إياكم والغلو في الدين
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأميأعلم الناس وأنصحهم وأفصحهم، حيث قال: «أيها الناس! إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (أخرجه أحمد:1/215، والنسائي:268، وابن ماجه:3029)، وكما قال أبو العباس ابن تيمية في بيان هذا الحديث: "قوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال".
والغلو: مجاوزة الحدّ بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمّه على ما يستحق (الاقتضاء:1/289).
فالغلو والإفراط كالتقصير والتفريط، كلاهما مجاوزة للشرع المنزل، وعدول عن الصراط المستقيم؛ ولذا قال مخلد بن الحسين رحمه الله: "ما ندب الله العباد إلى شيء إلا اعترض فيه إبليس بأمرين بأيّهما ظفر، إما غلوّاً فيه وإما تقصيراً عنه" (حلية الأولياء:8/266)، والنفوس المصابة بالغلو تقيم الدنيا وتقعدها من أجل تقديس أحياء غير معصومين، وتملأ الفضاء ضجيجاً وتهويلاً لأجل مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف، وهكذا إذا انحسر العلم استفحل الجهل، وإذا غاب العدل حلّ مكانه الظلموالبغي، والنفوس الموبوءة بالغلو تترنح بين جهل فاضح وبغي صارخ.
والمسلك الغالي يجلب حظوظاً للنفس وظهوراً على الآخرين، إذ طبيعة النفوس حب الرياسة، فتميل إلى التفرّد والتمايز عن عموم الخلائق، سواءً في المطاعم والمشارب والملابس والمراكب، أو الآراء والديانات والعبادات (ينظر: الاعتصام (ت: مشهور):1/49، 215-217، والدرء:8/86).
والغلاة يصاحبهم الغرور، ويلازمهم الإعجاب بأنفسهم، والاعتداد بآرائهم، كما وضّحه ابن الوزير رحمه الله بقوله: "الغالب على أهل البدع شدة العُجب بنفوسهم، وهي من عجائب العقوبات الربانية، وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات، ودليل العقوبة أنك ترى أهل الضلال أشد عُجباً وتهليكاً للناس، واستحقاراً لهم" (إيثار الحق على الخلق ص:426 باختصار)، هذا الغرور واحتقار عامة المسلمين جلب للغلاة (كهنوت) الوصاية على الآخرين، وحقوق الامتحان والتنقيب عما في الصدور، والاستعراض للمخالفين! كما كان على ذلك الخوارج ومن شابههم.
قال ابن سيرين رحمه الله: "سؤال الرجل أخاه أمؤمن أنت؟ محنة بدعة كما يمتحن الخوارج" (أصول السنة للالكائي:6/988).
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزل (ت 281هـ): "الامتحان دين الخوارج" (السير للذهبي:13/189).
ثم إن الإعجاب بالرأي لدى الغلاة أوقعهم في التعصب والخصومة والجدال وكثرة السؤال.. وقد وصف المبرّدُ الخوارجَ فقال: "كان في جملة الخوارج لددٌ -جدال- واحتجاج على كثرة خطبائهم وشعرائهم" (الكامل:2/162)، وكان نافع بن الأزرق يأتي ابن عباس فيسائله حتى أملّه، وجعل ابن عباس يظهر الضجر (ينظر: الكامل لابن المبرد:2/168).
كما أورثهم شقاقاً ونزاعاً، فالغلاة أكثر الطوائف انقساماً وتشرذماً، وأظهر تبرياً فيما بينهم من سائر الطوائف، فالخوارج مثلاً عشرون فرقة (ينظر: الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي ص:72)، والفرقة الواحدة كالإباضية انقسمت إلى أكثر من فريق.. وهكذا.
فالانقسام ضربة لازب للغلاة كما هو مشاهد في القديم والحديث، فمع أن القوم أشربوا الغلو مع بسالة وإقدام، إلا أن غلوّهم وتفرقهم إلى شيع وأحزاب قد أضعف رأيهم، ومحا أثرهم، فالأزارقة أشد طوائف الخوارج غلواً ظهرت نحو السنة 64هـ، وانقرضت في السنة 77هـ (ينظر: الخوارج للسعوي، وآراء الخوارج الكلامية لعمار الطالبي)، والنفوس الغالية ليست سويّة ولا مستقرة، فلا يفارقها التردد والاضطراب، ولذا تجمع بين النقيضين، وتقول بالرأيين المتضادين، وهذا ظاهر لمن نظر في مقالات الخوارج مثلاً في كتب الملل والنحل، ومن ذلك أن المعتزلة وعيديةٌ، يقولون بتخليد عصاة الموحدين في جهنم، كما في أصولهم الخمسة، ومنهم طائفة يقال عنها (مرجئة المعتزلة) يرون أن الكفار لا يخلدون في النار! (ينظر: البداية لابن كثير:11/322).
ثم إن الغلو يحرّك في النفوس خمائر البغي والعدوان، وهذا البدار إلى الظلم عجّل باندراسهم وانقراضهم، فالخوارج مثلاً بادروا بالقتال، فقاتلهم أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وقضى عليهم، وكما قال ابن تيمية: "فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه" (الدرء:8/409)، وقد أدرك المهلّب بن أبي صفرة هذه الحقيقة، -فقد كانت له صولات وجولات ومعارك ضارية ضد الخوارج خلال عشرين عاماً-، فكان يقول لبنيه: "لا تبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نُصرتم عليهم" (الكامل لابن المبرّد:2/277).
وانحسار العلم وغياب العدل لدى الغلاة، والتحفز والتحسس المفْرِط من مخالفيهم؛ أوقعهم في ردود أفعال، فجملة من آرائهم وليدة مواقف حادة، ونتاج وقائع وحوادث صاغت أقوالهم، وصنعت تقريراتهم، ومثال ذلك: أن الإفراط في الأَنفَة، والنفرة الجامحة من الأئمة؛ ربما هي التي جعلت النجدات من الخوارج تقول: "لا يلزم الناس فرض الإمام، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم" (انظر: الفصل لابن حزم 4/149)، كما يبدو أن هذه الأنفة المحمومة والجهالة بالسنة؛ هي التي جعلت الشبيبة من الخوارج يجيزون إمامة المرأة منهم، حيث زعموا أن غزالة أم شبيب هي الإمام بعد قتل ابنها شبيب [1].
وإذا كان النَّفَس الغالي يصحبه الانفلات سواءً في الاعتقادات أو العمليات، إذ الورع الفاسد المتشدد أورث الانفلات عن دين الإسلام (ينظر: الفتاوى لابن تيمية 29/312 345، ومنهاج السنة 3/400)، فإن الإغراق في مدافعة الغلو والإيغال في محاربة التشدد، وإهمال ما يضاده من تفريط وجفاء قد يؤول إلى اتخاذ التفريط والإضاعة طريقاً ومسلكاً، كما قد شوهد وجرّب، وإنما المتعيّن تقرير الصراط المستقيم، وتحقيق لزوم السنة النبوية، وترسيخ العلم الشرعي والعدل والوسط بين طرفيّ الغلو والجفاء، ثم يأتي الردّ والمعالجة للإفراط والتفريط دون تهوين أو تهويل، بل يعالج كل انحراف حسب ظهوره وتأثيره.
وإذا كان الغلاة يجهلون الشرع المنزل ويبغون على غيرهم، فإن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، فهم يظهرون الحق وينصرونه وينشرونه، ويرحمون الخلق ويحبون لهم الخير والنجاة، فشمس الرسالة تمحو الأهواء وتطمس البدع، وبالعدل يتحقق تنزيل الناس منازلهم، ويحصل النصرة والتمكين.. وبالله التوفيق.
_________________________
[1] ينظر: الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي ص: (110)، ومن اللافت أن للمرأة حضوراً في مذهب الخوارج، فعمران بن حطان تزوج خارجية لأجل أن يردّها إلى مذهب السنة فجذبته وصار داعية خارجياً! وابن ملجم تزوج خارجية فائقة الجمال بعد أن شرطت عليه أن يغتال عليًّ رضي الله عنه (ينظر البداية 7/326)، وحكى الملطي في التنبيه أن الحرورية تقاتل نساؤهم على الخيل المضمرات، وساق محمد بن نصر المروزي في كتابه السنة (ص 48) أن الربيّع سئلت: "إن عندنا نساء حروريات يقلن إن قد كان يغزو مع رسول الله نساء ويقاتلن؟ قالت: كنا نغزو ولا نقاتل".