عفة المرأة بين رَعْي الشريعة وجَنَف الزائغين
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ.... ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ.... ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا..... ﴾ [الأحزاب: 70].
أيها المؤمنون!
عيف الباطل واستهجانه سجية جبلت عليها النفوس؛ ولذا غدا من شأن المبطلين تلبيسُ باطلهم لبوس الحق، وتزويقُه بمسوحه؛ ليروج ذلك الباطل، ويُتقبل دون نفرة أو نُكرة. هذا، وإن قضية حقوق المرأة مما فحش فيه تلبيس الزائغين، واتخذوه مطيةً لبلوغ دنيّ المآرب. وحين يبزغ النور يخنس الديجور، وبإحراق الشهب تدحر الشياطين؛ وذلك ما يستحثُّ المنصفَ على معرفة منهج الخالق في خلقه؛ إذ هو الأعلم بمن خلق وما يُصلحه، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، ويُدرِك به زيف قول كل من حاد عنه. وإن المتأمل في هداية الشريعة ليوقن جازماً أن صيانة المرأة وحسن رعايتها من أجلِّ مقاصد الشريعة الغراء؛ وذلك لما جُبلت عليه من ضعف بشري، وما لصلاحها من أثر بالغ على صلاح المجتمع، وهكذا فساده إن هي فسدت.
عباد الله!
إن اقتران الرعاية بالمرأة في الإسلام مبتدأ بوجودها، وانظر كيف رغّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صون تلك الرعاية إذ يقول: " من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن؛ كن له ستراً من النار " رواه البخاري ومسلم، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كُنَّ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ يُؤْوِيهِنَّ وَيَرْحَمُهُنَّ وَيَكْفُلُهُنَّ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ أَلْبَتَّةَ ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: " وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ". قَالَ: فَرَأَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ لَوْ قَالَ: وَاحِدَةً، لَقَالَ: " وَاحِدَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وقال الهيثمي: إسناده جيد. ومن أجل معالم رعاية الإسلام المرأةَ إحاطةُ عفتها بحمى منيع وسياج رفيع لا تبلغه أيدي تبّاع الشهوات إن هو صين؛ إذ فَرض عليها الحجاب الضافي الساترَ للبدن الخاليَ من دواعي الفتنة، وزجَرها عن إبداء الزينة لغير المحرم، وجعل اللعن جزاء تشبهها بالرجال، ووَصَفَها بالزنا إن مرت متعطرةً بين أجانبهم، ومنَعها من الخضوع بالقول وتليينه، ونهى عن الخلوة بها، وحظَر الدخول عليها والسفر دون محرم قادر على صيانتها، وأمرها بالقرار في البيت، وجعل صلاتها في دارها أفضل من صلاة المسجد وإن كان البيت الحرام، واشتَرط عقدَ الولي المرشد لصحة نكاحها، وجعل القوامة بيد الزوج، ومنعها من تولي الولايات العامة كالإمارة والقضاء.
عباد الله!
ألا وإن من أمنع وسائل الشرع المطهر في صيانة عفة المرأة زجرَها عن الاختلاط بالرجال الأجانب وإن كان المجمَع فرضاً مؤدّى، قال أبو أسيد الأنصاري - رضي الله عنه -: "سمعت رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ: « اسْتَأْخِرْنَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ »، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِه " رواه أبو داود وحسنه الألباني. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ: أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ وَالطَّوَاعِينِ الْمُتَّصِلَةِ. وَلَمَّا اخْتَلَطَ الْبَغَايَا بِعَسْكَرِ مُوسَى، وَفَشَتْ فِيهِمْ الْفَاحِشَةُ، أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ الطَّاعُونَ، فَمَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفَاسِيرِ. فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ كَثْرَةُ الزِّنَا بِسَبَبِ تَمْكِينِ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ، وَالْمَشْيِ بَيْنَهُمْ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَجَمِّلَاتٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَوْلِيَاءُ الْأَمْرِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الدُّنْيَا وَالرَّعِيَّةِ - قَبْلَ الدِّينِ - لَكَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ مَنْعًا لِذَلِكَ " أهـ. ولا غرو في ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم -يقول: " ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء " رواه البخاري ومسلم، ويقول: « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ » رواه مسلم. والأمر المعتاد عقلاً: أن الشيء كلما زاد قدره زيد في حفظه وصيانته، سيما عمّن له هوى فيه. ذلك يقال والحرجُ لاحقٌ كلَّ من ضيّع حق الضعيفة أو استغل ضعفها في مآرب السوء، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللَّهُمَّ إِنِّي أحرج حق الضعيفين الْيَتِيم وَالْمَرْأَة " رواه ابن ماجه وصححه الحاكم.
أيها المسلمون!
إن المتأمل في تلك الهداية الربانية الصائنةِ عفافَ المرأة ليدرك - من غير ريبة أو مواربة - فدحَ انحراف الناكصين عن ذلك النهج الإلهي، ممن تشدّق - زوراً وبهتاناً - بنصرة المرأة والمطالبة بحقوقها في دعاوى براقة، وحملات مسعورة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لم تتعدَ قصد الابتذال ونزع الحياء وتهوين الاحتشام بغية تغيير تركيبة المجتمع الدينية بذرائع تنطف خبثاً ومكراً؛ فأقحموا المرأة في العمل المختلط بالرجال بحجة القضاء على البطالة وإن كانت حالبة بقر أو (سكرتيرة) لمدير شركة أو مسوِّقة لبيع سيارة أو (نادلة) في مطعم أو مذيعة لنشرة أخبار، ذلك وبطالة الرجل لم تحلّ بعدُ وهو المكلف بالنفقة، وبطالته أظهر حالاً وأخطر أثراً. وطنطنوا حتى أصاخوا المسامع بضرورة قيادة المرأة السيارة بزعم حمايتها من التحرش ولم ينبسوا ببنت شفة عن كشف عورتها المغلظة للطبيب حين تُعْوَزُ الطبيبة، أو ينطقوا بإنكار حوادث التحرش المتنامية على البائعات من قبل بعض من يعمل معهن من الرجال أو يشتري. وأجلبوا على رياضة المرأة ومشاركتها في (المونديالات) العالمية بذلك المصطلح المظلوم " وفق الضوابط الشرعية " بذريعة حفظ الصحة وما وجدنا لهم مطلباً برعاية حشمتها طباً ودواءً. واستغلوا بعض الممارسات المنكرة في تعنيف المرأة ذريعةً لإظهار حسن النوايا في المطالبة بالحقوق المفتراة. وأخذوا من الخلاف الفقهي وشاذ القول وفتوى الزائغين ما يتفق مع مآربهم ؛ لتكون هي المسحة الشرعية؛ ذراً للرماد في عيون الدهماء. حملات محمومة، تسعّر بأقلام مأجورة، وحسابات مأفونة، ونفوذ مشبوه، تستغل فيه الحاجة، وتستدر له العواطف، وتسطّح فيه البصائر. ويبقى - بعد ذلك - طهرُ المجتمع وعفافُه الفيصلَ بين ما يريده الله وما يريده هؤلاء كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27]، وتغدو أفعال القوم ودوافعها ومآلاتها هي الحقيقة الناطقة التي تفضح زخرف قولهم وتعرّي خطله؛ فالله لا يصلح عمل المفسدين.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون!
المرأة ميدانٌ رحبٌ لاحبٌ لسلامة المجتمع وتقوية دعائمه وإعداد بُناته وروّاده، ولن يكون ذلك إلا بلزوم أمر الله القائم على البناء والحماية؛ فتبنى المرأة بناءً تربوياً متكامل الجوانب مذ نعومة أظفارها: في الإيمان والعلم والخلق والسلوك والحشمة والوعي والمسوؤلية الخاصة بها، من قبل المنزل والمدرسة ودور التربية ومعاقل العلم والرعاية والتوجيه، وفق برامج مدروسة وتجارب ناجحة تخضع للتقييم الدوري والتطوير. وأما الحماية، فتُحقَّقُ بالتوجيه الرشيد المقنع بالتنائي عن ما ينقص الإيمان ويخدش الحياء ويزري بالحشمة في اللباس والسلوك والكلام واستخدام التقنية. ومما تقتضيه تلك الحماية فضحُ خطط التغريب في المجتمع، والردُ على شبهه، وكشفُ عواره وتناقضاته ومآربه، والتواصلُ مع ولاة الأمر من الأمراء والعلماء في مواجهته والأخذِ على يدِ سفهائه، والعملُ الجاد المؤسس في بناء الحصانة الفكرية للمجتمع من تشرّب سموم أفكار التغريب التي اشتدت حمأتها هذه الأيام. وما أجمل تلك العبارة التي سطرها غيور من ذوي العقل والخبرة إذ يقول: " أدرك الغرب بأن تفكيك التدين في الجزيرة العربية يأتي من خلال ملف المرأة ".
منْ لي بتربية النساءِ فإنَّها
في الشرق علَّةُ ذلك الإخفاق
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
الأم روضٌ تعهّدهُ الحيا
بالريّ، أورقَ أيّما إيراق
الأمُّ أستاذُ الأساتذةِ الألى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
أنا لا أقولُ: دعوا النساءَ سوافراً
بين الرجال يجلنَ في الأسواق
يدرجنَ حيث أردنَ، لا من وازعٍ
يحذرن رَقْبَتَهُ، ولا من واق
يفعلن أفعال الرجال لواهياً
عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهنّ شؤونهنّ كثيرة
كشؤون ربّ السيفِ والمزراق
كلاّ، ولا أدعوكم أن تسرفوا
في الحجبِ والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكمُ حلياً وجوهراً
خوفَ الضياع تصانُ في الأحقاقِ
ليست نساؤكمُ أثاثاً يقتنى
في الدُّور بين مخادع وطباق
تتشكَّلُ الأزمانُ في أدوارها
دولاً، وهنَّ على الجمود بواق
فتوسَّطوا في الحالتين، وأنصفوا
فالشرُّ في التقييد والإطلاقِ
ربُّوا البنات على الفضيلةِ، إنّها
في الموقفين لهنَّ خير وثاق
وعليكمُ أن تستبينَ بناتُكم
نورَ الهدى وعلى الحياءِ الباقي
المصدر
موقع الالوكة