في مواجهة اقتصاد سوقٍ تُطوِّقه الأزماتُ، ودولةٍ تُقِرُّ أنها لا تستطيع أن تفعل لوحدها كل شيء حيالَ المزيد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، تطرح ريادة الأعمال نفسها كحلٍّ اقتصادي ومشروع مجتمعي قابل للتطبيق، شرطَ الالتزام ببذل الجهد، ونهج سبل التطوير، والبحث عن التميز أيضاً، والتي تُشَكِّلُ أَهَمَّ السمات المميزة لريادة الأعمال.
بقلم: يحيى السيد عمر
وفي الحديث عن مميزات ريادة الأعمال، تلتقي وتتفاعل روافد معرفية وسلوكية واجتماعية عدة؛ حيث يَصُبُّ المفهوم والممارسة والمحطات التاريخية أيضاً في صُلْبِ تعريف وتحليل عناصر الموضوع.
ريادة الأعمال.. النشأة والمفهوم:
دشَّنَ مفهوم الريادة ظهوره الأول في اللغة الفرنسية مع مطلع القرن السادس عشر؛ حيث تضمَّن مفهوم المخاطرة وتحمُّل الصعاب الذي طَبَعَ الحملات الاستكشافية العسكرية خلال تلك الفترة.
وَتَبِعَ ذلك وُلُوجُ مفهوم الريادة إلى النشاطات الاقتصادية في مطلع القرن الثامن، من قبل ريتشارد كانتلون Richard Cantillon، الاقتصادي ورجل الأعمال الفرنسي من أصل إيرلندي (1680- 1734)، الذي أطلق وصف الريادي على التاجر الذي يشتري سلعاً بثَمَنٍ محدَّدٍ ليُعِيدَ بيعها في المستقبل بسعرٍ لا يعرفه، مع ما يترافق ذلك من رُوح المخاطرة والمغامرة، التي بَقِيَتْ بعد ذلك ملازمةً لمفهوم الريادة في مختلف المجالات.
وقد تميزتْ الفترة من نهاية السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات ببزوغ دور الريادة الإدارية في بعض الدول الغربية، فظهرت العديد من المشروعات الجديدة خلال تلك الفترة، كما ظهرت علامات تجارية شهيرة، استطاعت احتلال مكانها في عالم الأعمال، مثل شركتي آبل، ومايكروسوفت العملاقتين.
ريادة الأعمال.. النموذج الياباني:
لا يخفى على أحدٍ أن ريادة الأعمال تُعتبر المحرِّك الرئيس لهذا التسارع في التقدم التكنولوجي والسلعي والخدمي، والانتشار السريع لهذا النمط الطلائعي من إدارة الأعمال والمال، خاصة في دولة رائدة مثل اليابان استطاعت عَبْره تجاوز جراح الحرب العالمية المُثْخَنَة، مما أَدْهَشَ كثيراً من الدول الغربية، وجعَلَها تَحْذُو نفس الحذو في الإنتاج والابتكار.
ويشير أحد المهتمين في هذا الصدد، إلى أن إدارة اليابانيين لاقتصادهم المبني على جودة المنتوج، وتفوق التكنولوجيا ضِمْنَ لهم مركزاً تنافسياً متقدماً في أسواق الدول المتقدمة نفسها، بل تمكَّنُوا من اجتياحها بنجاح، بمنتجات مثل صناعات السيارات، أجهزة الاتصال، الساعات، والإلكترونيات الدقيقة وغيرها، مما أثار قلق أرباب المشاريع ومدراء منظمات الأعمال في تلك الدول، ودفَع الباحثين الأكاديميين وكليات إدارة الأعمال إلى التعمُّق في خبايا التجربة اليابانية الفريدة.
وفي ضوء ذلك صدرت منذ عام 1980م عدةُ بحوث ومقالات وكُتُب تتناول أسباب نجاح وفاعلية الريادة اليابانية في الأعمال.
ريادة الأعمال.. الجهد المغموس بِالْعَرَقِ:
يقول راي كروك Ray Krocمؤسس شركة ماكدونالدز الأمريكية الشهيرة: الحظ مقسوم من العَرَق، كلما عَرَقْتَ أكثر كلما كنت محظوظاً أكثر”، وبالتالي فالجهد المبذول في العمل والاجتهاد يُعَدُّ أحد العناصر الأساسية في ريادة الأعمال، وأيضاً من ضمن مميزات روّاد الأعمال الذين يثابرون ويكافحون حتى يطرق الحظ بابهم، ويكون النجاح حليف مشروعهم.
وفي مثال آخر، يُعتَبَر بيل غيتس، رجل الأعمال والتكنولوجيا اللامع، ومؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة، نموذجاً للريادي المحظوظ؛ بفَضْلِ جُهْدِه وعَرَقِهِ. فمن شركةٍ صغيرة جداً تقوم بتصميم أنظمة الحواسب الشخصية -وهو ميدان أعمال جديد غير مضمون النتائج آنذاك- إلى مؤسسة عملاقة وناجحة، في ظرف سنوات معدودات، بفضل إصراره وكدِّه، وبالطبع قدرته على الإبداع والتطوير.
وهو الأمر الذي تكرَّر مع هنري فورد صاحب الماركة الشهيرة لصناعة السيارات بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي بدأ بمعمل صغير، ثم توسَّع تدريجياً، مع زيادة خبرته وجهده؛ إذ اخترع تكنولوجيا جديدة لإنتاج السيارات عبر نمط العمل المتسلسل.
ريادة الأعمال.. مزايا وخصائص:
باعتبارها كائناً اقتصادياً اجتماعياً فاعلاً ومتفاعلاً مع البيئة والمحيط، تطوَّرت ريادة الأعمال في سياقها التاريخي، المفاهيمي والإجرائي شيئاً فشيئاً، واكتسبت بذلك العديد من المزايا والخصائص؛ منها أن المشروعات الريادية الصغيرة تُعتبر هي الأصل في تطوُّر الاقتصــاد؛ فهي النـواة التي تَرْفِدُ الاقتصــاد القومي فيما بعد بالمشروعـــات الكبيرة العملاقة، سواءً بتطويرها، أو رَفْدِهَا بالأفكار التي تقدِّمها؛ فمشروعات اليوم الصغيرة هي مشروعات الغد الكبيرة.
كما تضطلع الريادة بدور مهم وحيوي في الاقتصاد الوطني؛ كونها قادرةً على أن تُسهم وبشكل فعَّال في إعادة تقويم وهيكلة الإنتاج في العديد من الدول النامية؛ إذ تُعَدُّ الأساس الذي تقوم عليه التنمية الشاملة، ناهيك عن العديد من الآثــار والمنــافع الاقتصادية.
وتقوم المشاريع الريادية بتقديم خدمات ومنتجات جديدة، كما تعمل على فتح أسواق منافسة محلية وإقليمية. لذا أصبح مجال الريادة يتضمن دراسة مصادر وعمليات الاكتشاف والتقييم واستغلال الفرص.
من جهة أخرى تتميز ريادة الأعمال بقدرتها على جَنْيِ الأرباح لروَّادها، كما تسهم بشكلٍ ملحوظ في بناء مجتمع متطور من خلال ما تقدِّمه المنظمات الريادية من خدمات محدَّثَة، فعلى سبيل المثال؛ أغلب المشاهير وأثرياء المال كانوا روَّاد أعمال كستيف جوبز، مارك زوكربيرغ، إيفان شبيغل،.. إلخ.
وتعمل المشاريع الريادية على فتح المجال أمام الإبداع والابتكار؛ فالريادي يبدأ عمله؛ لأنهُ يرى في ذلك استقلالية، وفرصة لتحقيق تميز في الإنتاج، وأيضاً بهدف الحصول على الميزة التنافسية لضمان النمو السريع، ومن هنا فإنَّ الريادة مصدرٌ من مصادر التجديد؛ فالعمل بالنسبة للريــادي هو أداة تحقيق الذات، والتعبير عنها، وهو يدرك بأنَّ وجود حدود وحواجز النجاح هي الإبداع والرؤيا والحماس.
كما تساعد ريادة الأعمال في تطور عمل المجتمع، فغالباً ما يكون الريادي الأكثر تميزاً في المجتمع والأكثر ثقةً، خاصةً أن التعاملات التجارية تعتمد على الثقة المتبادلة؛ لذا فإنَّ الفرصة أمام كل ريادي كبيرة لخدمة المجتمع؛ من خلال المساهمة في تطوير الاقتصـاد وزيــادة النمو، لذلك يلعب الروَّاد دوراً أساسياً في نظام العمل المحلي، وتؤثر أعمالهم على وظائف الاقتصاد المحلي.
بينما تتوزع باقي ميزات ريادة الأعمال الدور الطلائعي في دعم الابتكارات والاكتشافات على كافة الأصعدة والبنى الاقتصادية، والاجتماعية والخدماتية، مع وضع الحلول اللازمة لمعالجة المشكلات، وتوسيع وتطوير التدخلات لفائدة الفرد والمجتمع، فتساهم في القضاء على البطالة، وتأمين فرص عمل جديدة؛ إذ تميزت المشاريع الريادية في استيعاب أعداد لا بأس بها من الأيدي العاملة.
كما تعمل على تعزيز دور وعمل المرأة؛ إذ أولت المشاريع الريادية الاهتمام البالغ بالمرأة العاملة؛ من خلال دورها الفاعل في مجال إدخال العديد من الأعمال التي تتناسب مع قدرات المرأة.
وتساعد على توطيد العلاقة بين الحكومات والأفراد؛ من خلال مساهمة بعض الدول في إنشاء حاضنات للأعمال، وتقديم كافة وسائل الدعم اللازم، وإزالة جميع العراقيل أمام روَّاد الأعمال؛ خصوصاً في مجال تشجيع أعمال معينة، مثل: المشاريع التكنولوجية، أو مناطق تجميع التخصصات وغيرها.
وهكذا نلاحظ أن ريادة الأعمال تميزت بالكثير من الإيجابيات والمنافع، لكن كما أنَّ للريادة منافع، هناك أيضاً مخاطر لهذا النوع من المشاريع، ولعل أبرزها فقدان الاستثمار، الإفلاس، البطالة، وانخفاض نوعية الحياة مع مشاريع ومنتجات تعود بالضرر على المجتمع أكثر من النفع، وغيرها.