لن تبعدني معصيتي
أنا أتوب ثم أعود!.. أنا منافق! .. عجزت عن مقاومة المعصية! .. أخشى أن أنسلخ من ديني بسبب ذنوب الخلوات! ما الحل؟
كم تحمل صناديق رسائل الوارد -في البريد الشبكي أو في الجوال- أمثال هذه الكلمات من فتية وفتيات آمنوا بربهم، لكن تغلبهم نفوسُهم فيقعون قيد المعصية، فيحيل الشيطانُ أجواءَهم سوداءَ قاتمة، تفوح فيها رائحة الذنب، ولا تَهِبُّ فيها نسائمُ مغفرة الله الواسعة.
ولا ريب أن استعظام الذنب علامة إيمان، والاستخفاف به علامة ضعف.
والخطيرُ في هذا الباب هو أن الشيطان يدخل على قلوب كثيرٍ من هؤلاء الشبيبة من باب تعظيم الذنب، لا ليعينهم على التوبة -فهذا ما لا يريده الشيطان- بل ليعزز في قلوبهم الانقطاع عن مجالس الذكر، والصحبة الصالحة؛ بحجة أنهم منافقون! وأن مظهرهم غيرُ مخبرِهم! وهي في الحقيقة حيلة شيطانية يريد منها إبليسُ أن تكون جسراً لمفارقة أصدقائه الصالحين، وسبباً لتبرير المعصية، التي لن تتوقف عند الصغائر، بل ستجره إلى ما هو أعظم منها.
والمتأمل في هذه الذنوب -التي يضخّمها الشيطان في نفوس هؤلاء الفتية والفتيات- يجد أن غالبها من الصغائر، وحين يقال هذا، فليس هذا تهويناً من ارتكابها قطعاً بل لتُوضَع الأمور في موضعها الصحيح، فإن الخلل في تقدير مراتب الذنوب، ومعرفة منزلتها في الشريعة؛يؤدي إلى نتائج وخيمة، وكم جرّ تضخيمُ بعض الذنوب فوق حجمها الذي جاءت به الشريعة إلى عواقب سيئة الأثر على هؤلاء النشء!
والذي ينبغي أن نحذره -معشرَ الدعاة والمربين- أن نضع المعصية فوقَ قدرها الشرعي، فننقلها بطريقة حديثنا -من حيث نشعر أو لا نشعر- من الصغائر إلى الكبائر، تماماً كحذرنا من التقليل من كبيرة من الكبائر، وكأنها من أخفّ الذنوب، فإن كلا الأمرين داخلٌ في القول على الله بغير علم، الذي هو من أكبر الكبائر.
ولعل بعضَ الفضلاء يحتج بأن تعظيمَ أمرِ الصغائر يغلِقُ باب الكبائر؛ فالصغيرة تؤدي إلى الكبيرة غالباً! والواقع أن هذا -مع كونه ليس منهجاً شرعياً- فله أثرٌ سلبي في تئييس العبد من التوبة، وقطعِ خط الرجعة، وإغلاق باب الأوْبة، ومفارقة الصحبة الصالحة -وهو كثير لا يكاد ينفك عنه كثير من هؤلاء الشباب-.
كما أن تعظيم الصغائر يقود -بعد الوقوع فيها- إلى الولوغ في الكبائر دون ألم داخلي، أو تأنيب ضمير!
والذي ينبغي أن نُربي عليه أنفسَنا ومَن تحت أيدينا، يمكن تلخيصه في أمور، هي:
1/ تعظيمُ الله وتوقيره، والحذرُ من المعاصي صغيرها قبل كبيرها، وأن تكون الهيبة من المعصية عملاً لا يفارق القلوب، كما قال بلال بن سعد: «لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر مَنْ عصيتَ»([1])، فالحياء من اطلاعِ الله عليه حالَ المعصية من أعظم العواصم عن المعصية.
وهذا الحياء ناتج "عن المعرفة بعظمة الله وجلاله وقدرته، لأنه إذا ثبت تعظيمُ الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله،والهيبة له؛ فغلب على قلبه ذكرُ اطلاعِ اللهِ العظيمِ ونظرهِ بعظمته وجلاله إلى ما في قلبه وجوارحه، وذِكْرُ المقامِ غداً بين يديه، وسؤاله إياه عن جميع أعمال قلبه وجوارحه، وذكرُ دوامِ إحسانه إليه، وقلةِ الشكرِ منه لربه، فإذا غلب ذِكرُ هذه الأمور على قلبه؛ هاجَ منه الحياء من الله، فاستحى من الله أن يطّلع على قلبه وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه، يتحرك بما يكره، فطهّر قلبَه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه"([2]).
ومن وُفِّق لهذه الحال؛ سهل عليه ترك المحرّم، وتكّدر من الزلل، بل وجدَ للطاعة لذةً تجعله يحزن لفواتها إذا كانت مستحبةً، فكيف إذا كانت فريضة! لكنها تحتاج إلى جهادٍ ومجاهدة، وصبرٍ ومصابرة، ومَن فعل ذلك، فإن النتيجة الحتمية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت: 69].
2/ أن نبادر إذا وقعنا في الخطأ -وكلنا ذو خطأ- للتوبة، فهذا شأن مَن وعدهم الله تعالى جنةً عرضها السماوات والأرض: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين﴾[آل عمران: 136].
3/ أن وقوعنا في الخطأ لا يبرّر مفارقة الصحبة الطيبة، التي لو لم يكن منها إلا أنها تزهّد في المعصية، بخلاف صحبة السوء الذين يزينونها في النفس، ويهوّنونها.
4/ الخوف من عقوبة الله تعالى، فإن المتأمل في نصوص القرآن والسنة -مع كثرة ما فيهما من نصوص الرجاء- يجدهما مليئين بذكر العقوبات على المعاصي؛ لئلا يتّكل الإنسانُ، ولا ييأس، بل يعيش في توازن، يجمع بين الرجاء والخوف.
إننا نبقى بشراً نتقلب بين تلك الأنفس الثلاث: الأمّارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة، فإذا كنا غير معصومين من الأولى، فليكن لنا نصيب كبير من الثانية، لعلنا ننتقل بعدها إلى النفس الثالثة، عسى أن نسمع هذا النداء المحبب للنفوس: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[الفجر: 27 - 30].
الدكتور عمر المقبل
([1]) السنن الكبرى للنسائي رقم(11854).
([2]) تعظيم قدر الصلاة، للإمام محمد بن نصر المروزي (2/ 825).