نعمة تنوع العبادات وتعددها
الحمد لله الذي يسَّر الحجَّ وسائرَ أنواع العبادة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يُونُسَ: 26]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، قاد الأمة إلى ذرى المجد والسيادة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أولي الفضل والريادة.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد، وبها النجاة يوم المعاد، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، نِعَمُ اللهِ على عباده كثيرة إن عدها عبد أعجزه إحصاؤها، والإسلام أعظم النعم الإلهية، يُولَدُ المولودُ على الفطرة، وينشأ في بيئة يُعبد اللهُ فيها، ويُرفع الأذان، ويُقرأ القرآن؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا.
ومن أعظم توابع نعمة الإسلام وفروعها: نعمة تنوُّع العبادات وتعددها؛ وهي نعمة تحتضن حِكَمًا ربانية، الطريق إلى الله هي واحدة جامعة لكل ما يُرضي اللهَ، وما يرضيه متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم وتخفيفا عنهم وتيسيرا بما يتلاءم مع قدرتهم في المنشط والمكره، في تنوع الفرائض والواجبات من العبادات اختبار وابتلاء للمؤمن على غلبته لهواه، فانتقال العبد من عبادة إلى أخرى بحسب وقت كل منها دليل على أنه عبد حقيقي لله، تتنوع العبادات بمقاصدها فتحقق كل عبادة منها حكمة ربانية ومقصدا تربويا؛ ففي الصلاة يقول الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45]، وفي الزكاة يقول الله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التَّوْبَةِ: 103]، وفي الصيام يقول الله -عز وجل-: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183]، وفي الحج يقول الله: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الْحَجِّ: 28].
تتنوع العبادات بمناسكها وطرق أدائها؛ فمن عجز بمرض أو سفر أو فقر أو ضعف عن عبادة وجد أجره في رخصة وعبادة أخرى رعاية لظروف المكلفين، ورفعا للحرج عنهم، وتيسيرا وتسهيلا لهم، قال الله -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[الْبَقَرَةِ: 185].
راعى الإسلام أحوال الفقراء الذين ظنوا سبق الأغنياء لهم بفضول أموال يتصدقون بها قال الفقراء: "يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوليس قد جعل الله لكم ما تَصَدَّقُونَ به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة".
أصَّلَ الإسلامُ لمبدأ التخفيف؛ مراعاةً لأحوال المكلفين، فقد جاءت امرأة من خثعم فقالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم".
ومن الأحاديث العظيمة التي تدل على سعة رحمة الله وفضله ومراعاة أحوال المكلفين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما".
راعى الإسلام أحوال المكلفين من النساء؛ حيث تعجز المرأة عن القيام ببعض أعمال الرجال فرتَّب على أعمالهن أجرا عظيما تقديرا لدورهن وقيمة أعمالهن، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها ادخل الجنة من أي أبواب الجنة شئت".
تتنوع العبادات بفضائلها، فتزيد كل عبادة في صحائف أعمال المسلم سِجِلًّا من الخير، وفيضا من الثواب والأجر الجزيل، منها ما يؤدي إلى محو الذنوب والخطايا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله".
ومنها ما يحقق النماء، قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة".
ومنها ما يكون سببا لدخول الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
ومنها ما يُجير المسلمَ من عذاب النار، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم".
ومن تنوع فضائل الأعمال ما يرتفع به المسلم إلى مقام سَنِيٍّ لا يُجارى، قال عليه الصلاة والسلام: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا".
وتنوع أوقات العبادات وتنوع فضائلها يحفِّز المسلم إلى أن يستغرق حياته في التنقل بين بساتين العبادة، فإن الله -سبحانه- إذا أحب عبدا استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضلة بسيء الأعمال.
في تنوع العبادات مدافعة لبواعث السآمة والملل، ينشِّط النفس ويُفضي إلى استشعار المتعة واللذة في العبادة، وهناك عبادات فردية لها فضل وفيها حِكَم؛ فهي تُقَوِّي الصلة بالله، وتربي على الإخلاص والبعد عن الرياء، وتزيد صفاء الروح والأنس بالله، قال الحسن البصري حينما سئل: "ما بال أهل الليل على وجوههم نور؟ قال: لأنهم خَلَوْا بربهم فألبسهم من نوره -سبحانه وتعالى-".
التوجه إلى الله بالدعاء تضرعا وخيفة من أجمل صور العبادات الفردية، قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)[الْأَعْرَافِ: 205]، الصيام لوجه الله عبادة فردية وكل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لله.
الصدقة الخفية عبادة فردية تبذلها يمين المسلم ولا يعلم شماله ما أنفقت يمينه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نِعَمه ومننه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، دلنا على التفكر في الكون وعِبَره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، طهر بهديه القلب من أمراضه وعلله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السائرين على نهجه وسُنَنِه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله…
وكما عظمت العبادات الفردية فإن للعبادات التي يجتمع في أدائها المسلمون؛ كالصلاة والحج وغيرهما فضائل ومقاصد لا تخفي؛ منها: التوادد والتحاب ومعرفة أحوال بعضهم وإظهار عز المسلمين، تعليم الجاهل وتعويد الأمة على الاجتماع وعدم التفرق، والمواساة والمساواة ونبذ الفوارق الاجتماعية.
وفي تنوع العبادات ميدان فسيح للعمل؛ فمن الناس مَن يُفتح له في عمل دون غيره، وكل مُيَسَّر لما خُلِقَ له، والناس يتفاضلون في هذا الباب كما ذكر العلماء فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال الله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التَّغَابُنِ: 16].
وإذا علم المسلم وأدرك عظيم نعمة تنوع العبادات لزمه أن يشكر ربه عليها بالسعي فيها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام أجمعين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك ومَنِّكَ وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمِّر اللهم أعداءَكَ أعداءَ الدينِ، واجعل اللهم هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا رب العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر يا رب العالمين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك مخبتين، لك أواهين منيبين، اللهم تَقَبَّلْ توبَتَنا، واغسل حوبَتَنا، وثبِّتْ حُجَّتَنا، وسدِّدْ ألسنَتَنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم أصلح لنا شأننا كُلَّه، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم بارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأهلنا، واجعلنا مبارَكِينَ أينما كُنَّا.
اللهم وَفِّق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك واجعل عملَه في رضاك، يا رب العالمين، اللهم وفِّق ولي عهده لكل خير يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
المصدر ملتقى الخطباء
الحمد لله الذي يسَّر الحجَّ وسائرَ أنواع العبادة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يُونُسَ: 26]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، قاد الأمة إلى ذرى المجد والسيادة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أولي الفضل والريادة.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد، وبها النجاة يوم المعاد، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، نِعَمُ اللهِ على عباده كثيرة إن عدها عبد أعجزه إحصاؤها، والإسلام أعظم النعم الإلهية، يُولَدُ المولودُ على الفطرة، وينشأ في بيئة يُعبد اللهُ فيها، ويُرفع الأذان، ويُقرأ القرآن؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا.
ومن أعظم توابع نعمة الإسلام وفروعها: نعمة تنوُّع العبادات وتعددها؛ وهي نعمة تحتضن حِكَمًا ربانية، الطريق إلى الله هي واحدة جامعة لكل ما يُرضي اللهَ، وما يرضيه متعدد متنوع بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم وتخفيفا عنهم وتيسيرا بما يتلاءم مع قدرتهم في المنشط والمكره، في تنوع الفرائض والواجبات من العبادات اختبار وابتلاء للمؤمن على غلبته لهواه، فانتقال العبد من عبادة إلى أخرى بحسب وقت كل منها دليل على أنه عبد حقيقي لله، تتنوع العبادات بمقاصدها فتحقق كل عبادة منها حكمة ربانية ومقصدا تربويا؛ ففي الصلاة يقول الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45]، وفي الزكاة يقول الله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التَّوْبَةِ: 103]، وفي الصيام يقول الله -عز وجل-: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183]، وفي الحج يقول الله: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الْحَجِّ: 28].
تتنوع العبادات بمناسكها وطرق أدائها؛ فمن عجز بمرض أو سفر أو فقر أو ضعف عن عبادة وجد أجره في رخصة وعبادة أخرى رعاية لظروف المكلفين، ورفعا للحرج عنهم، وتيسيرا وتسهيلا لهم، قال الله -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[الْبَقَرَةِ: 185].
راعى الإسلام أحوال الفقراء الذين ظنوا سبق الأغنياء لهم بفضول أموال يتصدقون بها قال الفقراء: "يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوليس قد جعل الله لكم ما تَصَدَّقُونَ به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة".
أصَّلَ الإسلامُ لمبدأ التخفيف؛ مراعاةً لأحوال المكلفين، فقد جاءت امرأة من خثعم فقالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم".
ومن الأحاديث العظيمة التي تدل على سعة رحمة الله وفضله ومراعاة أحوال المكلفين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما".
راعى الإسلام أحوال المكلفين من النساء؛ حيث تعجز المرأة عن القيام ببعض أعمال الرجال فرتَّب على أعمالهن أجرا عظيما تقديرا لدورهن وقيمة أعمالهن، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها ادخل الجنة من أي أبواب الجنة شئت".
تتنوع العبادات بفضائلها، فتزيد كل عبادة في صحائف أعمال المسلم سِجِلًّا من الخير، وفيضا من الثواب والأجر الجزيل، منها ما يؤدي إلى محو الذنوب والخطايا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله".
ومنها ما يحقق النماء، قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة".
ومنها ما يكون سببا لدخول الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
ومنها ما يُجير المسلمَ من عذاب النار، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم".
ومن تنوع فضائل الأعمال ما يرتفع به المسلم إلى مقام سَنِيٍّ لا يُجارى، قال عليه الصلاة والسلام: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا".
وتنوع أوقات العبادات وتنوع فضائلها يحفِّز المسلم إلى أن يستغرق حياته في التنقل بين بساتين العبادة، فإن الله -سبحانه- إذا أحب عبدا استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضلة بسيء الأعمال.
في تنوع العبادات مدافعة لبواعث السآمة والملل، ينشِّط النفس ويُفضي إلى استشعار المتعة واللذة في العبادة، وهناك عبادات فردية لها فضل وفيها حِكَم؛ فهي تُقَوِّي الصلة بالله، وتربي على الإخلاص والبعد عن الرياء، وتزيد صفاء الروح والأنس بالله، قال الحسن البصري حينما سئل: "ما بال أهل الليل على وجوههم نور؟ قال: لأنهم خَلَوْا بربهم فألبسهم من نوره -سبحانه وتعالى-".
التوجه إلى الله بالدعاء تضرعا وخيفة من أجمل صور العبادات الفردية، قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)[الْأَعْرَافِ: 205]، الصيام لوجه الله عبادة فردية وكل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لله.
الصدقة الخفية عبادة فردية تبذلها يمين المسلم ولا يعلم شماله ما أنفقت يمينه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نِعَمه ومننه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، دلنا على التفكر في الكون وعِبَره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، طهر بهديه القلب من أمراضه وعلله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السائرين على نهجه وسُنَنِه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله…
وكما عظمت العبادات الفردية فإن للعبادات التي يجتمع في أدائها المسلمون؛ كالصلاة والحج وغيرهما فضائل ومقاصد لا تخفي؛ منها: التوادد والتحاب ومعرفة أحوال بعضهم وإظهار عز المسلمين، تعليم الجاهل وتعويد الأمة على الاجتماع وعدم التفرق، والمواساة والمساواة ونبذ الفوارق الاجتماعية.
وفي تنوع العبادات ميدان فسيح للعمل؛ فمن الناس مَن يُفتح له في عمل دون غيره، وكل مُيَسَّر لما خُلِقَ له، والناس يتفاضلون في هذا الباب كما ذكر العلماء فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال الله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التَّغَابُنِ: 16].
وإذا علم المسلم وأدرك عظيم نعمة تنوع العبادات لزمه أن يشكر ربه عليها بالسعي فيها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام أجمعين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك ومَنِّكَ وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمِّر اللهم أعداءَكَ أعداءَ الدينِ، واجعل اللهم هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا رب العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر يا رب العالمين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك مخبتين، لك أواهين منيبين، اللهم تَقَبَّلْ توبَتَنا، واغسل حوبَتَنا، وثبِّتْ حُجَّتَنا، وسدِّدْ ألسنَتَنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم أصلح لنا شأننا كُلَّه، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم بارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأهلنا، واجعلنا مبارَكِينَ أينما كُنَّا.
اللهم وَفِّق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك واجعل عملَه في رضاك، يا رب العالمين، اللهم وفِّق ولي عهده لكل خير يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
المصدر ملتقى الخطباء