شهد العقدان الماضيان عدة محاولات فاشلة لإعادة بناء الدول في أعقاب الحرب. وتتضمن القائمة الطويلة من الإخفاقات تبديد موارد ضخمة في العراق بعد العام 2003، وعدم القدرة على تحقيق الاستقرار في أفغانستان، على الرغم من إنفاق مليارات الدولارات على مدى أكثر من عشر سنواتٍ من التدخل.
هناك العديد من الأسباب التي تفسر لماذا حدث ذلك، ولكن أهم ما يشرح هذا السجل البائس هو حقيقة أن المجتمعات التي مزقتها الحروب يتم حرمانها مراراً وتكراراً من فرصة إدارة عملية إعادة الإعمار، أي أن تلعب دوراً رئيسياً على أرض الواقع من حيث تخطيط وتصميم سياسات وبرامج ومشاريع إعادة الإعمار وتنفيذها. والأهم من ذلك، تمكين تلك المجتمعات من محاسبة الجهات الفاعلة في عملية إعادة الإعمار، سواءٌ أكانت وطنية أم دولية.
إن فقدان هذه المجتمعات للقدرة على جميع المستويات – بما في ذلك قلة أعداد الخريجين لديها المؤهلين بشكلٍ مناسب، فضلاً عن الاضمحلال السريع لمهارات القوى العاملة (نتيجة لفرص العمل الضائعة) أو بسبب النزوح – كثيراً ما قدم للمجتمع الدولي الذريعة التي تبرر بها لماذا يكون دور الفاعلين المحليين في إعادة الإعمار محدوداً بشكلٍ لا يمكن تفاديه. وفي حين أن الفجوة في القدرات والمهارات يتم الآن الاعتراف بها على نطاقٍ واسع، فإن سياسات إعادة الإعمار "الليبرالية الجديدة” التقليدية، التي تُعتبر مسؤولة جزئياً عن السجل السيئ في جهود إعادة الإعمار، لم تدركْ أهمية التعليم العالي بصورةٍ كافية من أجل التصدي لهذه الفجوة ومعالجتها.
ونظراً لانشغال الجهات المعنية بقضايا الأمن وبالعديد من التحديات الإنسانية على المدى القصير، فهي نادراً جداً ما تنظر إلى التعليم العالي باعتباره أولوية رئيسية في بيئات ما بعد انتهاء الصراع. وبدلاً من ذلك، يُنظر إلى الاستثمار في التعليم العالي بشكلٍ عام كما لو أنه ترفٌ ليس بوسع المجتمعات التي مزقتها الحروب أن تتحمل كلفته.
إن سنواتٍ من الدراسة والخبرة قد أدت بنا إلى الاستنتاج بأنه، لكي تلعب المجتمعات المحلية دوراً قيادياً في عملية الإنعاش المعقدة، كما هو ضروري لنجاحها، يلزم اتباع نهجٍ طويل الأمد لإعادة البناء يتسم بالجرأة والقدرة على إحداث التغيير- نهج يضع التعليم العالي في مركز جدول أعماله.
ومن خلال الاستثمار في بناء القدرات المحلية فقط سوف تتمكن الدول من تلبية الطلبات المتزايدة التي تنشأ في أعقاب الحرب على العمال المهرة والعلوم المتقدمة، في مجموعةٍ واسعة من القطاعات ذات الأولوية من أجل إعادة الإعمار وبناء الدولة، بما في ذلك قطاعات الصحة والهندسة والتعليم والقانون والاقتصاد.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعليم العالي، عندما يؤخذ من الناحية الاستراتيجية، لديه القدرة على تقريب فئات المجتمعات المنقسمة من بعضها البعض، بالرغم من خلفياتهم العرقية والدينية المتنوعة، ويتيح لها فرصة الانخراط في إجراء بحوثٍ هامة وأساسية في أجواء جامعية مفتوحة ومتنوعة.
إن توفير وسيلةٍ تتيح للشباب، في الفئة العمرية الحرجة من 18 إلى 25 سنة، فرصة للمشاركة البناءة لهو أمرٌ على درجةٍ كبيرة من الأهمية، لا سيما عندما يتعلق ذلك بالتعامل مع تداعيات الصراعات العنيفة في هذه الأوقات.
ولضمان أن التعليم العالي يمكن أن يبدأ في المساهمة نحو الانتعاش، كما ذكرنا آنفا، فمن الضروري أن يتم اتخاذ المزيد من الإجراءات لحماية هذا القطاع بكل جوانبه – اساتذة وطلاب وبنية تحتية – أثناء نشوب الصراع وفي أعقاب انتهائه مباشرة.
ولكن للأسف، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، وقع التعليم العالي على نحوٍ متزايد ضحية لاحتدام الصراعات العنيفة بين الأطراف المختلفة.
ويتضح هذا الأمر بجلاءٍ شديد بما نجم عن القصف الذي جرى مؤخراً لجامعات في سوريا وغزة واليمن، وكذلك في الحملة المروعة من العنف التي أودت بحياة ما يصل الى 1,000 من الأكاديميين العراقيين، والهجوم المأساوي في جامعة غاريسا في كينيا في أبريل 2015 حيث قُتل 147 شخصاً.
وبالتالي، فإنَّ تأمين حمايةٍ فعًّالة يُعدّ أمراً ضرورياً لتقليل الأثر الضار للصراع على الموارد البشرية والمادية والمؤسسية الخاصة بالتعليم العالي.
لقد بُذلت بعض الجهود لحماية مؤسسات التعليم العالي، بما في ذلك زيادة الأمن ، وذلك من خلال إقامة نقاطٍ للتفتيش وبناء جدرانٍ مقاومة للتفجير وتعزيز الشرطة في الجامعات، في حين ركزت الجهود الدولية على تنفيذ خطط إنقاذ تؤمن الحماية للأساتذة والطلاب النازحين المعرضين للتهديد.
كما التزمت جهاتٌ عالمية عديدة بتأمين الحماية للمدارس والجامعات من الهجوم، كما هو موضح، على سبيل المثال، في المبادئ التوجيهية لحماية المدارس والجامعات من الاستخدام العسكري أثناء الصراعات المسلحة، وكذلك في مبادئ مسؤولية الدولة عن حماية التعليم العالي من الهجوم.
إعادة بناء التعليم العالي
إن تأمين الحماية للتعليم العالي يُفضل على بذل جهودٍ مكلفة لإعادة البناء والتي يمكن أن تستغرق جيلا لحين اكتمال عملية البناء. ومع ذلك، بالنسبة لكثير من المجتمعات، فإنَّ ترميم الحطام في أعقاب الحرب، وإعادة بناء التعليم العالي، لهو أمرٌ ضروري.
ففي الحالة التي أعقبت غزو العراق، تحطم نظام التعليم العالي – وتعرض ما نسبته 84 بالمئة من الجامعات إما للحرق أو النهب أو الدمار. وفي أمثلة متطرفة أخرى، بما في ذلك ما حصل في أفغانستان والصومال، شارفت أنظمة التعليم العالي بأكملها هناك على حدِّ الانهيار التام بسبب استمرار حالة الصراع.
إن أنظمة التعليم العالي معقدة التركيب وذات أوجهٍ متعددة وتتطلب موارد مالية وفنية كبيرة، حتى بالمقارنة مع النظم الوطنية الخاصة بالتعليم الابتدائي والثانوي.
ولذلك فإنَّ إعادة بناء وتنشيط التعليم العالي في أعقاب الحرب يُعد تحدياً كبيراً يتطلب جهداً جماعياً بين مجموعةٍ واسعة من الجهات الفاعلة التعليمية الوطنية والإقليمية والدولية.
وهناك حاجةٌ ملحة للتفكير الخلاق حول إيجاد أفضل السبل للرد على التحديات التي يواجهها التعليم العالي في البلدان المتضررة من الصراعات وكيفية تسخير قدرة القطاع العالمي كي يتسنى له المساهمة في عملية الانتعاش والانتقال.
إن الفترات التي تأتي في أعقاب الأزمات والنزاعات يمكن أن تتيح فرصة لإدخال الإصلاح وتحقيق التحسينات خلال عملية إعادة البناء، بدلاً من مجرد تكرار النظم الاجتماعية والاقتصادية بأخطائها السابقة.
ولا بدّ أن تكون نقطة الانطلاق لهذا الانتعاش هي فهمٌ أفضل للمرونة الملحوظة التي تمثلها الأوساط الأكاديمية خلال مراحل الصراع كافة.
إن الحاجة إلى تأمين الحماية وإعادة بناء التعليم العالي سوف تكون محور اجتماعٍ سيُعقد في مدينة يورك، المملكة المتحدة، في 17 يوليو 2015.
وهذا الاجتماع – الذي يستضيفه كلٌ من مركز بروكنجز الدوحة ومعهد التعليم الدولي وجامعة يورك – سيجمع قادة التعليم العالي من الدول المتضررة من الصراع مع مسؤولين من المنظمات الدولية التي تعمل على دعم التعليم العالي في هذه الظروف.