وَعيدٌ ووَعدٌ[1]
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]
قانون إلهيٌّ لا يتخلَّف، يقرِّره خالقُ الخَلق ومدبِّرُه، وإلهُ الكون ومالكُه، في قوله: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]؛ مبيِّنًا سُوءَ عاقبةِ الرِّبا في الدنيا بعد أن بيَّن عاقبتَه في الآخرة، ومبيِّنًا خيرَ عاقبةِ الصَّدقة في الدنيا بعد أن بيَّن عظيمَ أجرِها في الآخرة.
إنه العذابُ الأدنى قبلَ العذاب الأكبر لمُرتكِب كبيرة الرِّبا، والحسَنةُ المعجَّلة في الدنيا قبلَ الحسَنة المؤجَّلة في الآخرة للمُنفق المتصدِّق. فهو وعيدٌ ووَعدٌ في الدارَين.
أمَّا الوعيدُ فهو مَحقُ الرِّبا، أي محوُه وإزالتُه وإبادتُه، وإتلافُ ما حصل منه في الدنيا، (ومنه مُحاقُ القمَر، أي: ذهابُ نُورهِ ليلةَ السِّرار، وهي آخرُ ليلةٍ من الشَّهر)[2].
وأمَّا الوعدُ فهو إرباءُ الصَّدَقات؛ أي: الإخلافُ على صاحبها بأضعافٍ مضاعَفة في الدنيا قبل الآخرة. ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261].
وقد صوَّر لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه المضاعفةَ أجملَ تصوير إذ قال فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: ((مَن تصَدَّقَ بصَدَقةٍ من كَسبٍ طيِّب، ولا يَقبَلُ الله إلَّا الطيِّبَ، كأنَّها إنَّما يضَعُها في كفِّ الرَّحمنِ فيُرَبِّيها كما يُربِّي أحدُكُم فَلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ حتَّى تكونَ مثلَ الجَبَل))[3].
إن الرِّبا يمثِّل أقصى حالات الجشَع عند المُرابي؛ إذ يبتزُّ أخاه الإنسانَ مستغلًّا حاجتَه للقَرض والمال حين قرَضَه، ومقتنصًا من قُوْته وماله ما يستطيع اقتناصَه دون شفَقةٍ أو رحمة حين استرداده، لذا كان المَحقُ فيها عظيما، والعقابُ فيها جَسيما، في الدنيا والآخرة.
والصَّدَقة تمثِّل أرقى ما يمكن أن يصلَ إليه المرءُ من كرمٍ وجود وإيثار ونُبل؛ إذ يُعطي بلا مقابل، ويُنفق دون انتظار سدادٍ أو شكر أو عطاء، ولذا كان الإخلافُ فيها كبيرًا، والثوابُ فيها جزيلًا، في الدنيا والآخرة.
بقيَ أن يتأمَّلَ قارئُ الآية هذا الإبداعَ البلاغيَّ فيما يُسمَّى (جِناسَ الاشتقاق) بين الرِّبا ويُربي.
اللهمَّ طهِّر أموالنا من الرِّبا وغُباره، وزَكِّها بالصدَقات والمبرَّات والخيرات.
[1] كتبه: د. محمد حسَّان الطيَّان، أستاذ العربيَّة في الجامعة العربيَّة المفتوحة بالكويت، وعضو مراسلٌ بمَجمَع اللغة العربيَّة بدمشق.
[2] انظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور 3/ 91.
[3] السنن الكبرى، للنَّسائي 7 /155.
الالوكة