التعرُّف على الزمن، عن طريق ارتباط القمر بالشمس في دورات متتالية لصالح بني البشر، فيبيِّن لنا ربُّنا- تبارك وتعالى- هذه العلاقة واضحة جَليَّة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
ولقد ورَد في سبب نزول هذه الآية أنَّ كفارَ مكة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أحوال الهلال وتطوره؛ حيث يظهر في أوَّل الشهر دقيقًا رقيقًا كحاجب العين، ثم يكبر رويدًا رويدًا كلَّ ليلة، حتى يصيرَ في منتصف الشهر بدرًا منيرًا، يملأ الدنيا بالنور الحالِم، ثم إذا به يأخذُ في النقص التدريجي حتى يُصبح مُحاقًا، فيبيِّن الله لهم في هذه الآية: أنَّه قد أجْرَاه لصالح الناس وخيرهم؛ إذًا عن طريق الأَهِلَّة يعرف الناس الشهور، فدورة الشمس اليوميَّة لا تُتاح لهم إلا بالتعرُّف على الليل والنهار فقط، وعن طريق معرفة الشهور يرتِّب الناس أعمالَهم وعباداتهم ومعاملاتهم؛ من نحو معرفة أوان الزرع والحصاد، وأوقات الصوم والحج والزكاة، وقضاء الديون، وقد بيَّن الله أحوال القمر هذه بمنازله، فقال وقوله الحقُّ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39].
فإذا كان هذا الكون الذي نعيش فيه- من عرْشه إلى فرشه، من أصغر ذرة إلى أكبر مَجَرَّة- كونًا عابدًا ومنقادًا لله بالفِطْرة، وإذا كان الإنسان هو أحدَ المكونات الفاعلة في هذا الكون كذلك، بل إنَّه هو المخلوق الذي شرَّفه الله، فخلَق هذا الكون من أجْله وسخَّره له؛ يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29].
إذا كان الإنسانُ بهذه المثابة، فإنَّه لا ينبغي له بحالٍ من الأحوال أن يشذَّ عن هذا التفاعل والتناغُم في هذا الكون.
ولعلَّ من حِكَم الله تعالى في ربْط عبادة الإنسان وحركته في الحياة بهذه الأجرام السماوية وغيرها، ما يذكِّر الإنسان بعبوديَّته لله، وما ينبغي عليه فِعْله والالتزام به من الائتلاف مع مفردات هذا الكون العابد المنقَاد لله في كلِّ حالٍ وعلى أيِّ حال؛ يقول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
ولنا أن نتدبَّرَ بعض ما ورَد في شأْن ربْط العبادات في الإسلام بالزمن على نحو ما يلي:
أ- الصلاة:
تلك الفريضة التي جعلَها الله عمادَ الدِّين، ورُكنَه الركين، مَن أقامها فقد أقامَ الدين، ومَن ترَكها فقد هدَم الدِّين، ربَط الله أوقاتها بالليل والنهار والشمس والقمر، فقال- عز من قائل-: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، ويقول الفتَّاح العليم: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 78، 79].
فدلوك الشمس: يَعني زوالها، وهذا يتناول صلاتَي الظهر والعصر، وغَسَق الليل: يَعني أوَّل ظُلمته، وهذا يتناول صلاتَي المغرب والعشاء، وقرآن الفجر؛ أي: صلاة الفجر.
ب- الصيام:
وترتبط هذه الفريضة كذلك بالزمن ارتباطًا قويًّا؛ يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
كما بيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تحديدَ هذا الشهر بَدءًا وانتهاءً برؤية هلاله وهلال شوَّال؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «صُوموا لرُؤيته، وأفْطروا لِرُؤيته، فإنْ غُمَّ عليكم، فأكْمِلوا عِدَّة شعبان ثلاثين يومًا»؛ أي: صوموا لرؤية هلال شهر رمضان، وأفْطروا لروية هلال شهر شوَّال.
ج- الزكاة:
وعن هذا الركن الإسلامي الهام يقول الله تعالى في بيان مواعيد زكاة الزروع والثمار: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
د- الحج:
وعن ارتباط هذه الفريضة بعنصر الزمن يقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
كما يبيِّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ارتباطَ الزمان بالمكان في أداء هذه الفريضة في حديثه الشريف: «الحج عرفة».
4- الزمن في الدنيا يختلف طولًا وقِصَرًا عنه في الآخرة:
فإذا كان الزمن في الدنيا مُحددًا ومقدَّرًا بالوحدات التي نعرفها- من الأيام والساعات والشهور والدهور- فإنَّ ربَّنا العليم يرشدنا في كتابه المجيد إلى أنَّ وحدات الزمن في الآخرة أطولُ بكثير عما عليه الحال في الدنيا؛ ذلك لأن الحياة الدنيا متاعٌ، وهي بالنسبة للآخرة قليل؛ يقول الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]، ويقول أيضًا: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]، وإذا كانت الحياة الدنيا معدودة محدودة، فإنَّ الحياة الآخرة هي الخلود بعينه؛ يقول الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]؛ أي: هي دار الحياة الدائمة الكاملة.
ونستطيع أن نُدْرك علاقة طول الزمن الدنيوي بالزمن الأخروي من خلال النصوص القرآنية التالية:
يقول الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
فطولُ يوم القيامة على الكافرين يَعْدِل طول ألف سنة مما يعدُّه العادُّون في الدنيا، ولكنَّه يكون على المؤمنين هيِّنًا ليِّنًا ويسيرًا، لا يزيد طولُه عن المدة التي يؤدِّي فيها أحدُنا الصلاة المكتوبة.
ويقول- جل جلاله-: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].
فحركة الملائكة في السماء صعودًا وهبوطًا- بما أهَّلهم الله به، وبما أمرَهم به من الطاقات- تُمكِّنهم من قطْع هذه المسافات الشاهقة صباحَ مساء على نحو لو قامَ به غيرُهم من الخلائق- لو قُدِّر له ذلك- فإنه يستغرق خمسين ألف سنة، ويقول ربُّنا كذلك: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
هذا وقد ورَد في القرآن الكريم ذِكْر أيَّام مخصوصة من أيام الدنيا، وأنها أيام عظيمة وطويلة، ولكن بصورة لَم تحدِّد هذه الأيام؛ لكي تذهب النفس في ذلك كلَّ مذهبٍ؛ يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]، ويقول أيضًا: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9-10].
وقد يكون من المناسب هنا تشبيه هذه الأيام بما يُسَمَّى بالأحقاب الجيولوجيَّة، لا أنها هي؛ وذلك لتقريب معنى طول هذه الأيام إلى الأذهان، والْحِكمة من وراء ذِكْر الْخَلق بهذه الكيفيَّة- مع أنَّ الله قادرٌ على أن يَخلُقَ ما يشاء في التوِّ واللحظة،- أنَّ يبيِّن الله لعباده أهميَّة التروِّي في العمل، وإعطائه الوقت الكامل والكافي لأدائه على أكمل وجْهٍ.
ولك أن تعجبَ معي من أنَّ أمرَ الكافر يوم القيامة، حين يسأله الله عن حياته الدنيا التي عاشَها، وكم لبِثَ في الأرض عددَ سنين، فإذا به ينظر إلى عُمره هذا- على طوله- ويرى أنَّه ما عاشَ إلا يومًا أو بعضَ يوم؛ يقول الله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112- 114]، ومع هذا يبيِّن الله لهم أنَّه أقلُّ بكثيرٍ مما يتصوَّرون.
ثانيًا: الزمن في السُّنة النبويَّة المطهَّرة:
أشارتِ السُّنة النبوية إلى عامل الوقت والزمن، ودعتْ إلى اغتنامه في كثيرٍ من الأحاديث الشريفة التي نورِدُ جانبًا منها فيما يلي:
عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنمْ خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موْتك، وصحَّتك قبل سَقمك، وفرَاغك قبل شُغلك، وشبابك قبل هَرَمك، وغِناك قبل فقْرك» رواه البيهقي.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لن تزولَ قدمَا عبدٍ يوم القيامة؛ حتى يُسأل عن أربع: عن عُمره فيما أفْناه، وعن شبابه فيما أبْلاه، وعن عِلْمه ماذا عَمِل به، وعن ماله من أين جَمعه، وفيم أنْفقه».
فنحن نرى أنَّ الوقت والعُمر الذي يستغرقه الإنسان في هذه الدنيا، إنَّما هو أمانة لَدَيه، وسيسأله الله عن الوفاء بها والقيام بحقِّها يوم القيامة، وفي هذا إشارة دقيقة وجليلة، ودعوة كريمة إلى المحافظة على العُمر، واستغلاله في كلِّ عمل مُثْمر مفيد.
وفي الحديث المتَّفق عليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يومٍ يُصبح العباد فيه إلاَّ ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تَلفًا».
ثالثًا: التلاعب بالزمن جُرم عظيم:
التلاعُب بالزمن يَعني تبديله وتغييره، من نحو تقديم شهر عربي على شهر آخرَ، أو نقْل حُرمته إليه، كما يمتدُّ معنى التلاعب بالزمن ليشمل سبَّ الزمن وشتْمه، على اعتبار أنَّ الأحداث التي تقع فيه إنما هي من صُنعه، وقد بيَّنت الشريعة الإسلامية أنَّ كلَّ ذلك وغيره معه من الأمور المنْهي عنها، والتي يستوجب فعْلها التعرُّض لعظيم سَخط الله، وشديد مؤاخذته، ونذكر من صور التلاعب بالزمن هاتين الصورتين الخطيرتين، وهما:
1- النَّسيء:
فقد كانت العرب في جاهليَّتها تعتقد حُرمة الأشهر الْحُرم، وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم، كما كانتْ تعظِّم هذه الأشهر كذلك، وتحرِّم القتال فيها، ولكن لَمَّا كانتْ حياتهم تعتمد على الصيد والإغارة على بعضهم، فإنهم في كثيرٍ من الأحيان يشقُّ عليهم الكفُّ عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربما جاء الشهر الحرام وهم محاربون، فيشق عليهم ترْكُ الحرب، فيُحلون الشهر الحرام، أو يحرِّمون مكانه شهرًا آخرَ، حتى بلغ بهم الحال أنَّهم رفضوا تخصيصَ الأشهر الْحُرم بالتحريم، واكتفوا بمجرد العدد، فالنسيء إذًا هو: عبارة عن نقْل وتأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وقد اعتبر الله ذلك من الكفار كفرًا جديدًا، وكفرًا زائدًا يُضاف إلى كفرهم وجحودهم، وبهذا فقد امتدَّ فسادُهم وإفسادهم إلى عنصر الزمن والوقت، والإخلال بترتيبه الطبيعي الذي بيَّنه الله في كتابه العزيز في قوله الكريم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
2- سب الزمن:
وهذا لون آخر من الإخلال بالزمن والتلاعُب به، ويتمثَّل ذلك في سبِّ الأيام والليالي، يسبُّ الدهر، وقد ورَد النهي مشددًا عن ذلك في كثيرٍ من الأحاديث الصحيحة؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: يسبُّ ابنُ آدمَ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار» رواه مسلم، وعن أبي هريرة فيما اتَّفق عليه البخاري ومسلم: «لا تسموا العنب الكَرْم، ولا تقولوا: خيبة الدهر؛ فإنَّ الله هو الدهر».
فالدهر كما تقول معاجم اللغة: هو مدة الدنيا كلها، أو هو الزمان الطويل، أو هو الزمن قلَّ أو كَثُر، وشبيه بسبِّ الدهر سبُّ الزمن، وقوله: «أنا الدهر» يعني: صاحب الدهر، ومُدَبِّر الأمور التي ينسبونها إليه، فمَن سبَّ الدهر على اعتبار أنَّه فاعلُ هذه الأمور، فقد عاد سبُّه إلى ربِّه الذي هو الفاعل على الحقيقة، وكانتْ عادتهم إذا أصابَهم مكروه نسبوه إلى الدهر، فقالوا: بؤْسًا للدهر.
رابعا: منهج الإسلام في الاستفادة من الوقت:
1- التعريف بالوقت:
ولقد أشرْنا إلى هذا العنصر فيما مضَى من القول، انطلاقًا من الحكمة القائلة: (الحكم على الشيء فرْعٌ عن تصوُّره).
ويدخل معنا في هذا السياق ما ورَد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: «إنَّما النسيء زيادة في الكفر، يُضَل به الذين كفروا؛ يُحلونه عامًا ويحرمونه عامًا؛ ليواطئوا عدة ما حرَّم، اللهم وإنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلَق الله السماوات والأرض، وإنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يومَ خلَق السماوات والأرض، منها أربعة حُرم، ثلاث متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشْهد» البيان والتبيين.
2- تنظيم أوقات الراحة وأوقات العمل:
فقد جعَل الله النهار زمنًا للسعي والعمل، كما جعل الليل زمنًا للراحة والسكون، يستوي في ذلك الإنسان والحيوان والنبات، فالتمثيل الضوئي لا يتمُّ في النبات إلاَّ في ضوء النهار، والطيور يستحثُّها ضوء النهار، فتهجر أعشاشها طلبًا للرزق؛ يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 9- 11].
3- ربط أوقات العبادة بالزمن:
وهذا العنصر يُتيح للمسلم أداء العبادة في دورات منتظمة من عمره، الأمر الذي يُعيننا على تعظيم الاستفادة بالعبادة، كما يعيننا على أدائها في سائر أوقات العُمر.
فضراعتُنا إليك يا ألله أن تفتحَ لنا أبواب رحمتك، وأن توفِّقنا للاعتصام بحبلك المتين، وأن تجعل عامَنا هذا خيرًا من سابقه، وفاتحة خيرٍ وبركة للاحقِه من الأعوام، وأن يكون مَطلعه على أُمة الإسلام مَطلعَ السعد والسعود، وأن تمكِّنَ لدينك في بلادك وعبادك، وأنْ تردَّ كيْدَ الكائدين ومكْرَ الماكرين إلى نحورهم يا ربَّ العالمين