بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي الاثري حفظه الله :
مِن غُرَرِ دُرَرِ كلماتِ الإمام ابن قيّم الجوزيّةِ-رحمه الله- قولُهُ*:
لا يجتمعُ( الإخلاصُ في القلبِ، ومحبّةُ المدحِ والثناء) و(الطمعُ فيما عندَ الناس) إلا كما يجتمعُ الماءُ والنارُ والضب والحوت فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فاقبل على الطمع -أولا -فأذبحهُ بسكّينِ اليأس وأقبل على المدحِ والثناءِ: فازهَد فيهما زُهدَ عشّاقِ الدنيا في الآخرة فإذا استقام لكَ ذبحُ الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص فأن قلت وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح قلت أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنّه ليس من شيء يطمع فيه الا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه وأما ازهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنّه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمة ويشين الا الله وحده كما قال ذلك الأعرابي للنبي ان مدحي زين وذمي شين فقال :"ذلك الله -عز وجل -"*فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذمّ من لا يش*-تم الحذف. كلمة غير محترمة لا يسمح بها في هذا المنتدى-* ذمه وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه ولن يقدر على ذلك الا بالصبر واليقين فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب قال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ )) وقال تعالى : (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) السجدة:24.
هذه كلماتٌ عاليات،وإضاءاتٌ غاليات؛كنتُ قرأتُها للمرّة الأولى_قديماً جداً-قبل نحو رُبعِ قرنٍ من الزمان،وكان لها -وَرَبّي- أثَرٌ كبيرٌ في نَفسي؛تربيةً وجهاداً،وفقهَ نفس.
مع أنّ المعلومَ- بداهةً-عند كلِّ ذي نظر- أنّ النفسَ الإنسانية كثيراً ما تجمحُ على أصحابها،وتَجنحُ بأربابها؛مما يستدعي لها المزيدَ من الاهتمام! والكثيرَ من الإصلاح للتّمام!!
فاللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ...
ومن أجلِ ذا- لعلّه لعلّه!- يُجاهد الواحدُ فينا نفسَه، ويُناضلُ شيطانَه؛ كما قال ربُّ العالمينوَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت:69]؛كي تصْلُحَ أو يَنصَلِحَ...
لكن؛ يظهرُ لي- والله أعلمُ وأجلّ- أن ثمة فرقاً دقيقاً بين ( المدح) و(حبّ المدح) :
فالأول: بد لا يكون للشخص به صلّة -أصلاً وأساساً- ولو مع (الرِّضا) به-فرعاً وتَبعاً-.
وأمّا الثاني:فهو الآفةُ والبليّة ،الذي تتشوّف له النفوسُ غيرُ الغنية ؛والتي لا ينجو من سوادِها إلاّ القليلُ من البريَّة(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(يوسف: 53) .
ومن هذه البَابة-نفسِها- تفريقاً دقيقاً- قول الإمام ابن القيّم -نفسه- رحمه الله- في كتابه "الروح"(ص368) -مفرّقاً بين (التحدُّث بنعم الله)،و(الفخرِ بها)-؛قال :
"إن المتحدث بالنعمة مخبر عن صفات وليها ومحض جوده واٍحسانه فهو مثن عليه باٍظهارها والتحدث بها شاكر له ناشرا لجميع ما أولاه مقصودة بذلك اٍظهار صفات الله ومدحه والثناء وبعث النفس على الطلب منه دون غيره وعلى محبته ورجائه فيكون راغبا اٍلى الله باٍظهار نعمه ونشرها والتحدث بها.
وأما الفجر بالنعم: فهو أن يستطيل بها على الناس ويريهم أنه أعز منهم وأكبر, فيركب أعناقهم ويستفيد قلوبهم ويستميلها اٍليه بالتعظيم والخدمة قال النعمان بن بشير: اٍن الشيطان مَصَالِيَ* وفخوخا , وأن من مصاليه وفخوخه البطش بنعم الله والكبر على عباد الله ويفخر بعطية والله والهون في غير ذات الله ".
ولعلّ هذا الفَرق- الدقيق- يظهُر بصورةٍ أوضحَ ،وينكشفُ بمعنىً أفصح: في الأثر السلفيّ الذي علّقه الإمام البخاري في "صحيحه" (1-258) عن الإمام ربيعة أبي عبد الرحمن-رحمه الله-؛قال:
"لا ينبغي لأحدٍ عنده شيءٌ من العلم أن يُضَيِّع نفسَه".
وقد وصله الإمام البيهقي في "المدخل"(687).
ومِن معانيه-فيما ذكر الحافظ ابن حجرِ في "فتح الباري"(1-178)-:
"أن يُشهِر العالمُ نفسَه،ويتصدّى للأخذ عنه،لئلاّ يضيعَ علمُه"
ولكنَّ هذا الشأنَ-حقيق- يحتاجُ إلى رِقّةٍ عاليةٍ،وشفافيةٍ راقيةٍ،تنزع الواحد منّا من حَبسِ هواه،وترفعُهُ إلى رضى مولاه...
فهل من قادر؟!
وهل من مستطيع؟!
وأخيراً-وليس آخراً- كما يقال!-أنقل لنفسي،ولإخواني المحبّين ، الصادقين الواثقين:دعواتٍ رائقة؛رأيتها في ختامِ طبعة قديمةٍ من كتاب"فتح الباري بشرح صحيح البخاري"*(3-474)-وَعظاً وتذكيراً -فها هي ذي:
"إإلهي لو أردت إهانتنا لم تَهدِنا،ولو أردتَ فضيحتَنا لم تستُرنا، فتمِّم اللهمّ ما به بدأتَنا،ولا تسلُبنا ما بهِ أكرَمتنا.
إلهي : عرّفتنا بربوبيتك ، وغرّقتنا في بحار نعمتك ، ودعوتنا إلى دار قُدسك ، ونعمّتنا بذكرك وأنسك .
ِ
لهي : إنّ ظلمة ظلمنا لأنفسنا قد عمت ، وبحار الغفلة على قلوبنا قد طمت ؛ فالعجز شامل ، والحَصَرُ حاصل ، والتسليمُ أسلم ، وأنت بالحال أعلم
إلهي : ما عصيناكَ جهلاً بعقابِك ، ولا تعرُّضا لعذابك ، ولا استخفافا بنظرك ؛ ولكن سولت لنا أنفسنا ، وأعانتنا شقوتنا ، وغرنا سترك علينا ، وأطمعنا في عفوك برك بنا ؛ فالآن من عذابك من يستنقذنا ؟! وبحبل من نعتصم إن أنت قطعت حبلك عنا ؟!
واخَجلَتنا من الوقوفِ بين يديك !
وافضيحتنا إذا عُرِضت أعمالنا القبيحة عليك !
اللهمّ اغفر لنا ما علمت ، ولا تهتك ما سترت .
إلهي : إن كنا قد عصيناك بجهل ؛ فقد دعوناك بعقل ، حيث علمنا أن لنا ربا يغفر ولا يبالي .
إلهي : أنت أعلم بالحال والشكوى ، وأنت قادر على كشف البلوى .
اللهمّ يا من سترت الزلات ، وغفرت السيئات ، أجرنا من مكرك ، ووفقنا لشكرك .
إلهي : أتحرقُ بالنار وجهاً كان لك مصليا ، ولسانا كان لك ذاكرا أو داعيا ؟!
فارحمْ - اللهم ّ- عبادا غرَّهم طول إمهالِك ، وأطمعَهُم كثرة أفضالك ، وذلوا لعزك وجلالك ، ومدّوا أكفَّهم لطلب نوالك ، ولولا هدايتُك لم يصِلوا إلى ذلك )
... فاللهمّ ارزُقنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ،واجعلنا في عُيوننا صِغاراً،وفي عيونِ الناسِ كباراً.
و"رَحِمَ الله أمرءاً أهدى إليَّ عيوبي"
وأستغفرك -اللهمّ- من تقصيري وذنوبي...
((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ))[التوبة:105]
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
--------------------------------------------------------------------
*في كتابه العظيم"الفوائد"صـــــــــ421-422ـــــــــة "فوائد الفوائد"نسختي
*رواه الترمذي(3266)بسند صححه شيخنا-رحمه الله-
*مفردها:مَصْلاة،وهي:المصيدةوأثر النعمان:رواه البخاري في "الأدب المفرد"(553)،وحسنه شيخنا -رحمه الله-وقد روي مرفوعاً_ولا يصح-؛فانظر له:"السلسلة الضعيفة"(2463)
*طبعة بولاق،سنة(1301هـ) وانظر "طبقات الشافعية الكبرى"(8-200)
**نقلا من مجلة الأصالة العدد 46.
منقول من موقع الشيخ
منتصر