ثه ايام من العزلة بقلم يحيي السيد
من منّا لم يسمع برائعة غابرييل غارسيا ماركيز (مئة عام من العزلة)؟!.. هذه الرواية التي حقَّقت واحدة من أعلى نِسَب المبيعات في العالم في تاريخ الأدب، وطُبِعَ منها حوالي ثلاثين مليون نسخة، ولا زالت حتى اليوم تُطبَع بعدة لغات؛ لأنّها حقَّقت من التفرُّد ما يجعلها مطلوبة بصورة كبيرة، على الأقلِّ عند الأجيال التي احتفظت ببعض الاحترام تجاه القراءة!
بقلم: يحيى السيد عمر
الرواية -لمن لم يقرأها- تتحدث عن قرية خيالية نائية في كولومبيا تدعى (ماكوندو)، كانت شِبْه معزولة عن العالم لحوالي مئة عام، وتناول فيها الروائي قصة عائلة من خلال ستة أجيال من أبنائها، لكن هذا ليس ما أريد التحدث عنه هنا، وإنّما ما يهمِّني هو العنوان (مئة عام من العزلة).
فقد شغلني هذا الأمر في عطلة الأسبوع الماضية، وأنا أسمع هاتفي الجوّال يرنّ في الساعة الواحدة خمس مرات، وحاسوبي يخبرني كل مدة بوصول رسالة إلكترونية، وصوت التلفاز يملأ أرجاء المنزل بأخبار الكوارث الطبيعية والانقلابات العسكرية، وضحايا الحروب والتفجيرات، وانهيار البورصات.
في لحظة من تلك الفوضى، توقفت قليلاً مع نفسي أحلم بلحظة هدوء، دخلت غرفتي وأغلقت الباب بعد أن تركت كل أدوات التواصل مع الخارج.
تملّكتني لحظات الهدوء والسكينة التي خلقتها لنفسي بنوع من الهروب الجميل، وفكّرت: هل يستطيع إنسان هذا العصر أن ينعم بعطلة أسبوع هادئة؟!.. بثلاثة أيام من العزلة؟!
هل يستطيع الهروب من كل تلك الفوضى والضوضاء التي تسمَّى تواصلاً مع العالم؟
قد يجد بعضنا هذا الكلام غريباً، ولاسيّما أنّ بعض المهن لا تعرف أيام عُطل أو إجازات، بل على العكس، قد يستغلّ بعض الأشخاص أيام العطلة لقضاء أعمالهم وتسييرها حين لا تُتاح لهم فرصة إنهائها أثناء الأسبوع.
أمّا أنا فأصبحت أدرك أنّ الإجازة حقّ وليست هبة، وأنّ التمتّع بهذا الحق شيء جميل جداً، وخاصة في هذا الزمن المتسارع المليء بالفوضى.
صارت السكينة حلماً، والهدوء مطلباً لكلّ شخص يعيش في مدينة، وربّما يكون هذا ما يدفع كثيراً من الناس إلى الهروب باتجاه الصحراء أو الأرياف لقضاء وقت هادئ وهانئ في أحضان الطبيعة، رغم أنّ بعض مخرّبي المتعة استطاعوا تحطيم الهدوء بالدرّاجات الصحراوية رباعية العجلات، أو بتلك الجبلية ذات الصوت الهادر، ناهيك عن سيارات الدفع الرباعي، وصخب الحفلات، ومكبرات الصوت.
إنّ كل واحد منّا -نحن الغارقين بين أكوام الأعمال- في حاجة إلى (استراحة محارب) يشعر فيها ببعض العزلة عن ضجيج العالم، ويصفِّي ذهنه ويخلو مع نفسه للتأمل بحياته، ليعيد ترتيب أوراقه وجداول أعماله، وحتّى صحّته وأوقات فراغه وتسليته.
والغريب أنّ كثيراً من الناس يدفعون المال مقابل جلسات اليوغا فقط من أجل الوصول إلى صفاء الذهن والقدرة على التأمل، بينما يستطيع من يمتلك الإرادة الكافية تحقيق ذلك من دون معلّم ومن دون جلوس على بساط وسط غرفة مضاءة بالشموع العطرية..!
إذ إنّ ساعة واحدة في سكون الصحراء، أو هدوء الريف، قادرة على إنعاش العقل والروح والجسد، فالبعد عن الهواء الملوّث بعوادم السيّارات وضوضاء الحياة الصاخبة ينقِّي هؤلاء الثلاثة بأفضل الطرق.
فلعلَّ العزلة التي قتلت خلال مئة عام أهل (ماكوندو) في رواية ماركيز، هي ذاتها التي تعيد لنا الحياة في ثلاثة أيام..!