أهمية الكلمة وأثرها في الاسلام
إنَّ للكلمة أهميتَها في دين الإسلام، فقد ترفع صاحبها أعلى الدرجات، وقد تهوي به في النار دركات، ففي صحيح البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ».
بالكلمة رفع الله أقوامًا، وحط بها آخرين، بها عُدِّلَ من عُدلَ، وبها جُرحَ مَنْ جُرح، فبالكلمةِ يدخل العبد في الإسلام، وبها يخرج، وبها يفرَّق بين الحلال والحرام، وبها تنفَّذ الأحكام، وبها تُستحَلُّ الفروج، وبها تحرم، وبها يجلد القاذف، وبها ينطق الشاهد، وبها ينصر المظلوم، ويقتص من الظالم، وبها يُؤمر بالمعروف، ويُنْهى عن المنكر، وبها يقرأ القرآن، ويسبَّحُ الرحمن، وبها يجرح اللئيم، ويعدل الكريم، وبها تثبت الحقوق، وتُحقن الدماء، وبها تشتعل الحروب، وبها تتوقف، وبها يتم البيع وينفسخ.
بالكلمة خرج إبليس من الجنة، {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 33-35].
والكلمة التي يتفوه بها العبد نوعان: كلمةٌ طيبةٌ ؛ وكلمةٌ خبيثةٌ.
فالكلمةُ الطيبةُ: جوازُ سفر إلى القلوب، يهَشُّ لها السمع، وتُسر بها النفسُ، وينشرح لها القلب، فتُبقي فيه أثرَها الطيب، وتنشر فيه أريجها الفواح، وتؤتي أكلها كل حين؛ هي توثيق أواصر، وتقوية روابط، وتعزيز وشائج، ونشر وئام؛ ورضوانٌ من الله أكبر.
وبالكلمة الطيبة تنال مطالب الآخرة فهي أسهل طريق لجني الحسنات، ورفع الدرجات، وحط السيئات، ودخول الجنات.
بالكلمة الطيبة تحصل الرغبات كلها، فكم قربت بعيداً، ويسرت صعباً، وذللت عسيراً، وفتحت أبواباً، وعبدت طرقاً، وهيأت أسباباً، وبلغت غايات لا تبلغ إلا بشق الأنفس؛ يسيرة على المتقين، فقد نشرت في بحورهم شراعها، وألقت عليهم رياحها، فطابت بها صدورهم.
الكلمة الطيبة شجرة وارفة الظلال، مثمرة يانعة، ضربت في باطن الأرض جذورها، وتمددت في الآفاق أغصانها وفروعها؛ قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [إبراهيم: 24-25].
وهذه الشجرة أيضاً مثلها كالمؤمن، فهو ثابت في إيمانه، سامٍ في تطلعاته وتوجهاته، نافع في كل عمل يقوم به، مقدام مهما اعترضه من صعاب، لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلاً، معطاء على كل حال، لا يهتدي البخل إلى نفسه طريقاً، فهو خير كله، وبركة كله، ونفع كله.
والنوع الثاني: الكلمة الخبيثة؛ وهي بعكس ذلك، تمجها الآذان، ويظلم منها الوجدان، وتورد النيران، وتفرق الإخوان، كم أغلقت باباً، ووضعت حجاباً، وقطعت أسباباً، وفرقت أحباباً، وأسخطت الخالق، وأوردت المهالك، هي شجرة خبيثة، قريبة جذورها، قصيرة فروعها، مُرة ثمارُها، قد بلغ بها السُّوسُ كلَّ مبلغ؛ فلا تنتفع برِي ولا سَماد، كالوتد والحجر لا حياة فيهما؛ رآها صاحب البستان على ذلك الحال فاجتثها فهوت في النار تستعر، قال الله تعالى في شانها: { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ }[إبراهيم: 26].
وعلى هذا يكون المقصود بالمثل تشبيه المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح، بالشجرة المعطاء، لا يزال يُرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وفي كل صباح ومساء.
أما الكلمة الخبيثة، وهي كلمة الشرك -وما يتبعها من كلام خبيث- فهي على النقيض من ذلك، كلمة ضارة غير نافعة، فهي تضر صاحبها، وتضر ناقلها، وتضر متلقيها، وتضر كل من نطق بها،
وتسيء لكل سامع لها، إنها كلمة سوء لا خير فيها، وكلمة خُبْثٍ لا طيب فيها، وكلمة مسمومة لا نفع فيها؛ فهي كالشجرة الخبيثة، أصلها غير ثابت، ومذاقها مر، وشكلها لا يسر الناظرين، تتشابك فروعها وأغصانها، حتى ليُخيَّل للناظر إليها أنها تطغى على ما حولها من الشجر والنبات، إلا أنها في حقيقة أمرها هزيلة، لا قدرة لها على الوقوف في وجه العواصف والأعاصير، بل تنهار لأدنى ريح، وتتهاوى لأقل خطر يهددها؛ إذ ليس من طبعها الصمود والمقاومة، وليس من صفاتها الثبات والاستقرار، إنها شجرة لا خير يرتجى منها، فطعمها مر، وريحها غير زاكية، فهي شر كلها، وخبث كلها، وسوء كلها.
بخبث الكلمة خسر إنسان دنياه وآخرته، ففي سنن أبي داود، قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك. فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار». قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
فالكلمة الخبيثة من أسباب دخول النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» (رواه الترمذي.)
والفم المتلفظ بها يدخل صاحبه النار؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ[ السلسلة الصحيحة – الألباني ]
الكلمة الخبيثة قادرة على أن تنتن بحرا بأكمله لو مزجت به؛ فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ” يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا -كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ: لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ” [ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ]
أحبتي في الله: إن الكلمة بنوعيها تخرج من عضو واحد وهو اللسان؛ ويصبح اللسان طيبا أو خبيثا تبعا لما يخرج منه من كلام!! لأن اللسان آلة تستخدم في الخير والشر؛ وأن استعماله في الخير شكرٌ للنعمة؛ واستعماله في الشر كفرٌ بالنعمة.
قال جعفر : وكان يقرأ الكتب:” أن لقمان كان عبدا حبشيا نجارا ، وأن سيده قال له : اذبح لي شاة ، قال : فذبح له شاة فقال : ائتني بأطيبها مضغتين ، فأتاه باللسان والقلب ، قال : فقال : ما كان فيها شيء أطيب من هذين ؟ قال : لا ، فسكت عنه ما سكت ، ثم قال : اذبح لي شاة ، فذبح له شاة قال : ألق أخبثها مضغتين ، فألقى اللسان والقلب ، فقال له : قلت لك ائتني بأطيبها ، فأتيتني باللسان والقلب ، ثم قلت لك : ألق أخبثها مضغتين ، فألقيت اللسان والقلب ، قال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا .” ( مصنف ابن أبي شيبة )