كانت لوالي الكوفة موسى بن عيسى تجربة سابقة مع القاضي شريك هي التي جعلته يقف هذا الموقف ويتوقف عن معارضة شريك في موضوع خادم الخيزران .
يحكي عمر بن الهياج بن سعيد أن امرأة من نسل الصحابي جرير بن عبد الله البجلي جاءت إلي شريك تستغيث به من ظلم الوالي موسى بن عيسى ، وتقول له : " كان لي بستان على شاطيء الفرات لي فيه نخل ورثته عن آبائي وقاسمت أخوتي وبنيت بيني وبينهم حائطا ، وجعلت فيه خادما يحفظ النخل ، فاشتري الأمير موسى بن عيسى من أخوتي جميعا وساومني على شراء نصيبي فلم أبعه ، فبعث خمسمائة رجل فهدموا الحائط فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئا واختلط بالنخل الذي كان ملكا لأخوتي واشتراه الأمير."
فنادى شريك غلاما كان عنده وأرسله برسالة إلى الأمير موسى بن عيسى يستدعيه إلى مجلس الحكم ليقف بجانب المرأة ، وذهبت المرأة مع الرسول إلى باب الأمير ، ودخل الحاجب على الأمير يخبره بالأمر ، فما كان من الأمير إلا أن استدعى رئيس الشرطة وقال له امض إلى القاضي شريك وقل له يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك ، امرأة ادعت دعوة لم تصح ، أتنصرها علي ؟ فقال له رئيس الشرطة : أرجو أن يعفيني الأمير من حمل هذه الرسالة فأنا أعرف القاضي ، فانتهره الأمير وأمره بحمل الرسالة إلى شريك ، فرضخ صاحب الشرطة للأمر، وأمر أعوانه أن يجهزوا الحبس بكل ما يلزم من فراش وطعام لأنه يعرف مقدما أن القاضي شريك سيأمر بحبسه ، وذهب للقاضي وأدى الرسالة فقال شريك للحاجب الواقف عنده: خذ بيده فضعه في الحبس فقال رئيس الشرطة : قد والله يا أبا عبد الله عرفت أنك تفعل بي هذا فجعلت في الحبس ما يعينني عليه.
ووصل الخبر إلى الأمير الوالى موسى بن عيسى فغضب وأرسل الحاجب إلى شريك يقول له : إن رئيس الشرطة كان رسولا إليك فلماذا حبسته ؟ فأمر القاضي بحبس الحاجب أيضا .
وعلم الأمير بالخبر فأرسل إلى كبار أهل الكوفة وأصدقاء شريك وشكا لهم ما فعل شريك وأرسلهم إليه وقال لهم : " امضوا إليه وأبلغوه السلام واعلموه أنه قد استخف بي وأني لست كالعامة " ، فجاءوا إلي شريك وهو جالس في المسجد بعد العصر فابلغوه الرسالة فلما انقضى كلامهم وتوسلاتهم قال لهم : مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس تكلمونني؟
ونادي على فتيان الحي وقال لهم ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من هؤلاء فيذهب به إلي الحبس ، ولابد أن يقضي الليل فيه ، فقالوا له : أتتكلم جادا، قال نعم ، حتي لا تعودوا برسالة ظالم ، فذهبوا بهم إلي الحبس ، وأحاط الخزي بالوالي فدخل فى تحدى القاضى الى النهاية ، فركب بالليل ومعه أعوانه إلى الحبس وفتح الباب وأخرج الجميع منه.
وفي الغد جلس شريك في المجلس كعادته ، فجاءه السجان وأخبره بما حدث ، فدعا شريك بأوراقه وختمها ، وذهب إلى داره واحتمل متاعه ، وتجهز لمغادرة الكوفة معتزلا القضاء وقال : والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن اكرهونا عليه ، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه حين تقلدناه لهم.
وسار شريك خارجا من الكوفة فبلغ القنطرة في طريقه إلى بغداد ، وعلم الوالي بما حدث فركب في موكبه فلحقه ، وجعل يناشده الله أن يرجع ويعتذر إليه ، فقال له شريك : لا أرجع حتى ترد الجميع إلى الحبس وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين استعفيه من القضاء ، فأمر الوالي بأن يرد الجميع إلى الحبس . وظل شريك في مكانه حتي جاءه السجان وقال : لقد رجعوا إلى الحبس ، فقال القاضي لأعوانه : خذوا بلجام الأمير وقودوه إلي مجلس الحكم ، فأخذوه من أمام القاضي .
وفى مجلس القضاء جيء بالوالي أمام القاضي في مجلس الحكم ، وطلب القاضي المرأة فجاءت ، فقال لها هذا خصمك قد حضر إلي جانبك ، فقال الأمير : أما وقد جلست أمام مجلس القضاء فأخرج أولئك الذين حبستهم قبل كل شيء ، فقال له القاضي: أما الآن فنعم ، وأمر بإخراجهم وقال للأمير : ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة عليك ؟ فقال الأمير : إنها صادقة ، قال القاضي : إذن ترد جميع ما أخذته منها وتبني حائطا في وقت واحد سريعا كما هدمته ، قال أفعل ، فقال القاضي : وتقول المرأة انك أخذت متاع خادمها فى البستان فقال الأمير : وأرد ذلك أيضا ، فالتفت شريك للمرأة وقال لها : هل بقي لك شيء تدعينه يا امرأة ، فقالت المرأة : لا. وجزاك الله خيرا. وقال القاضي للمرأة : إذا قومي يرحمك الله . بعد انتهاء المجلس قام شريك من مكانه وأخذ بيد الأمير وأجلسه معه وقال له : السلام عليك أيها الأمير ، أتأمر بشيء ؟ فضحك الأمير قائلا هل أنا الذي آمر؟
فقال شريك : أيها الأمير .. ذلك الفعل حقُّ الشرع .. و هذا القولُ الآن حقُّ الأدبِ .فقام الأمير و انصرف الى منزله و هو يقول: مَن عَظَّمَ أمرَ اللهِ أَذَلَّ اللهُ لَهُ عُظماءَ خَلقِهِ من المُلُوكِ
منقول