لا أحب الآفلين
قالها الخليل إبراهيم عليه السلام في معرض محاجّة قومه معلنًا براءته من الإقرار بالعبودية لمن شأنه الأفول وهو الغياب، وهنا مثار استشكال ، تقريرُه أنّ مشتبهًا يقول:ولكنّا لا نرى الله عز وجل فهو غيبٌ عنا، فما وجه اعتراض الخليل بالأفول في هذا السياق ؟
إنه لا يقول إمام الحنفاء خليل الله إبراهيم عليه السلام مثل هذه المقالة إلا وقد امتلأ وجدانه بمعنى الشعور التام بحضور الرب عز وجل في المشهد الوجودي وانتفاء أفوله ، بل هذا الإعلان منه في سياق المناظرة دليل على أن الخصم محجوج بمثل هذا القول ، وهو ما أسعى لبيان طرف منه في هذا المقال على سبيل الإجمال إن شاء الله تعالى :
أولا- ينبغي أن يعلم بأن هؤلاء المشركين لم يكونوا يعتقدون في هذه الكواكب أنها أربابٌ تخلق وترزق، وكذلك عامة المشركين لم يظنوا في معبوداتهم أنها متصفةٌ بصفات ربوبية .
وإنما كانوا يصرفون لها شيئًا من العبادة ويقولون "هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فيصرفون لهم شيئًا من مسمّى العبادة ليقربوهم - بزعمهم- إلى الله زلفى، فأراد إبراهيم عليه السلام التنبيه على أن الإله المستحق للعبادة ليس من صفته الأفول ، وإنما يأفل كل معبود سواه لكونها من جملة المسخّرات بأمر من لا يأفل ، (وبه تعلم فساد قول من يقول إن المرء لا يكون مشركًا أو لا يكفر إلا إذا اعتقد شيئًا من معاني الربوبية في هذه المعبودات من دون الله تعالى )
وفي كون الله جل ثناؤه انتفى عنه وصف الأفول ما يقتضي الدلالة على المعيّة العامة، فالله تعالى شاهدٌ علينا، حفيظ ومشهود وجوده منّا ، وهذا يعني أنه حيثما وجهت بصرك، انطلاقًا من نفسك، أو غائصًا في أعماق الذرة، سابحًا في ذُرى الفضاء الفسيح والمجرة، فسوف يكون شهودك آثار صنع الله وحكمته في كل لحظة من لحظات هذه الرحلة المهولة على نحو لا يمكن تكلّف دفعه عن النفس أصلًا ، بحيث لو قُدِّر لامرئ أن يجمع هذه الآثار في سياق واحد، لكانت أبلغ بمفاوز لا حدّ لها، في الدلالة على صانعها من دلالة الشمس -في رابعة النهار-، على النهار، بل أعظم من دلالة الحس على نفس وجود الشمس .
وفي كل شيء له آيةٌ ، تدل على أنه واحدُ
نعم في كل شيء ، ! هذا عموم مطلق لا يُستثنى منه شيء ، وهو من أسرار إجماع الأمم على هذه القضية الوجودية الكبرى، أعني وجود الله نفسه، فإنه لا يعلم عبر التاريخ الطويل من كان يجسر على إنكار وجود الرب –هكذا!- إلا شُذّاذًا من الناس، لو تأملت في أحوالهم في القديم والحديث ،تجد مقالتهم على سبيل المكابرة المفضوحة، على حد ما قال فرعون "أنا ربكم الأعلى "
ومع كون هذه قضية ضرورية لا تحتاج إلى إعمال نظر أصلًا، مركوزة في العقول من قِبل الرب جل وعلا، إلا أن المرء العاقل لو جال بفكره، في أي شيء من الكائنات، لانتهى به التحليق الفكري إلى مزيد يقين كل مرة ، لو فتش في عالم النمل، أو النحل، لو نظر في الكواكب، والنجوم، لو حدق في أنواع النبات، في عالم البحار ، في أنواع الدواب والهوام في كل كائن حي من خلية الأميبا إلى الحوت الأزرق، وهو يتكلف استنطاق عقله بعكس هذا الإيمان الضروري الفطري، فسوف يرتد خاسئًا، فلا يزيده إلا شعورا بحجم المكابرة ، كلما أمعن في مغامرة الإنكار ، لا من جهة إدراك العقل لمبدأ السببية الضروري فحسب عبر ملاحظة نشأة هذه الموجودات بعد إذ لم تكن، بل من جهات عديدة للغاية عند التأمل في الأنساق المختلفة، على مستوى كل فرد، ثم على مستوى كل نوع وما بينها من علائق مصنوعة على عين الحكمة والقصد الغائي لزومًا حتميًا، وغير ذلك مما لا يحده بيان مقتضب.
الأول: هو المشاهدة بالحس، وهذا قد دل الشرع على انتفائه في الدنيا كما في واقعة موسى عليه السلام حين سأل ربه فقال {رب أرني أنظر إليك } وكان الجواب الإلهي: {لن تراني }.
ومن الحكمة في ذلك –والله أعلم -أن الله لو كان يُرى لما كان في إيمان المؤمن كبير مزية، بل كان شيئا قهريًا لا اختيار فيه، ولعل هذه النكتة في غلق باب التوبة عند ظهور الأشراط الكبرى كما ثبت الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) فلا محمدة لهم في الإيمان حينئذ.
والثاني: معاينة الآثار، وهي هنا لا تحدّ بحدّ ولا تحصى بحاصر ،، على مدار الزمان في عالم الأحياء من الجين الكامن في الشريط الوراثي في نواة الخلية، إلى أكبر عضو وظيفي معقد في الإنسان، مروراً بأنواع الكائنات الحيّة من وحيد الخلية إلى أعظم شيء بسطةً في الجسم ، وفي عالم الأفلاك العلوية، والكواكب والنجوم، إلخ
ولما كان هذا المعنى مركوزا في عمق الفطرة الإنسانية، ترى أن جميع من يوصف بعقل وإن قل كائنا ما كانت نحلته، تراه إذا وقع في هول عصيب، فزع القلب منه إلى الرب، وكان كالآلة التلقائية المبرمجة على نمط معين حال حدوث شيء معين { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } (العنكبوت:65)، {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} (يونس:22).
وهذا إدراك عميق بانتفاء الأفول عن رب العالمين لأن الإنسان في وقت الشدة إنما يلجأ للركن الوثيق بعد أن تتلاشى في مدركاته كل الزيوف، ويبقى الأصل الأصيل الراسخ في وجدانه يبين عنه في لحظات اشتداد أتون المحن.
ومعنى هذا أن الرعاية التامة والقيوميّة الكاملة إنما تأتى في حس العقلاء أن يوصف بها : شيء وراء هذا الكون المنظور ولا ينقطع عن هؤلاء العقلاء مرجل الأفكار الدالة على الرب مع كل أثر من الآثار، فهم يبصرون عياناً أن هذه الخلائق مدبّرة مسيّرة، ولا يحتاج إدراك هذا لإعمال نظر أصلًا ، يرون تعاقب الليل والنهار، وتصاريف الأحوال على أنساق نظامية تنافي مفهوم العبثية، مما يعني يقينا أن هناك مهيمنًا وراءها يحوطها بالعناية، فلو أنه قدر جدلا أفوله لاندثر الكون وتلاشى إلى لا شيء في اللحظة التي يأفل فيها !
وأقل ما يقال في ذلك إن العقل البديهي يدرك أن الشيء إما أن يكون مستغنيًا بنفسه، أو مفتقرًا إلى غيره، ولا واسطة بينهما، فلما عاينوا بداهة أن كل ما حولهم لا يقوم بنفسه بل هو خاضع لنظام، كان نفس هذه الخلائق هي هي في كل تفاصيلها وتقلّباتها وأحوالها أدلة مشيرة إلى القيّوم عليها ، ويكفي في تصور هذا المعنى ضرب مثل مصغر :
تأمل كرةً يحملها إنسان بيده، فإنه في الوقت الذي يغيب فيه هذا الحامل عن الوعي، يسقط فتسقط الكرة من يده عند سقوطه، بعد إذ كانت محفوظة بحمله إياها ! فلو صعّدت المثال وتصورت نظاما فلكيًا صغيرًا مصنوعًا في معمل، يضاهي المجموعة الشمسية، على نفس طرازها، وحركاتها، فأنت تدرك أن المحركات المركبة، والبرامج المدخلة لتحريك هذه المنظومة وفق خطة سير مرسومة، إنما يستند على شيء ذي وظيفة تحكّم، فإذا غاب مدير التحكم عن وظيفته، بطل النظام وفني كل ما فيه من حركات متعلقة بإدارة التحكم
ومن هنا تعلم السر أن لم يكن من الأغراض القرآنية العناية بإثبات وجود الباري سبحانه على طريقة التراتيب البرهانيّة، لأن القرآن موضوع لمخاطبة من يصلح للمخاطبة، ممن اشتملوا على مسكة من عقل أو ذرة من فهم، وهؤلاء لا يَرِد على عقولهم قضية الوجود الإلهي من أصلها لكونها ركيزة جوهرية وأصل أصيل من نفس معنى العقل والفطرة.
أبو القاسم