شاع وذاع عند طلبة العلم أنَّ ابن الجوزي(ت : 597هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ وقع في زلّات عقدية طفحت بها بعض مصنفاته . ولا ريب أن أبا الفرج ظل ردحاً من الزمن يدعو إلى توحيد الله تعالى وتحقيق مراتب الدين وإقامة دعائم الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهذه الأعمال الجليلة التي أفنى ابن الجوزي عمره في العمل بها ولها ؛ تجعل المحقق في معتقد ابن الجوزي يٍحسن الظن به وبمنهجه ، لأنه لم يكن من دعاة البدعة ولا من رؤوس الضلال .
وهذه ورقات حرّرتُها في عقيدة ابن الجوزي – عفا الله عنه – القصد منها : استخراج سبب الزلل في معتقده والوقوف على المعالم المهمة التي كانت سببا في انحرافه وتنكُّبه لمنهج أهل السنة والجماعة . وهي مُستلّة بتمامها من كتابي : مرويات ابن الجوزي في صيد الخاطر ، وقد أفردتُها هنا لأهميتها .
والمتأمِّل لسيرة ابن الجوزي يلحظ أنه وقع في بعض المنافرات بسبب حِدتَّه وتعصُّبه وعدم تسليمه لآراء مخالفيه ، فكثر منتقدوه ، وعظم اللَّوم عليه من الحنابلة ــ أفراد مذهبه ــ وغيرهم من الطوائف والفرق المتعِّددة . وبسبب هذا الاتجاه العقدي عند ابن الجوزي ؛ ظل خصومه ينتقدون مسلكه العلمي والأدبي ويرقمون له النصائح والمواعظ كما في رسالة الشيخ إسحاق العلثي (ت:634هـ) التي أوردها ابن رجب في " ذيل طبقات الحنابلة " وهذا نصُّها :
رسالة العلثي لابن الجوزي :
" من عُبَيْد الله " إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي ، إلى عبد الرحمن بن الجوزي ، حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح ، ووفقنا وإياه لا تباع السلف الصالح ، وبصَّرنا بالسنة السنية ، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية ، وأعاذنا من الابتداع في الشريعة المحمدية . فلا حاجة إلى ذلك . فقد تركنا على بيضاء نقية ، وأكمل الله لنا الدين ، وأغنانا عن آراء المتنطعين ، ففي كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - مقنع لكل من رغب أو رهب ، ورزقنا الله الاعتقاد السليم ، ولا حرمنا التوفيق ، فإذا حُرمه العبد لم ينفع التعليم ، وعرفنا أقدار نفوسنا ، وهدانا الصراط المستقيم . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وفوق كل ذي علم عليم .
وبعد حمد الله سبحانه ، والصلاة على رسوله : فلا يخفى أن " الدين النصيحة " خصوصاً للمولى الكريم ، والرب الرحيم . فكم قد زل قلم ، وعثر قدم ، وزلق متكلم ، ولا يحيطون به علما . قال عز من قائل : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِير } . وأنت يا عبد الرحمن ، فما يزال يبلغ عنك ويُسمع منك ، ويشاهد في كتبك المسموعة عليك ، تذكر كثيرا ممن كان قبلك من العلماء بالخطأ ، اعتقاداً منك : أنك تصدع بالحق من غير محاباة ، ولا بُد من الجريان في ميدان النصح : إما لتنتفع إن هداك الله ، وإما لتركيب حجة الله عليك . ويحذر الناس قولك الفاسد ، ولا يغررك كثرة اطلاعك على العلوم ، " فرب مُبلَّغٍ أوعى من سامع " ، ورب حامل فقه لا فقه له ، ورب بحر كَدِر ونهر صاف ، فلستَ بأعلم من الرسول ، حيث قال الإمام عمر " أتصلي على ابن أَبيّ ؟ أنزل القرآن { وَلا تُصلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهمْ } " ولو كان لا يُنْكَر من قلَّ علمه على من كثر علمه إذاً لتعطَّل الأمر بالمعروف ، وصرنا كبني إسرائيل حيث قال تعالى : { كانوُا لاَ يَتَنَاهُونَ عَنْ مُنْكَرِ فَعَلُوهُ } بل ينكر المفضول على الفاضل وينكر الفاجر على الولي ، على تقدير معرفة الولي . وإلا فأين العنقاءُ لتُطلب وأين السمندلُ ، ليُجلب ـــ إلى أن قال : واعلم أنه قد كثر النكيُر عليك من العلماء والفضلاء ، والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات .
وقد أبانوا وَهاء مقالتك ، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة ، فعندك من الأقوال التي لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها ، فذُكر عنك:أنك ذكرتَ في الملائكة المقربين،الكرام الكاتبين ، فصلا زعمتَ أنه مواعظ ، وهو تشقيق وتفهيق ، وتكلُّف بشع ، خلا أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وكلام السلف الصالح لا يخالف سنة ، فعمدتَ وجعلتها مناظرة معهم . فمن أذن لك في ذلك ؟ وهم مستغفرون للذين آمنوا ، ولا يستكبرون عن عبادة الله . وقد قرن شهادته بشهادتهم قبل أولي العلم . وما علينا كان الآدمي أفضل منهم أم لا ، فتلك مسألة أخرى . فشرعت تقول : إذا ثارت نار الحسد فمن يطفيها ؟ وفي الغيبة ما فيها ، مع كلام غَثّ . أليس منا فلان ؟ ومنا فلان ؟ ومنا الأنبياء والأولياء. من فعل هذا من السلف قبلك ؟ ولو قال لك قائل من الملائكة : أليس منكم فرعون وهامان ؟ أليس منكم من ادَّعى الربوبية ؟ فعمِّن أخذتَ هذه الأقوال المحدثة ، والعبارات المزوَّقة ، التي لا طائل تحتها وقد شغلتَ بها الناس عن الاشتغال بالعلم النافع .، أحدُهم قد أُنسى القرآن وهو يعيد فضل الملائكة ومناظرتهم ، ويتكلم به في الآفاق . فأين الوعظ والتذكير من هذه الأقوال الشنيعة البشعة ؟! .
ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى ، وكأنها صَدَرَتْ لا من صدرٍ سكنَ فيه احتشام العلي العظيم ، ولا أملاها قلبَُ ملئ بالهيبة والتعظيم ، بل من واقعات النفوس البهرجية الزيوف . وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقَّوها وما فهموا . وحاشاهم من ذلك . بل كفوا عن الثرثرة والتشُّدق ، لا عجزاً ـــ بحمد الله ـــ عن الجدال والخصام ، ولا جهلاً بطرق الكلام . وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية ، لا عن جهلٍ وعماية .
والعجب ممن ينتحل مذهب السلف ، ولا يرى الخوض في الكلام . ثم يُقِدُم على تفسير ما لم يره أولاً ، ويقول : إذا قلنا كذا أدَّى إلى كذا ، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده . فهذا الذي نهيتَ عنه ؟! وكيف تنقضُ عهدك وقولك بقول فلان وفلان من المتأخرين ؟ فلا تُشمت بنا المبتدعة ، فيقولون : تنسبوننا إلى البدع وأنتم أكثر بدعاً منا ، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عقده ، وتثبتون معرفته وفضله ؟ كيف أقول مالم يقل ؟ فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم ، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه ، ثم تنكر عليهم ؟ هذا من العجب العجيب . ولو أن مخلوقا وصف مخلوقا مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق . لكان كاذباً في إخباره . فكيف تصفون الله سبحانه بشيء ما وقفتم على صحته ، بل بالظنون والواقعات ، وتنفون الصفات التي رضيها لنفسه ، وأخبر بها رسوله – صلى الله عليه وسلم – بنقل الثقات الأثبات ، بيَحْتملُ ، ويحتمل . ثم لك في الكتاب الذي أسميته " الكشف لمشكل الصحيحين " مقالات عجيبة ، تارة تحكيها عن" الخطابي" وغيره من المتأخرين ، أطلَّع هؤلاء على الغيب ؟ وأنتم تقولون : لا يجوز التقليد في هذا ، ثم ذكره فلان ، ذكره" ابن عقيل "، فنريد الدليل من الذَّاكرِ أيضاً ، فهو مجرَّد دعوى ، وليس الكلام في الله وصفاته بالهيِّن لُيلْقى إلى مجاري الظنون ـــ إلى أن قال :
إذا أردت : كان ابنُ عقيلٍ العالمِ ، وإذا أردتَ : صار لا يفهُم ، أوهيت مقالته لما أردت . ثم قال :
وذكرت الكلام المحدث على الحديث : ثم قلت والذي يقع لي . فبهذا تقْدُمُ على الله ، وتقول : قال علماؤنا ، والذي يقع لي . تتكلمون في الله عز وجل بواقعاتكم تخبرون عن صفاته ؟ ثم ما كفاك حتى قلت : هذا من تحريف بعض الرواة تحكماً من غير دليل . وما رويت عن ثقة آخر أنه قال : قد غيَّره الراوي فلا ينبغي بالرواة العدولِ: أنهم حرفوا ، ولو جوّزتم لهم الرواية بالمعنى ، فهم أقرب إلى الإصابة منكم . وأهل البدع إذاً كلما رويتم حديثاً ينفُرُون منه ، يقولون : يحتمل أنه من تغيِّير بعض الرواة .
فإذا كان المذكور في الصحيح المنقول من تحريف بعض الرواة ، فقولكم ورأيكم في هذا يحتمل أنه من رأي بعض الغواة !! ، وتقول : قد انزعج الخطَّابي لهذه الألفاظ . فما الذي أزعجه دون غيره ؟ ونراك تبني شيئاً ثم تنقضه ، وتقول : قد قال فلان وفلان ، وتنسب ذلك إلى إمامنا أحمد ــ رضي الله عنه ـــ ومذهبه معروف في السكوت عن مثل هذا ، ولا يفسِّره ، بل صحَّح الحديث ، ومنع من تأويله .
وكثير ممن أخذ عنك العلم إذا رجع إلى بيته ،علم بما في عَيبته من العيب ، وذمَّ مقالتك وأبطلها . وقد سمعنا عنك ذلك من أعيان أصحابك المحبوبين عندك ، الذين مدحتهم بالعلم ، ولا غرض لهم فيك ، بل أدَّوا النصيحة إلى عباد الله ، ولك القول وضدَّه منصوران . وكل ذلك بناء على الواقعات والخواطر .
وتدَّعى أن الأصحاب خلطوا في الصفات ، فقد قُبَحت أكثر منهم ، وما وسعتك السنة . فاتق الله سبحانه . ولا تتكلم فيه برأيك فهذا خبر غيب ، لا يُسْمع إلا من الرسول المعصوم ، فقد نصبتم حرباً للأحاديث الصحيحة . والذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام . ثم لك قصيدة مسموعة عليك في سائر الآفاق ، اعتقدها قوم ، وماتوا بخلاف اعتقادك الآن فيما يبلغ عنك ، وسُمع منك منها :
ولو رأيت النار هَبّــــــــَت ، فعــــــدت تحرق أهل البغي والعنــــاد
وكلما ألقـــــــى فيهـــــــا حطمــــــــت وأهلكتــه ، وهي في ازدياد
فيضع الجبـــــار فيهــــــا قدمــــــــــا جلت عن التشبيه بالأجسـاد
فتنزوي من هيبتـــــــــه ، وتمتلــــي فلو سمعت صوتهـــا ينادى
حسبي حسبي ، قد كفاني مـــا أرى من هيبـــة أذهبــــت اشتداد
فاحذر مقال مبتــــدع فــــــي قولــه يروم تأويلا بكــــــــــل وادي .
فكيف هذه الأقوال : وما معناها ؟ فإنا نخاف أن تحدث لنا قولا ثالثاً ، فيذهب الاعتقاد الأول باطلا . لقد آذيت عباد الله وأضللتهم ، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب ، وابن عقيل سامحه الله ، قد حُكي عنه : أنه تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال ، بمدينة السلام ــ عمرها الله بالإسلام والسنة ـــ فهو برئ ـــ على هذا التقدير ــــ مما يُوجد بخطه ، أو يُنسب إليه ، من التأويلات ، والأقوال المخالفة للكتاب والسنة .
وأنا وافدة الناس والعلماء والحفَّاظ إليك ، فإما أن تنتهي عن هذه المقالات ، وتتوب التوبة النصوح ، كما تاب غيرك ، وإلا كشفوا للناس أمرك ، وسيَّروا ذلك في البلاد وبيَّنوا وجه الأقوال الغَثَّةِ ، وهذا أمر تُشُوِر فيه ، وقُضي بليل ، والأرض لا تخلو من قائم لله بحجة ، والجرح لا شك مقدَّم على التعديل ، والله على ما نقول وكيل ، وقد أعذر من أنذر .
وإذا تأوَّلت الصفات على اللغة ، وسوّغته لنفسك ، وأبيتَ النصيحة ، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدَّس الله روحه ، فلا يمكنك الانتساب إليه بهذا ، فاختر لنفسك مذهباً ، إنْ مُكنتَ من ذلك ، ومازال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت ولو ضُربوا بالسيوف ، لا يخافون في الله لومة لائم ، ولا يبالون بشناعة مشنِّع ، ولا كذبِ كاذبٍ ، ولهم من الاسم العذب الهني ، وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالاً بالآخرة : ما هو معلوم معروف .
ولقد سوّدتَ وجوهنا بمقالتك الفاسدة ، وانفرادك بنفسك ، كأنك جبَّار من الجبابرة ، ولا كرامة لك ولا نُعْمى ، ولا نُمكنك من الجهر بمخالفة السنة ، ولو اُستقبل من الرأي ما استدبر: لم يُحك عنك كلام في السهل ، ولا في الجبل ، ولكن قدَّر الله ، وما شاء فعل ، بيننا وبينك كتاب الله ورسوله ، قال الله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ } ولم يقل : إلى ابن الجوزي . وترى كل من أنكر عليك نسبته إلى الجهل ، ففضل الله أُوتيته وحدك ؟! .
وإذا جَهَّلت الناس فمن يشهد لك أنك عالم ؟ ومن أجهل منك ، حيث لا تُصغي إلى نصيحة ناصح ؟ وتقول : من كان فلان ، ومن كان فلان ؟ من الأئمة الذين وصل العلم إليك عنهم ، من أنت إذا ؟ فلقد استراح من خاف مقام ربِّه ، وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم ، لئلا يندم .
فانتبه يا مسكين قبل الممات ، وحَسِّن القول والعمل ، فقد قرب الأجل ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".أهـ .
ورسالة العلثي هذه اشتملت على ست دعاوى :
الأولى : إساءة ابن الجوزي الأدب في وصفه لعبادة الملائكة ــ عليهم السلام ـــ بأنَّها ساذجة .
الثانية : زعم ابن الجوزي أنَّ أهل السنة والجماعة ما فهموا صفات الله تعالى .
الثالثة : قول ابن الجوزي بالقياس في صفات الله تعالى .
الرابعة : تقليد ابن الجوزي لمن ضَلّ من العلماء في باب صفات الله تعالى .
الخامسة : وقوع ابن الجوزي في التخليط والتحريف في صفات الله تعالى .
السادسة : تأويل ابن الجوزي لصفات الله تعالى .
~ عن الألوكة~ المجلس العلمي~
وهذه ورقات حرّرتُها في عقيدة ابن الجوزي – عفا الله عنه – القصد منها : استخراج سبب الزلل في معتقده والوقوف على المعالم المهمة التي كانت سببا في انحرافه وتنكُّبه لمنهج أهل السنة والجماعة . وهي مُستلّة بتمامها من كتابي : مرويات ابن الجوزي في صيد الخاطر ، وقد أفردتُها هنا لأهميتها .
والمتأمِّل لسيرة ابن الجوزي يلحظ أنه وقع في بعض المنافرات بسبب حِدتَّه وتعصُّبه وعدم تسليمه لآراء مخالفيه ، فكثر منتقدوه ، وعظم اللَّوم عليه من الحنابلة ــ أفراد مذهبه ــ وغيرهم من الطوائف والفرق المتعِّددة . وبسبب هذا الاتجاه العقدي عند ابن الجوزي ؛ ظل خصومه ينتقدون مسلكه العلمي والأدبي ويرقمون له النصائح والمواعظ كما في رسالة الشيخ إسحاق العلثي (ت:634هـ) التي أوردها ابن رجب في " ذيل طبقات الحنابلة " وهذا نصُّها :
رسالة العلثي لابن الجوزي :
" من عُبَيْد الله " إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي ، إلى عبد الرحمن بن الجوزي ، حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح ، ووفقنا وإياه لا تباع السلف الصالح ، وبصَّرنا بالسنة السنية ، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية ، وأعاذنا من الابتداع في الشريعة المحمدية . فلا حاجة إلى ذلك . فقد تركنا على بيضاء نقية ، وأكمل الله لنا الدين ، وأغنانا عن آراء المتنطعين ، ففي كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - مقنع لكل من رغب أو رهب ، ورزقنا الله الاعتقاد السليم ، ولا حرمنا التوفيق ، فإذا حُرمه العبد لم ينفع التعليم ، وعرفنا أقدار نفوسنا ، وهدانا الصراط المستقيم . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وفوق كل ذي علم عليم .
وبعد حمد الله سبحانه ، والصلاة على رسوله : فلا يخفى أن " الدين النصيحة " خصوصاً للمولى الكريم ، والرب الرحيم . فكم قد زل قلم ، وعثر قدم ، وزلق متكلم ، ولا يحيطون به علما . قال عز من قائل : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِير } . وأنت يا عبد الرحمن ، فما يزال يبلغ عنك ويُسمع منك ، ويشاهد في كتبك المسموعة عليك ، تذكر كثيرا ممن كان قبلك من العلماء بالخطأ ، اعتقاداً منك : أنك تصدع بالحق من غير محاباة ، ولا بُد من الجريان في ميدان النصح : إما لتنتفع إن هداك الله ، وإما لتركيب حجة الله عليك . ويحذر الناس قولك الفاسد ، ولا يغررك كثرة اطلاعك على العلوم ، " فرب مُبلَّغٍ أوعى من سامع " ، ورب حامل فقه لا فقه له ، ورب بحر كَدِر ونهر صاف ، فلستَ بأعلم من الرسول ، حيث قال الإمام عمر " أتصلي على ابن أَبيّ ؟ أنزل القرآن { وَلا تُصلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهمْ } " ولو كان لا يُنْكَر من قلَّ علمه على من كثر علمه إذاً لتعطَّل الأمر بالمعروف ، وصرنا كبني إسرائيل حيث قال تعالى : { كانوُا لاَ يَتَنَاهُونَ عَنْ مُنْكَرِ فَعَلُوهُ } بل ينكر المفضول على الفاضل وينكر الفاجر على الولي ، على تقدير معرفة الولي . وإلا فأين العنقاءُ لتُطلب وأين السمندلُ ، ليُجلب ـــ إلى أن قال : واعلم أنه قد كثر النكيُر عليك من العلماء والفضلاء ، والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات .
وقد أبانوا وَهاء مقالتك ، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة ، فعندك من الأقوال التي لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها ، فذُكر عنك:أنك ذكرتَ في الملائكة المقربين،الكرام الكاتبين ، فصلا زعمتَ أنه مواعظ ، وهو تشقيق وتفهيق ، وتكلُّف بشع ، خلا أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وكلام السلف الصالح لا يخالف سنة ، فعمدتَ وجعلتها مناظرة معهم . فمن أذن لك في ذلك ؟ وهم مستغفرون للذين آمنوا ، ولا يستكبرون عن عبادة الله . وقد قرن شهادته بشهادتهم قبل أولي العلم . وما علينا كان الآدمي أفضل منهم أم لا ، فتلك مسألة أخرى . فشرعت تقول : إذا ثارت نار الحسد فمن يطفيها ؟ وفي الغيبة ما فيها ، مع كلام غَثّ . أليس منا فلان ؟ ومنا فلان ؟ ومنا الأنبياء والأولياء. من فعل هذا من السلف قبلك ؟ ولو قال لك قائل من الملائكة : أليس منكم فرعون وهامان ؟ أليس منكم من ادَّعى الربوبية ؟ فعمِّن أخذتَ هذه الأقوال المحدثة ، والعبارات المزوَّقة ، التي لا طائل تحتها وقد شغلتَ بها الناس عن الاشتغال بالعلم النافع .، أحدُهم قد أُنسى القرآن وهو يعيد فضل الملائكة ومناظرتهم ، ويتكلم به في الآفاق . فأين الوعظ والتذكير من هذه الأقوال الشنيعة البشعة ؟! .
ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى ، وكأنها صَدَرَتْ لا من صدرٍ سكنَ فيه احتشام العلي العظيم ، ولا أملاها قلبَُ ملئ بالهيبة والتعظيم ، بل من واقعات النفوس البهرجية الزيوف . وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقَّوها وما فهموا . وحاشاهم من ذلك . بل كفوا عن الثرثرة والتشُّدق ، لا عجزاً ـــ بحمد الله ـــ عن الجدال والخصام ، ولا جهلاً بطرق الكلام . وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية ، لا عن جهلٍ وعماية .
والعجب ممن ينتحل مذهب السلف ، ولا يرى الخوض في الكلام . ثم يُقِدُم على تفسير ما لم يره أولاً ، ويقول : إذا قلنا كذا أدَّى إلى كذا ، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده . فهذا الذي نهيتَ عنه ؟! وكيف تنقضُ عهدك وقولك بقول فلان وفلان من المتأخرين ؟ فلا تُشمت بنا المبتدعة ، فيقولون : تنسبوننا إلى البدع وأنتم أكثر بدعاً منا ، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عقده ، وتثبتون معرفته وفضله ؟ كيف أقول مالم يقل ؟ فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم ، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه ، ثم تنكر عليهم ؟ هذا من العجب العجيب . ولو أن مخلوقا وصف مخلوقا مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق . لكان كاذباً في إخباره . فكيف تصفون الله سبحانه بشيء ما وقفتم على صحته ، بل بالظنون والواقعات ، وتنفون الصفات التي رضيها لنفسه ، وأخبر بها رسوله – صلى الله عليه وسلم – بنقل الثقات الأثبات ، بيَحْتملُ ، ويحتمل . ثم لك في الكتاب الذي أسميته " الكشف لمشكل الصحيحين " مقالات عجيبة ، تارة تحكيها عن" الخطابي" وغيره من المتأخرين ، أطلَّع هؤلاء على الغيب ؟ وأنتم تقولون : لا يجوز التقليد في هذا ، ثم ذكره فلان ، ذكره" ابن عقيل "، فنريد الدليل من الذَّاكرِ أيضاً ، فهو مجرَّد دعوى ، وليس الكلام في الله وصفاته بالهيِّن لُيلْقى إلى مجاري الظنون ـــ إلى أن قال :
إذا أردت : كان ابنُ عقيلٍ العالمِ ، وإذا أردتَ : صار لا يفهُم ، أوهيت مقالته لما أردت . ثم قال :
وذكرت الكلام المحدث على الحديث : ثم قلت والذي يقع لي . فبهذا تقْدُمُ على الله ، وتقول : قال علماؤنا ، والذي يقع لي . تتكلمون في الله عز وجل بواقعاتكم تخبرون عن صفاته ؟ ثم ما كفاك حتى قلت : هذا من تحريف بعض الرواة تحكماً من غير دليل . وما رويت عن ثقة آخر أنه قال : قد غيَّره الراوي فلا ينبغي بالرواة العدولِ: أنهم حرفوا ، ولو جوّزتم لهم الرواية بالمعنى ، فهم أقرب إلى الإصابة منكم . وأهل البدع إذاً كلما رويتم حديثاً ينفُرُون منه ، يقولون : يحتمل أنه من تغيِّير بعض الرواة .
فإذا كان المذكور في الصحيح المنقول من تحريف بعض الرواة ، فقولكم ورأيكم في هذا يحتمل أنه من رأي بعض الغواة !! ، وتقول : قد انزعج الخطَّابي لهذه الألفاظ . فما الذي أزعجه دون غيره ؟ ونراك تبني شيئاً ثم تنقضه ، وتقول : قد قال فلان وفلان ، وتنسب ذلك إلى إمامنا أحمد ــ رضي الله عنه ـــ ومذهبه معروف في السكوت عن مثل هذا ، ولا يفسِّره ، بل صحَّح الحديث ، ومنع من تأويله .
وكثير ممن أخذ عنك العلم إذا رجع إلى بيته ،علم بما في عَيبته من العيب ، وذمَّ مقالتك وأبطلها . وقد سمعنا عنك ذلك من أعيان أصحابك المحبوبين عندك ، الذين مدحتهم بالعلم ، ولا غرض لهم فيك ، بل أدَّوا النصيحة إلى عباد الله ، ولك القول وضدَّه منصوران . وكل ذلك بناء على الواقعات والخواطر .
وتدَّعى أن الأصحاب خلطوا في الصفات ، فقد قُبَحت أكثر منهم ، وما وسعتك السنة . فاتق الله سبحانه . ولا تتكلم فيه برأيك فهذا خبر غيب ، لا يُسْمع إلا من الرسول المعصوم ، فقد نصبتم حرباً للأحاديث الصحيحة . والذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام . ثم لك قصيدة مسموعة عليك في سائر الآفاق ، اعتقدها قوم ، وماتوا بخلاف اعتقادك الآن فيما يبلغ عنك ، وسُمع منك منها :
ولو رأيت النار هَبّــــــــَت ، فعــــــدت تحرق أهل البغي والعنــــاد
وكلما ألقـــــــى فيهـــــــا حطمــــــــت وأهلكتــه ، وهي في ازدياد
فيضع الجبـــــار فيهــــــا قدمــــــــــا جلت عن التشبيه بالأجسـاد
فتنزوي من هيبتـــــــــه ، وتمتلــــي فلو سمعت صوتهـــا ينادى
حسبي حسبي ، قد كفاني مـــا أرى من هيبـــة أذهبــــت اشتداد
فاحذر مقال مبتــــدع فــــــي قولــه يروم تأويلا بكــــــــــل وادي .
فكيف هذه الأقوال : وما معناها ؟ فإنا نخاف أن تحدث لنا قولا ثالثاً ، فيذهب الاعتقاد الأول باطلا . لقد آذيت عباد الله وأضللتهم ، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب ، وابن عقيل سامحه الله ، قد حُكي عنه : أنه تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال ، بمدينة السلام ــ عمرها الله بالإسلام والسنة ـــ فهو برئ ـــ على هذا التقدير ــــ مما يُوجد بخطه ، أو يُنسب إليه ، من التأويلات ، والأقوال المخالفة للكتاب والسنة .
وأنا وافدة الناس والعلماء والحفَّاظ إليك ، فإما أن تنتهي عن هذه المقالات ، وتتوب التوبة النصوح ، كما تاب غيرك ، وإلا كشفوا للناس أمرك ، وسيَّروا ذلك في البلاد وبيَّنوا وجه الأقوال الغَثَّةِ ، وهذا أمر تُشُوِر فيه ، وقُضي بليل ، والأرض لا تخلو من قائم لله بحجة ، والجرح لا شك مقدَّم على التعديل ، والله على ما نقول وكيل ، وقد أعذر من أنذر .
وإذا تأوَّلت الصفات على اللغة ، وسوّغته لنفسك ، وأبيتَ النصيحة ، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدَّس الله روحه ، فلا يمكنك الانتساب إليه بهذا ، فاختر لنفسك مذهباً ، إنْ مُكنتَ من ذلك ، ومازال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت ولو ضُربوا بالسيوف ، لا يخافون في الله لومة لائم ، ولا يبالون بشناعة مشنِّع ، ولا كذبِ كاذبٍ ، ولهم من الاسم العذب الهني ، وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالاً بالآخرة : ما هو معلوم معروف .
ولقد سوّدتَ وجوهنا بمقالتك الفاسدة ، وانفرادك بنفسك ، كأنك جبَّار من الجبابرة ، ولا كرامة لك ولا نُعْمى ، ولا نُمكنك من الجهر بمخالفة السنة ، ولو اُستقبل من الرأي ما استدبر: لم يُحك عنك كلام في السهل ، ولا في الجبل ، ولكن قدَّر الله ، وما شاء فعل ، بيننا وبينك كتاب الله ورسوله ، قال الله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ } ولم يقل : إلى ابن الجوزي . وترى كل من أنكر عليك نسبته إلى الجهل ، ففضل الله أُوتيته وحدك ؟! .
وإذا جَهَّلت الناس فمن يشهد لك أنك عالم ؟ ومن أجهل منك ، حيث لا تُصغي إلى نصيحة ناصح ؟ وتقول : من كان فلان ، ومن كان فلان ؟ من الأئمة الذين وصل العلم إليك عنهم ، من أنت إذا ؟ فلقد استراح من خاف مقام ربِّه ، وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم ، لئلا يندم .
فانتبه يا مسكين قبل الممات ، وحَسِّن القول والعمل ، فقد قرب الأجل ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".أهـ .
ورسالة العلثي هذه اشتملت على ست دعاوى :
الأولى : إساءة ابن الجوزي الأدب في وصفه لعبادة الملائكة ــ عليهم السلام ـــ بأنَّها ساذجة .
الثانية : زعم ابن الجوزي أنَّ أهل السنة والجماعة ما فهموا صفات الله تعالى .
الثالثة : قول ابن الجوزي بالقياس في صفات الله تعالى .
الرابعة : تقليد ابن الجوزي لمن ضَلّ من العلماء في باب صفات الله تعالى .
الخامسة : وقوع ابن الجوزي في التخليط والتحريف في صفات الله تعالى .
السادسة : تأويل ابن الجوزي لصفات الله تعالى .
~ عن الألوكة~ المجلس العلمي~