الضابط بين الأذان والإقامة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الله عز وجل قد أكمل الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يدع خيرا إلا دلنا عليه، ولم يترك شرا إلا حذرنا منه، وأمرنا عليه السلام باتباع سنته والعمل بها: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)1، وعند الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة نرى أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يذكر وقتا محددا في الانتظار بين الأذان والإقامة إلا أن فقهاء الإسلام بعد نظرهم في سنته صلى الله عليه وسلم اتفقوا من حيث الجملة على استحباب الفصل بين الأذان والإقامة بقدر الوضوء، وصلاة ركعتين، بحيث يتسنى للناس الاستعداد لحضور صلاة الجماعة وذلك في الصلوات الخمس؛ ما عدا المغرب فقد اختلفوا فيه في مشروعية صلاة الركعتين بين الأذان والإقامة فيه، وذلك راجع لاختلافهم في وقت المغرب هل هو من قبيل الوقت المضيق أو الموسع، وليس المقام هنا مقام تفصيل هذا الخلاف
ومما يدل على مشروعية الفصل بين الأذان والإقامة ما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ((اجعل بين أذانك وإقامتك نفساً؛ قدر ما يقضي المعتصر (من يريد قضاء الحاجة) حاجته في مهل، وقدر ما يفرغ الآكل من طعامه في مهل))2، يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: "والحديث يدل على مشروعية الفصل بين الآذان والإقامة، وكراهة الموالاة بينهما لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها؛ لأن من كان على طعامه، أو غير متوضئ حال النداء؛ إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل، لاسيما إذا كان مسكنه بعيداً من مسجد الجماعة، فالتراخي بالإقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها"3.
ومما يدل على الفصل بين الأذان والإقامة بزمن ما جاء في حديث عبد الله بن مُغَفَّلٍ المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: ((بين كل أذانين صلاة)) رواه البخاري (588)، ومسلم (1384) قال ابن حجر رحمه الله: "أي أذان وإقامة"4.
وبهذا يتبين سنية الفصل بركعتين بين آذان المغرب وإقامته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بين كل أذانين صلاة))،
بل قد جاء في الحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء)) رواه البخاري (1183)، فقوله: ((صلُّوا)) أمر يفيد الوجوب، ولكنه صرفه من الوجوب إلى الاستحباب بقوله: ((لمن شاء))، فدل على استحباب الفصل بين آذان المغرب، وإقامة الصلاة بصلاة ركعتين.
وقوله: ((لمن شاء)) من باب التخفيف قالها: كراهية أن يتخذها الناس سنة قال المحب الطبري: "لم يرد نفي استحبابها؛ لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها"5.
والفصل بين الأذان والإقامة أمر ضروري جداًً: "لأن المقصود بالأذان إعلام الناس بدخول الوقت ليتأهبوا للصلاة بالطهارة، فيحضروا المسجد لإقامة الصلاة، وبالوصل ينتفي هذا المقصود، فإن كانت الصلاة مما يتطوع قبلها فيفصل بينهما بالصلاة؛ فإن لم يُصلَّ يفصل بينهما بجلسة خفيفة؛ لحصول المقصود به"6 .
ويتضح من سنته عليه السلام أن المقصود من الانتظار هو تمكين المسلمين من ترك أعمالهم، وقضاء حوائجهم، ومن ثم حضورهم إلى المسجد، ولذلك فإن المندوب تأخير الصلاة قليلاً عند تأخر المصلين في الحضور إلى المسجد، وتقديمها عند حضورهم إلى المسجد، ويدل على هذا ما جاء في حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه سأل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((... والعشاء: إذا كثر الناس عجَّل، وإذا قلُّوا أخّر)) رواه البخاري (565).
يقول ابن رجب رحمه الله: "هذا الحديث: دليل على أن الأفضل في صلاة الإمام العشاء الآخرة مراعاة حال المأمومين المصلين في المسجد، فإن اجتمعوا في أول الوقت فالأفضل أن يصلي بهم في أول الوقت، وإن تأخروا فالأفضل أن يؤخر الصلاة حتى يجتمعوا؛ لما في ذلك من حصول فضل كثرة الجماعة، ولئلا يفوِّت صلاة الجماعة لكثير من المصلين"7.
ومما تجدر الإشارة إليه: أنه ينبغي مراعاة حال الناس عند كل صلاة، فصلاة الفجر يكون الانتظار فيها أطول من غيرها ليتمكن الناس من الاستيقاظ من النوم، والاستعداد للصلاة، وهكذا كل صلاة بحسب ما يناسب حال المسلمين فيها.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد وقتاً بين الأذان والإقامة؟
فأجاب: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصلاة في أول الوقت إلا العشاء الآخرة فإنه كان ينظر إلى اجتماع الناس إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطؤوا أخَّر، وكان يبقى في البيت حتى يأتيه المؤذن فيعلمه بحضور الصلاة، وربما خرج إليها بدون إعلام.
فالسنة تعجيل جميع الصلوات إلا العشاء، والظهر عند اشتداد الحر، ولكن الصلوات التي لها نوافل راتبة كالفجر والظهر ينبغي للإنسان أن يراعي حال الناس بحيث يتمكنون من الوضوء بعد الأذان، ومن صلاة هذه الراتبة"8.
وكذلك ينبغي مراعاة أماكن وجود المساجد، فالمساجد الموجودة في الأسواق، أو القريبة منها؛ يكون الانتظار فيهاً قليلاً لئلا يتضرر أصحاب الأسواق بطول الانتظار، وهذا بخلاف المساجد الموجودة في الأحياء السكنية فلا ضرر عليهم من الانتظار المتعارف عليه.
وفي زماننا هذا قامت بعض الجهات المختصة في بعض البلدان بضبط الوقت بين الأذان والإقامة بمدة محددة في بعض البلدان "عشرين دقيقة مثلاً، أو خمس عشرة دقيقة".
وإذا تأخر المؤذن قليلاً، أو تقدم قليلاً؛ فلا حرج إذا كان ثمة مصلحة، وينبغي لمن أتى إلى المسجد مبكراً ألا يعجل على المؤذن في إقامة الصلاة، بل عليه أن يصبر ويحتسب، وأن يعلم أنه لا يزال في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، أو ما دامت الصلاة تحبسه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.