أثر التسامح في الإسلام
الحمد لله المتفضل بالعفو عمن أناب، غافرِ الذنب وقابل التوب شديد العقاب، أحمدُه على السرَّاء والضراء، وأشكرُه طلبًا للمزيد من النعماء، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأسألُه اللُّطف في القضاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفَّق أهل الإيمان للتحلي بمكارم الأخلاق، وطهَّر قلوبَهم من شوائب الحمق والشِّقاق، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، كان بين قومه مثالاً للكمالات الحية، وعنوانًا للأخلاق المرضية، بثَّ في أمته روح الفضيلة، وحذَّرهم من بوائق الرذيلة، وهداهم إلى خير الطريقَيْنِ، وأرشدهم إلى نيل السعادتين، صلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين اقتفوا أثره؛ فحيوا حياةً طيبة، واتبعوا سبيلَه فعاشُوا عِيشةً راضية، أولئك هم المؤمنون حقًّا، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.
الحمد لله المتفضل بالعفو عمن أناب، غافرِ الذنب وقابل التوب شديد العقاب، أحمدُه على السرَّاء والضراء، وأشكرُه طلبًا للمزيد من النعماء، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأسألُه اللُّطف في القضاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفَّق أهل الإيمان للتحلي بمكارم الأخلاق، وطهَّر قلوبَهم من شوائب الحمق والشِّقاق، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، كان بين قومه مثالاً للكمالات الحية، وعنوانًا للأخلاق المرضية، بثَّ في أمته روح الفضيلة، وحذَّرهم من بوائق الرذيلة، وهداهم إلى خير الطريقَيْنِ، وأرشدهم إلى نيل السعادتين، صلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين اقتفوا أثره؛ فحيوا حياةً طيبة، واتبعوا سبيلَه فعاشُوا عِيشةً راضية، أولئك هم المؤمنون حقًّا، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.
أما بعد:
فقد قال الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين:﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85]، وقال: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، وقال: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾[آل عمران: 134]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديدُ بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب))، وقال: ((إذا قدرتَ على عدوِّك، فاجعل العفوَ شكرًا للقدرة عليه)).
يا عباد الله، التسامح، والاحتمال، وسَعَة الصدرِ، والعفو عند المقدرة، والحلم والتواضع، وضبط النفس والصبر على المكاره، كلُّ هذه الأخلاق الكريمة والصفات الفاضلة المحمودة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم من أيمن الخصال الحميدة أثرًا، وأجزلها فائدةً، وأعودها بالخير على المجتمع الإنساني؛ فهي تُؤكِّدُ المحبةَ بين المتحابِّين، وتؤلف بين المتنافرين، وتقرِّبُ بين المتباعدين، وتهدي قلوب الحائرين، وتسكن نفوس الثائرين، وتُبطِلُ كيد الكائدين، وتفضُّ المشاكل المستعصية، وتحل العقد المستحكمة، ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
وإن من الثمرات الطيبة التي يَجنيها صاحبُ هذه الأخلاق الكريمة في الدنيا حبَّ الناس له، وثَناءَهم عليه، وابتعادهم عن إلحاق الأذى به، وتعاونهم في قضاء مصالحه، وتيسير أموره، وتحقيق رغائبه، أما الثمرة التي يجنيها في الآخرة فجنةُ نعيمٍ، وقربٌ من رب العالمين.
ولقد كان لنا في رسول الله أسوةٌ حسنة؛ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، هذا الرسول الكريم الرؤوف الرحيم، صفوةُ الخلق صلوات الله وسلامه عليه كان في الذروة العليا، والمقام الأسمى في التسامح والرحمة، والحلم والرأفة، لَقي من أذى الناس، ومشاقِّ الدعوة، والصبر على الجهاد في سبيل الله، واحتمال الآلام والمتاعب لإسعاد العالم - ما يجبُ أن يكون نبراسًا لكل مؤمن، وهدايةً لكلِّ مَن يتشرف بالانتساب إلى هذا الدين الحنيف.
كان صلى الله عليه وسلم وافرَ الحلمِ والاحتمال، كثيرَ الفضلِ والإفضال، يصلُ من قطَعَه، ويواسي من منعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغضُّ طرفه على القذى، ويحبس نفسه عن الأذى، ويصبر على ما يشقُّ ويكره، ولا يَزيد مع إيذاء الجاهلين إلا صبرًا وحلمًا، وتسامحًا وعفوًا، وما انتقم لنفسه قطُّ إلا أن تُنتَهَكَ حُرمةٌ من حرمات الله؛ فيغضب لله أن تُنتهَكَ حرمتُه، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن معصيةً وإثمًا، نزل عليه جبريل فقال: يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة؛ ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]؛ أي: خُذ ما عفا لك وسهل من أفعال الناس وأخلاقهم، ولا تطلب منهم ما يَشُقُّ عليهم؛ حتى لا يَنفروا، وأمرهم بالمعروف والجميل من الأفعال، وأَعرِضْ عن الجاهلين منهم بالمجاملة وحُسن المعاملة، ودفعِ السيئة بالحسنة؛ ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
ولقد كان لهذا التأديب الذي أدَّبه به ربُّه أجملُ الأثر في نفسه؛ انظر إليه صلى الله عليه وسلم حين طارَده قومُه بالطائف - لأنه يدعوهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة - وأغرَوْا به عبيدهم وسُفهاءَهم حتى أدمَوْا قدمَه، وشَجُّوا رأسه، وضجَّت ملائكةُ السماء من شدة ما لَقِيَه صلى الله عليه وسلم من أذى قومه، ونزل عليه ملَكُ الجبال يقول له: (يا محمد، إن الله أمرني أن أُطِيعك فيما تأمر به في قومك)، انظر إليه صلى الله عليه وسلم مع هذا كلِّه تطيب نفسُه، فبدل أن يسكت عنهم أو يدعوَ عليهم، يعتذرُ عنهم ويدعو لهم، فيقول: ((أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم من يعبدُ الله، اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون))، فيقول الملك مُتعجِّبًا من شدة شفقته ووفرة حلمه: صدق مَن سمَّاك الرؤوفَ الرحيمَ
وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد دخل مكة منتصرًا بعد أن أُخرِجَ منها قسرًا، وأصبحت قريشٌ كلها في قبضة يده حتى ظنَّ كثيرٌ منهم أن هذا اليوم الذي فُتحَتْ فيه مكة هو يوم هلاكهم واستئصالهم؛ انتقامًا منهم؛ حيث أَخرجوا الرسول من داره بمكة بغير حقٍّ، وكسروا رباعيتَه، وقتلوا عمَّه حمزةَ يوم أُحُدٍ، وجمعوا عليه الأحزاب، وحاربوه بالمدينة، ولكنه صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، وأطلقَهم، ولم يَزِدْ على أن قال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، فاستل بهذا ما بَقِي في نفوسهم من العناد والغطرسة، ودخَل الناس في دين الله أفواجًا، وكان في ذلك عزة للمسلمين.
وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد جاءه أعرابيٌّ يومًا يطلبُ منه شيئًا، فجذبه مِن ردائه في عنقه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني يا محمد من مال الله؛ فإنك لا تعطيني من مالك، ولا من مال أبيك! فسكَت صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((المالُ مال الله، وأنا عبده، ويُقادُ منك يا أعرابي))؛ أي: ويُفعَل بك كما فعلتَ بي، فقال الأعرابي: لا، قال صلى الله عليه وسلم: ((ولِمَ؟)) قال: لأنك لا تَجزي بالسيئة السيئةَ، فضحك صلى الله عليه وسلم، وأمر أن يُحمَلَ له على بعيرٍ شعيرٌ، وعلى آخرَ تمر.
ومثل ذلك ما رُوِي أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَطلبُ منه عطاء، فأعطاه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله: ((أحسنتُ إليك يا أعرابي؟)) فقال: لا، ولا أجملتَ، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كفُّوا عنه))، وأعطاه حتى رَضِي، ثم قال له: ((أحسنتُ إليك يا أعرابي؟)) قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: ((إن مَثلي ومثل هذا، كمثلِ رجلٍ له ناقة شردَتْ منه، فاتبعها الناسُ ليردوها عليه، فلم يَزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحبُها: خَلُّوا بيني وبين ناقتي؛ فإني أرفَقُ بها وأعلم، فتوجَّه إليها وأخذ لها من قُمام الأرض، فردَّها حتى جاءت واستناخَت، وشدَّ عليها رَحْلَها، واستوى عليها، وإني لو تركتُكم حيث قال الرجل ما قال وقتلتموه دخل النار)).
ورُوي أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يقسمُ الغنائمَ في خيبر، فقال له رجل: يا رسول الله، اعدل! فقال له المصطفى: ((ويحك! فمَن يَعدِلُ إذا لم أعدِلْ؟! فقد خبتَ وخسرتَ إن كنتُ لا أعدل!)) فقام عمر فقال: ألا أضرب عنقَه؛ فإنه منافق؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معاذَ الله أن يَتحدَّثَ الناس أني أقتل أصحابي! رَحِمَ اللهُ أخي موسى؛ لقد ابتُلِيَ بأكثرَ مِن هذا فصبر)).
وهذه الأمثلة التي ذكرتُها لكم في تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم وصَفْحِه - قليلٌ من كثيرٍ قد امتلأَت به كتب السُّنة، وتناقلته ألسِنةُ التاريخ، وإنَّ في ذلك لعبرةً وعِظة، ورحمة وهدًى لقوم يؤمنون بالله واليوم الآخر.
فاتقوا الله عبادَ الله، وتخلَّقُوا بأخلاق رسول الله، وتحلَّوْا بالحِلم الذي يستدعي مُصابرةَ السفيه، والعفوَ عن المسيء، وابتعدوا عن الغضب؛ فإنه يأكل الحسنات، ويُعظِّمُ الهفوات، ويورث الضغائن والحزازات، ويوقع الفتن بين الإخوان؛ لأنه رجس من عمل الشيطان، وإذا اعتُدِي عليك أيها المؤمن فهوِّن على نفسك، ولا تندفع لمقابلة الشر بالشر، واعلم أن الخيرَ كلَّه في الترِّوي وعدم التسرع؛ فإن ذلك يساعدُ على تسكين الفتنة، وتهدئة الخواطر، وإفساد عمل الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج: 38].
عن أبي داود عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيمُ بيتٍ في رَبضِ الجنة لمن ترك المِراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُن خُلقُه)).