اعلموا أن من أعظم الواجبات على المسلم أن يكون عادلاً في أحكامه وأقواله وتعاملاته؛ فقد ذكر الله العدل في كتابه وأَوْجَبَه على عباده وذَكَرَ فضائِلَه.
ومما ورد في فضل العدل وأهله ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المقسطين عند الله على مَنابِرَ من نور عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا".
والمعنى: أن العادلين في أماكن مرتفعة مقربون إلى الرحمن وَمُكَرَّمون؛ فإنهم بِعَدْلِهِم ارتفعوا في الدنيا ورَفَعَ اللهُ قدْرَهُم وشأنَهم حتى صاروا كالمصابيح التي يُقْتَدَى بها.
وهكذا شأنُهم في الآخرة يرفع الله قدرهم، ويقربهم إليه، ويجعلهم على منابر مرتفعة مضيئة يراها الناس، في مقام رفيع قريب من الرحمن.
لماذا استحقوا هذا الثواب؟ لأنهم عَدَلُوا في أمور ثلاثة وَرَدَت في هذا الحديث:
الأول: الحُكْم وهذا عام يشمل كلَّ حُكْمٍ يحكم به المرء وليس خاصاً بالوِلاية العُظمى وسيأتي ذكرها، فهو عام، حتى في أقواله وتعاملاته وفي بيعه وشرائه ونُصْحِهِ وإرشادِه وفتواه بل حتى إذا تكلم في غيره فإنه يجب عليه أن يتقيَ الله فيما يقول: فلا يغتاب ولا يتهم بالباطل. بل وحتى مع نفسه فلا يرفعها فوق قدرها، ويقولُ الحقَّ والصدقَ ولو على نفسه أو مع عدوه.
الثاني: العدل في الأهل؛ لأنه قال في الحديث: "وأهليهم" وذلك مع الزوجة، فيحسن إليها ويعطيها حقها كاملا مُوَفَّرا وإذا كان له أكثر من زوجة فيجب عليه أن يعدل بينهن وإلا فإنه يأتي يوم القيامة وشِقُّه مائل. وهكذا يعدل بين أولاده في النفقة والمعاملة والإحسان.
الثالث: العدل في الولاية؛ لأنه قال في الحديث: "وما وَلُوا"، أي: ما تولوه من أعمال؛ سواء كانت ولايةً عظمى على المسلمين أو وزارة أو قضاء أو تدريساً أو ولاية مال يتيم أو نظارَةَ وَقْفٍ أو قَسْمَ صدقاتٍ وزكوات. كل ذلك مما يتولاه المرء، وكُلُّ ذلك مما يجب فيه العدل ويحصل لصاحبه الثواب المذكور.
ومن هذا الحديث النبوي العظيم -يا عباد الله- يتبين أن الإسلامَ دينُ العدل، ويخطئ كثير من المسلمين عندما يقولون: إن الإسلام دين المساواة، هكذا على وجه الإطلاق، وهذا مُخالِفٌ للشرع والعقل.
أما الشرع: فقد قال تعالى-: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، ولم يقل: وإذا حكمتم بين الناس فساووا بينهم.
ومن الأدلة -أيضاً- قوله تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل:90]، ومن الأدلة -أيضاً- قوله تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء:135]، أي: بالعدل، وقال تعالى-: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]، وقال تعالى-: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]، وقال تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25] أي: بالعدل.
وثبت في الصحيحين أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "إمام عادل".
والعدل: هو وضع الشيء في مَوضِعِه وإعطاءُ الشيء ما يستحقه فإذا كان يقتضي التسويةَ وجبت المساواة وإذا كان يقتضي التفريق وَجَبَ التفريق؛ فالتسوية بين المفترقين ظُلْم، والتفريق بين المتساويين ظلم.
ولذلك فَرَّقَ الله تعالى- بين المسلم والكافر في الدنيا والآخرة، وفرَّق بين الذكر والأنثى في كثير من الأحكام: في الميراث والعقيقة والشهادة بل وفي كثير من العبادات؛ ولكنه ساوى بينهما في أصل التكليف. وكذلك فرق الشارع الحكيم بين المُحْصَن وغير المُحصن في حد الزنا. وغير ذلك من الأدلة.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم .......
الحمد لله رب العالمين ,,,,,,