[size=48]إن من أعظم العبادات وأجلها أن يسلم الإنسان وجهه لله ويستسلم له، وينقاد له ويذعن، فلا يعارض أمره، ولا يخالف قوله، ولا يرد كلامه، ولا يتردد في قبول كل ما جاء عن الله أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112].
لقد قص الله -سبحانه وتعالى- علينا في القرآن الكريم قصصاً كثيرة تعد من أفضل النماذج وأعظمها في التسليم والإذعان، فهذا نبي الله نوح -عليه الصلاة والسلام- دعا ربه أن ينجي ولده يوم الغرق، فقال له: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود:45]، فرد الله عليه فقال له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود:46]، فأسلم نوح -عليه السلام- لربه واستسلم له، فقال مباشرة: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود:47].
أما النموذج العظيم والمثل الكبير في التسليم: فهو سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فقد ضرب هو وأسرته أعظم النماذج في الاستسلام لله في مواطن عديدة، منها: حين نزل بزوجته وابنه إلى مكة، ومكة يومئذ واد مكفهر لا خضرة فيها ولا زرع بل ولا ماء، فنزل -عليه الصلاة والسلام- بأهله في ذلك الوادي استجابة لأمر الله وإذعاناً له بالنزول هناك، تمهيداً لبناء البيت العتيق ورفعه.
يقول ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ) [إبراهيم:37]".
استجاب لأمر الله له بالنزول هناك، واستجابت زوجه كذلك لأمر الله، فلم تعترض، ولم ترد أمر الله، وتحملت كل الأعباء والتكاليف؛ إذعاناً لأمر الله واستسلاماً له، وقالت بكل إذعان وتسليم: "إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا".
واستجاب -عليه الصلاة والسلام- هو وابنه لأمر عظيم من أوامر الله -جل وعلا-، أمرٌ لا يمكن أن يتحمله أحد إلا من كان عظيم الإيمان شامخ الأركان أصيل البنيان، أمرٌ لا يمكن أبداً أن يتحمله إلا الرجال العظماء الذين جمعوا بين الرجولة والإيمان.
إنه أمر الذبح حيث أمره الله أن يذبح ولده ذبحاً بالسكين كما تذبح النعجة؛ فهل يطيق هذا الأمر أحد؟ وهل يستطيع أحد تنفيذ هذا الأمر وقبوله والتسليم به؟ لكن سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لم يتردد هو وابنه اسماعيل -عليهما السلام- لحظة واحدة في التنفيذ، يقول الله -سبحانه وتعالى- عنهما: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات:102].
وأما رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقد بلغ القمة، ووصل الذروة، وصار النموذج الأكمل والأعظم في التسليم لله رب العالمين، فقد سلم أموره كلها إلى الله، ولجأ إليه، وانطرح بين يديه -سبحانه وتعالى-، يقول عبد الله بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ - أَوْ: لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ - وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" [البخاري ، مسلم ].
فأعلن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث العظيم استسلامه وانقياده لأمر الله ونهيه، والتسليم له في كل صغيرة وكبيرة، كما قال تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر:12]، وقال: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:20].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه صل الله عليه وسلم .......
الحمد لله رب العالمين ,,,,,,,,[/size]