من مواقف القيامة المهولة الحساب
يقول الله تعالى في محكم آياته وقرآنه
:﴿اقْتَرَبَ لِلْنّاسِ حِسابُهُم وهُم فِي غَفْلَة مُعْرِضُون﴾(الأنبياء:1).
تصف الآية الكريمة يوم القيامة بأنَّه يوم الحساب، والحساب الإلهي في عالم الآخرة هو عبارة عن الموازنة بين ما عمله الإنسان من حسنات وسيئات، ليكشف للإنسان ماله وما عليه فيجازى به، وتكشف فيه الصحف والسرائر، ويتجسّد أمام كلِّ فرد عمله، فيراه بكامل تفاصيله وجزئياته، يقول الله تعالى:﴿ليجزي اللهُ كُلَّ نفس ما كسَبَت إنَّ اللهَ سريعُ الحساب﴾(إبراهيم:51)، ويقول في آية أخرى﴿ثمّ رُدُّوا إلى اللهِ مولاهُم الحقِّ ألا لَهُ الحُكمُ وَهو أَسرعُ الحاسبين﴾(الأنعام:62).
مدة يوم الحساب
وإنَّ يوم الحساب وإنْ سمّيَ يوماً لكنَّه يعد بآلاف السنين من سنيِّ الدنيا، فهناك لا شمس تشرق، ولا أرض كأرضنا تدور، وتوجد في ذلك اليوم مواقف مهمَّة هي التي يتمُّ بها المعاد، وتقام بها الحجَّة الكبرى على الناس، وينالون جزاء أعمالهم.
فإنَّه بعد أن يعطى كلُّ إنسان صحيفة أعماله، يبدأ الحساب، وهو مشهدٌ عجيب، حيث يحاسَب جميع الناس في آن واحدٍ، وتطول فترة حساب كلِّ إنسانٍ وتقصر بحسب أعماله وأهميتها، فمنهم من يقصر حسابه ويمضي لجنَّته التي وعد بها، أو النَّار التي يجزى فيها على سوء صنيعه، ومنهم من يطول حسابه لسنين يعلم الله مداها.
من مشاهد يوم الحساب
لا يختلف يوم الحساب عن يوم القيامة من حيث الأهوال التي يراها الإنسان فيه، وقد تحدثت الكثير من الآيات القرآنية الكريمة عن أوصاف هذا اليوم المهول وما يواجهه الإنسان من رعب وكارثة، فمن أوصاف هذا اليوم:
يوم الفزع: بل الفزع الأكبر الذي لا يمكن أن يتخيَّله الإنسان، يقول الله تعالى:﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(الحج:2).
إلاَّ أنَّ المؤمنين الملتزمين بأوامر الله تعالى ونواهيه، يثيبهم الله تعالى على حسن إيمانهم أمناً من الفزع والحزن في هذا اليوم. يقول الله تعالى:﴿فَهُم من فَزَع يومئذ آمِنون﴾(النمل: 89)، ويقول في آية أخرى:﴿لا يحزنهم الفَزَعُ الأكْبَر﴾(الأنبياء:103).
يوم الندامة: فعندما يرى الإنسان ما قدَّمته يداه، وما فرَّط في حقِّ نفسِّه وربِّه في دار الدنيا، ويرى أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فهناك تحلُّ عليه الندامة، لكنَّ الندامة هنا لا تقارن بندامة المرء في الدنيا، ففي يوم الحساب لا رجوع لتصحيح الأوضاع، لذلك يكون الندم في غايته، وتكون الحسرة في أعلى درجاتها، يقول الله تعالى:﴿وأَسرُّوا النَّدامةَ لمّا رَأوا العذابَ وَقُضِيَ بَينَهُم بِالقِسطِ﴾(يونس:54).
أنواع الحساب وأصناف المحاسبين
والناس في يوم الحساب أصناف
فمنهم من يدخل الجنَّة بدون حساب.
ومنهم من يدخل جهنَّم بدون حساب.
ومنهم من يستغرق حسابهم وقتاً طويلاً ويحاسب حساباً عسيراً.
ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً.
قال الله تعالى:﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرً* إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾(الانشقاق:7-13).
فالنَّاس يختلفون اختلافاً كبيراً فيما بينهم بالحساب يوم القيامة، فطائفة يشدد اللّه في حسابها، وتضمُّ الَّذين يشدِّدون في حساب النَّاس في الدار الـدنيا، وذوي الأخلاق السيِّئة، والظلمة، وطائفة أخرى يكون حسابُ أفرادها سهلاً يسيراً، بسبب أعمالهم الـصـالـحة، وحسن أخلاقهم، وتساهلهم وتسامحهم مع عباد اللّه.
رُوِيَ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "والناس يومئذٍ على طبقات ومنازل، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم الَّذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، لأنَّهم لم يتلبّسوا من أمر الدنيا بشيء، وإنَّما الحساب هناك على من تلبَّس هاهنا، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير، ويصير إلى عذاب السعير، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلال، فأولئك لا يقيم لهم وزناً، ولا يعبأ بهم، لأنَّهم لم يعبأوا بأمره ونهيه، فهم في جهنَّم خالدون، تلفح وجوههم النَّار، وهم فيها كالحون"1.
ويحدد الإمام محمّد الباقر عليه السلام سبب التأخر في الحساب يوم القيامة بالدقة التي يكون فيها الحساب، حيث رُوِيَ عنه عليه السلام: "إنَّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا"2. ولو رجعنا إلى الآية الكريمة، وما ورد في تفصيلها من الأخبار، يتبين لنا أمور:
1-الحساب اليسير والرحمة الإلهية
هو أن يخلو الله تعالى بعبده فيعاتبه حتى ليكاد العبد يذوب حياءً من ربِّه، ويفيض عرقه خجلًا من مولاه، ثم يغفر الله له، ويرضى عنه بمنِّه وكرمه.
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يحاسب المؤمن أعطاه كتابه بيمينه وحاسبه فيما بينه وبينه، فيقول: عبدي فعلتَ كذا وكذا وعملتَ كذا وكذا فيقول: نعم يا ربِّ قد فعلتُ ذلك. فيقول: قد غفرتُها لك،وأبدلتها حسنات، فيقول الناس: سبحان الله أما كان لهذا العبد سيئةٌ واحدة!!!، وهو قول الله عزّ وجلّ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾(الانشقاق:7-9).3.
وورد فـي حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من كنَّ فيه حاسبه اللّه حساباً يسيراً، وأدخله الجنَّة برحمته، قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: تعطي من حرمك وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك"4.
ويـسـتـفـاد مـن بعض الروايات أيضاً أنَّ حسن الخلق يخفف من حساب يوم القيامة، فقد رُوِيَ أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لنوف: "يا نوف صل رحمك يزد الله في عمرك، وحسن خلقك يخفف الله حسابك"5.
2-الحساب العسير
والحساب الشديد هو الحساب الدقيق، وكما أنَّ الله يحاسب الإنسان الذي يكون مجمل مسيرته الصلاح والحسنات الكبيرة حساباً يسيراً فيكفر عنه سيئاته، فإنَّه سبحانه يحاسب الَّذي يكون مجمل مسيرته الفساد والفواحش الكبيرة حساباً عسيراً لا تغفرُ فيه سيئة، بل تتضاعف، فالآية دلَّت على أنَّ الحساب حسابٌ يسير وآخر عسير، فإذا قلنا إنَّ الحساب اليسير هو التجاوز وعدم التدقيق في الحساب، فإنَّ الحساب العسير هو المناقشة، أو الاستقصاء في المحاسبة، والمطالبة بالجليل والحقير، وترك المسامحة.
من يدخل النَّار بلا حساب؟
وردت روايات الرسول الأكرم وأهل البيت صلوات الله عليه وعليهم في أصنافٍ من الناس لا يحاسبون، فمنهم من يدخل الجنَّة بغير حساب، وبعض يدخل النَّار بدون حساب ولا ميزان، فأمَّا من يدخل النَّار بلا حساب، فهم أهل الشرك، فعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "إنَّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين، ونَشرُ الدواوين لأهل الإسلام"6.
وعن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ اللّه عزَّ وجلَّ يحاسب كلَّ خلق إلاَّ من أشرك باللّه عزَّ وجلَّ، فإنَّه لا يحاسب ويؤمَر به إلى النَّار"7.
وعدَّت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام ثلاثة أصناف ممن لا يحاسب ويدخل إلى النَّار. حيث رُوِيَ عنه عليه السلام: "وأمَّا الثلاثة الَّذين يدخلهم النَّار بغير حساب، فإمام جائر، وتاجر كذوب، وشيخ زان"8. وفي حديث آخر للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عدَّ فيه ستة ممن يدخلونها بغير حساب: "ستة يدخلون النَّار بغير حساب، الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهَّاقين بالكبر، والتجَّار بالكذب، والعلماء بالحسد، والأغنياء بالبخل"9.
الحساب دقيق
نـسـتـفـيد من مجموع الروايات، وحتى الإشارات الواردة في بعض الآيات القرآنية، أنَّ حساب يوم القيامة حساب دقيق للغاية، وجاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال لرجل: "يا فلان مـالك ولأخيك ؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حقٌّ فاستقصيت منه حقي، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عـن قول اللّه﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾(الرعد:21)، أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم ؟ لا واللّه خافوا الاستقصاء والمداقَّة"10.
مما يطول الحساب؟
كلمَّا تخفف الإنسان من أمر الدنيا، كلمَّا قلَّ وقوفه للحساب، وكما قيل فاز المخفون، وكلمَّا ازداد منها كلمَّا طال وقوفه، وهذا ما ترشد إليه الرواية التالية: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب، كلاهما من أهل الجنَّة: فقير في الدنيا، وغني في الدنيا، فيقول الفقير: يا ربّ على ما أوقف، فوعزَّتك إنَّك لتعلم أنَّك لم تولني ولاية فأعدل فيها أو أجور، ولم ترزقني مالاً فأؤدي منه حقاً أو أمنع، ولا كان رزقي يأتيني منها إلاّ كفافاً على ما علمت وقدَّرت لي.
فيقول الله جلّ جلاله: صدق عبدي خلوّا عنه يدخل الجنَّة.
ويبقى الآخر حتّى يسيل منه العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها، لم يدخل الجنَّة.
فيقول له الفقير: ما حبسك؟
فيقول: طول الحساب. مازال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي، ثمَّ أسأل عن شيء آخر حتّى تغمدني الله عز َّوجلَّ برحمته، وألحقني بالتائبين.
فمن أنت؟
فيقول: أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً"11.
المسائل التي يسأل عنها يوم القيامة
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾(النساء:86).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة أوائل خلافته: "إتقوا الله في عباده وبلاده فإنَّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"12. ومما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة: العمر والمال وحبّ أهل البيت عليهم السلام.
فقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه. وشبابه فيما أبلاه. وعن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه. وعن حبِّنا أهل البيت"13.
الصلاة: فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّ أوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة، فان قُبلِت قُبِل ما سواها"14.
الحواس واستعمالها: قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾(الإسراء:36)، وقد مرَّ الكلام بأنَّها تشهد على صاحبها بما فعله بها، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.
الدَيْن: ففي الرواية عن أحد الصادقين عليهما السلام، قال: "يؤتى يوم القيامة بصاحب الدَّين يشكو الوحشة، فإن كانت له حسنات أخذَ منها لصاحب الدَّين... وإن لم تكن له حسنات أُلقي عليه من سيِّئات صاحب الدَّين"15.
الحقوق والمظالم: فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع عنده. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: كلا المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النَّار".
أشعار الحكمة
ولقد علمت بأنَّ قصريَ حفرةٌ غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والأقربون إليَّ ثم تصدَّعوا
وتركت في غبراء يكره وردها سفي علي الريح حين أودع
حتى إذا وافى الحمام لوقته ولكل جنبٍ لا محَالة مصرع
نبذوا إليه بالسلام فلم يجب أحداً، وصمَّ عن الدعاء الأسمع
يقول الله تعالى في محكم آياته وقرآنه
:﴿اقْتَرَبَ لِلْنّاسِ حِسابُهُم وهُم فِي غَفْلَة مُعْرِضُون﴾(الأنبياء:1).
تصف الآية الكريمة يوم القيامة بأنَّه يوم الحساب، والحساب الإلهي في عالم الآخرة هو عبارة عن الموازنة بين ما عمله الإنسان من حسنات وسيئات، ليكشف للإنسان ماله وما عليه فيجازى به، وتكشف فيه الصحف والسرائر، ويتجسّد أمام كلِّ فرد عمله، فيراه بكامل تفاصيله وجزئياته، يقول الله تعالى:﴿ليجزي اللهُ كُلَّ نفس ما كسَبَت إنَّ اللهَ سريعُ الحساب﴾(إبراهيم:51)، ويقول في آية أخرى﴿ثمّ رُدُّوا إلى اللهِ مولاهُم الحقِّ ألا لَهُ الحُكمُ وَهو أَسرعُ الحاسبين﴾(الأنعام:62).
مدة يوم الحساب
وإنَّ يوم الحساب وإنْ سمّيَ يوماً لكنَّه يعد بآلاف السنين من سنيِّ الدنيا، فهناك لا شمس تشرق، ولا أرض كأرضنا تدور، وتوجد في ذلك اليوم مواقف مهمَّة هي التي يتمُّ بها المعاد، وتقام بها الحجَّة الكبرى على الناس، وينالون جزاء أعمالهم.
فإنَّه بعد أن يعطى كلُّ إنسان صحيفة أعماله، يبدأ الحساب، وهو مشهدٌ عجيب، حيث يحاسَب جميع الناس في آن واحدٍ، وتطول فترة حساب كلِّ إنسانٍ وتقصر بحسب أعماله وأهميتها، فمنهم من يقصر حسابه ويمضي لجنَّته التي وعد بها، أو النَّار التي يجزى فيها على سوء صنيعه، ومنهم من يطول حسابه لسنين يعلم الله مداها.
من مشاهد يوم الحساب
لا يختلف يوم الحساب عن يوم القيامة من حيث الأهوال التي يراها الإنسان فيه، وقد تحدثت الكثير من الآيات القرآنية الكريمة عن أوصاف هذا اليوم المهول وما يواجهه الإنسان من رعب وكارثة، فمن أوصاف هذا اليوم:
يوم الفزع: بل الفزع الأكبر الذي لا يمكن أن يتخيَّله الإنسان، يقول الله تعالى:﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(الحج:2).
إلاَّ أنَّ المؤمنين الملتزمين بأوامر الله تعالى ونواهيه، يثيبهم الله تعالى على حسن إيمانهم أمناً من الفزع والحزن في هذا اليوم. يقول الله تعالى:﴿فَهُم من فَزَع يومئذ آمِنون﴾(النمل: 89)، ويقول في آية أخرى:﴿لا يحزنهم الفَزَعُ الأكْبَر﴾(الأنبياء:103).
يوم الندامة: فعندما يرى الإنسان ما قدَّمته يداه، وما فرَّط في حقِّ نفسِّه وربِّه في دار الدنيا، ويرى أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فهناك تحلُّ عليه الندامة، لكنَّ الندامة هنا لا تقارن بندامة المرء في الدنيا، ففي يوم الحساب لا رجوع لتصحيح الأوضاع، لذلك يكون الندم في غايته، وتكون الحسرة في أعلى درجاتها، يقول الله تعالى:﴿وأَسرُّوا النَّدامةَ لمّا رَأوا العذابَ وَقُضِيَ بَينَهُم بِالقِسطِ﴾(يونس:54).
أنواع الحساب وأصناف المحاسبين
والناس في يوم الحساب أصناف
فمنهم من يدخل الجنَّة بدون حساب.
ومنهم من يدخل جهنَّم بدون حساب.
ومنهم من يستغرق حسابهم وقتاً طويلاً ويحاسب حساباً عسيراً.
ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً.
قال الله تعالى:﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرً* إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾(الانشقاق:7-13).
فالنَّاس يختلفون اختلافاً كبيراً فيما بينهم بالحساب يوم القيامة، فطائفة يشدد اللّه في حسابها، وتضمُّ الَّذين يشدِّدون في حساب النَّاس في الدار الـدنيا، وذوي الأخلاق السيِّئة، والظلمة، وطائفة أخرى يكون حسابُ أفرادها سهلاً يسيراً، بسبب أعمالهم الـصـالـحة، وحسن أخلاقهم، وتساهلهم وتسامحهم مع عباد اللّه.
رُوِيَ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "والناس يومئذٍ على طبقات ومنازل، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم الَّذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، لأنَّهم لم يتلبّسوا من أمر الدنيا بشيء، وإنَّما الحساب هناك على من تلبَّس هاهنا، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير، ويصير إلى عذاب السعير، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلال، فأولئك لا يقيم لهم وزناً، ولا يعبأ بهم، لأنَّهم لم يعبأوا بأمره ونهيه، فهم في جهنَّم خالدون، تلفح وجوههم النَّار، وهم فيها كالحون"1.
ويحدد الإمام محمّد الباقر عليه السلام سبب التأخر في الحساب يوم القيامة بالدقة التي يكون فيها الحساب، حيث رُوِيَ عنه عليه السلام: "إنَّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا"2. ولو رجعنا إلى الآية الكريمة، وما ورد في تفصيلها من الأخبار، يتبين لنا أمور:
1-الحساب اليسير والرحمة الإلهية
هو أن يخلو الله تعالى بعبده فيعاتبه حتى ليكاد العبد يذوب حياءً من ربِّه، ويفيض عرقه خجلًا من مولاه، ثم يغفر الله له، ويرضى عنه بمنِّه وكرمه.
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يحاسب المؤمن أعطاه كتابه بيمينه وحاسبه فيما بينه وبينه، فيقول: عبدي فعلتَ كذا وكذا وعملتَ كذا وكذا فيقول: نعم يا ربِّ قد فعلتُ ذلك. فيقول: قد غفرتُها لك،وأبدلتها حسنات، فيقول الناس: سبحان الله أما كان لهذا العبد سيئةٌ واحدة!!!، وهو قول الله عزّ وجلّ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾(الانشقاق:7-9).3.
وورد فـي حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من كنَّ فيه حاسبه اللّه حساباً يسيراً، وأدخله الجنَّة برحمته، قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: تعطي من حرمك وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك"4.
ويـسـتـفـاد مـن بعض الروايات أيضاً أنَّ حسن الخلق يخفف من حساب يوم القيامة، فقد رُوِيَ أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لنوف: "يا نوف صل رحمك يزد الله في عمرك، وحسن خلقك يخفف الله حسابك"5.
2-الحساب العسير
والحساب الشديد هو الحساب الدقيق، وكما أنَّ الله يحاسب الإنسان الذي يكون مجمل مسيرته الصلاح والحسنات الكبيرة حساباً يسيراً فيكفر عنه سيئاته، فإنَّه سبحانه يحاسب الَّذي يكون مجمل مسيرته الفساد والفواحش الكبيرة حساباً عسيراً لا تغفرُ فيه سيئة، بل تتضاعف، فالآية دلَّت على أنَّ الحساب حسابٌ يسير وآخر عسير، فإذا قلنا إنَّ الحساب اليسير هو التجاوز وعدم التدقيق في الحساب، فإنَّ الحساب العسير هو المناقشة، أو الاستقصاء في المحاسبة، والمطالبة بالجليل والحقير، وترك المسامحة.
من يدخل النَّار بلا حساب؟
وردت روايات الرسول الأكرم وأهل البيت صلوات الله عليه وعليهم في أصنافٍ من الناس لا يحاسبون، فمنهم من يدخل الجنَّة بغير حساب، وبعض يدخل النَّار بدون حساب ولا ميزان، فأمَّا من يدخل النَّار بلا حساب، فهم أهل الشرك، فعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "إنَّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين، ونَشرُ الدواوين لأهل الإسلام"6.
وعن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ اللّه عزَّ وجلَّ يحاسب كلَّ خلق إلاَّ من أشرك باللّه عزَّ وجلَّ، فإنَّه لا يحاسب ويؤمَر به إلى النَّار"7.
وعدَّت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام ثلاثة أصناف ممن لا يحاسب ويدخل إلى النَّار. حيث رُوِيَ عنه عليه السلام: "وأمَّا الثلاثة الَّذين يدخلهم النَّار بغير حساب، فإمام جائر، وتاجر كذوب، وشيخ زان"8. وفي حديث آخر للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عدَّ فيه ستة ممن يدخلونها بغير حساب: "ستة يدخلون النَّار بغير حساب، الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهَّاقين بالكبر، والتجَّار بالكذب، والعلماء بالحسد، والأغنياء بالبخل"9.
الحساب دقيق
نـسـتـفـيد من مجموع الروايات، وحتى الإشارات الواردة في بعض الآيات القرآنية، أنَّ حساب يوم القيامة حساب دقيق للغاية، وجاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال لرجل: "يا فلان مـالك ولأخيك ؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حقٌّ فاستقصيت منه حقي، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عـن قول اللّه﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾(الرعد:21)، أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم ؟ لا واللّه خافوا الاستقصاء والمداقَّة"10.
مما يطول الحساب؟
كلمَّا تخفف الإنسان من أمر الدنيا، كلمَّا قلَّ وقوفه للحساب، وكما قيل فاز المخفون، وكلمَّا ازداد منها كلمَّا طال وقوفه، وهذا ما ترشد إليه الرواية التالية: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب، كلاهما من أهل الجنَّة: فقير في الدنيا، وغني في الدنيا، فيقول الفقير: يا ربّ على ما أوقف، فوعزَّتك إنَّك لتعلم أنَّك لم تولني ولاية فأعدل فيها أو أجور، ولم ترزقني مالاً فأؤدي منه حقاً أو أمنع، ولا كان رزقي يأتيني منها إلاّ كفافاً على ما علمت وقدَّرت لي.
فيقول الله جلّ جلاله: صدق عبدي خلوّا عنه يدخل الجنَّة.
ويبقى الآخر حتّى يسيل منه العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها، لم يدخل الجنَّة.
فيقول له الفقير: ما حبسك؟
فيقول: طول الحساب. مازال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي، ثمَّ أسأل عن شيء آخر حتّى تغمدني الله عز َّوجلَّ برحمته، وألحقني بالتائبين.
فمن أنت؟
فيقول: أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً"11.
المسائل التي يسأل عنها يوم القيامة
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾(النساء:86).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة أوائل خلافته: "إتقوا الله في عباده وبلاده فإنَّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"12. ومما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة: العمر والمال وحبّ أهل البيت عليهم السلام.
فقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه. وشبابه فيما أبلاه. وعن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه. وعن حبِّنا أهل البيت"13.
الصلاة: فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّ أوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة، فان قُبلِت قُبِل ما سواها"14.
الحواس واستعمالها: قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾(الإسراء:36)، وقد مرَّ الكلام بأنَّها تشهد على صاحبها بما فعله بها، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.
الدَيْن: ففي الرواية عن أحد الصادقين عليهما السلام، قال: "يؤتى يوم القيامة بصاحب الدَّين يشكو الوحشة، فإن كانت له حسنات أخذَ منها لصاحب الدَّين... وإن لم تكن له حسنات أُلقي عليه من سيِّئات صاحب الدَّين"15.
الحقوق والمظالم: فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع عنده. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: كلا المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النَّار".
أشعار الحكمة
ولقد علمت بأنَّ قصريَ حفرةٌ غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والأقربون إليَّ ثم تصدَّعوا
وتركت في غبراء يكره وردها سفي علي الريح حين أودع
حتى إذا وافى الحمام لوقته ولكل جنبٍ لا محَالة مصرع
نبذوا إليه بالسلام فلم يجب أحداً، وصمَّ عن الدعاء الأسمع