لم يعتبرِ اليهود بما أصاب كفارَ قريش في بدرٍ من القتل والأَسْر، ولا بما أصاب يهود بني قينقاع من الجلاء عن المدينة إلى أذرعات (بلدة بالشام) لنقضهم العهد مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومع ذلك أخذ ما تبقى منهم يمكرون بالإِسلام، ومن هؤلاء اليهود الحاقدين كعب بن الأشرف من بني النضير، الذي قام بحملة عدائية ضد المسلمين، وأخذ يحرض قريشاً على الأخذ بثأرها، ومحو عار هزيمتها، وأخذ يبكى بشعره قتلى بدر من المشركين، ويتغزل في أشعاره بذكر محاسن نساء الصحابة، ويؤذيهن ببذاءة لسانه أشد الإيذاء، وكثيراً ما كان يهجو في شعره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويسُبُّه، وعند ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولته المشهورة: ( مَنْ لكعب بن الأشرف؟، فإنه آذى اللهَ ورسولَه )، فقال محمَّد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ: أنا يا رسول الله ..
فتعالوا بنا لنستمع إلى قصة قتل عدو الله ـ كعب بن الأشرف اليهودي ـ الذي آذى الله ورسوله، من جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ الذي قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
( مَن لِكَعْبِ بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسولَه؟، قال محمدُ بنُ مسلمة: يا رسولَ الله، أتُحِبُّ أن أقتلَهُ؟، قال: نعم، قال: ائْذنْ لي فَلأقُلْ، قال: قُلْ، قال: فأتاه، فقال له، وذكر ما بينَهم (من المودة قديما)، وقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقةَ، وقد عَنَّانَا (أتعبنا)، فلما سمعه قال: وأيضاً والله لَتَمَلُّنَّه ( ليزيدنكم مللا وضجراً )، قال: إنا قد اتَّبعناه الآن، ونكره أن نَدَعَه (نتركه)، حتى ننظرَ إلى أيِّ شيء يصيرُ أمرُهُ؟، قال: وقد أردتُ أن تُسلفني سَلَفاً، قال: فما تَرَهنُني؟، قال: ما تريد، قال: ترهنني نساءَكم؟، قال: أنت أجملُ العرب، أنرهنُك نساءنا؟!، قال له: ترهنوني أولادَكم؟، قال: يُسَبُّ ابنُ أحدنا، فيقال: رُهن في وَسقين من تمر، ولكن نرهنُك اللأْمَةَ (السلاح)، قال: فنعم، وواعَده، أن يأتيه بالحارث، وأبي عَبسِ بن جَبْر، وعَبَّادِ بن بِشْر، قال: فجاؤوا، فدعَوه ليلاً، فنزل إليهم ..، قالت له امرأتُه: إني لأسمع صوتاً كأنه صوتُ دم، قال: إنما هو محمد ورضيعي أبو نائلةَ، إن الكريم لو دُعِيَ إلى طَعنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنتُ منه فدُونَكم، قال: فلما نزل ـ نزل وهو مَتَوشِّح ـ، فقالوا: نجدُ منك رِيح الطِّيب؟، قال: نعم، تحتي فلانة، هي أعْطَرُ نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشُمَّ منه؟، قال: نعم، فَشُمَّ، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟، قال: فاستمكنَ منه، ثم قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبروه ) رواه البخاري ومسلم .
لقد نزلت سيوف محمد بن مسلمة وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ على جسد عدو الله ابن الأشرف فوقع قتيلاً، وقد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله من اليهود، فلم يبق أحدٌ منهم إلا استيقظ من نومه، وفي الصباح علموا بمقتله، فدبَّ الرعب في قلوبهم الحاقدة، وعلموا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن يتوانَى في استخدام القوة حين يري الغدر منهم، فلم يُحركوا ساكناً، بل استكانوا ولزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، وهكذا تفرغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلي حينٍ، لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة .
فائدة :
اتخذ بعض أعداء الإسلام قصة مقتل كعب بن الأشرف من السيرة النبوية شبهة لمحاولة النيل من نبينا ـ صلى الله عليه و سلم ـ واتهامه بالغدر، وربما يحدث للبعض عند معرفته لهذه القصة خطأ في الفهم فيقول بجواز الغدر بالكفار، وهذا خطأ كبير، إذ ليس في القصة غدر كما يمكن أن يُتَوَّهَم .
قال الإمام البغوي: " قد ذهب من ضلَّ في رأيه, وزلَّ عن الحق, إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكا, فأبعد الله هذا القائل, وقبَّح رأيه, ذهب عليه معنى الحديث, والتبس عليه طريق الصواب ".
فهذه القصة الصحيحة من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ليس فيها غدر ولكنها الخدعـة، وهناك فرق بين الغدر والخدعة، فالغدر قدْ نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه، فعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أَمَّرَ أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ( اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ) رواه مسلم .
والغدر: هو نقض العهد بغير إعلام الآخر وبغير أن ينقضه هو أولا، والعهد: أن يبرم المسلم اتفاقا وعهداً مع غيره، فيجب عليه الالتزام والوفاء به، ومن أمثلته في السيرة النبوية: صلح الحديبية الذي عقده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع مشركي مكة، وعهده مع يهود بني قريظة و بني النضير الذي نقضوه هم بعدها .
أما الخدعة: هي أن تجعل العدو يظن أمراً على غير حقيقته ثم تأتيه من حيث لا يشعر، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( الحرب خدعة ) رواه مسلم .
قال النووي: " واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل " .
وقد تكون الخدعة بالفعل أو بالقول، فبالفعل مثل حفر خندق وحفرة أو غير ذلك، فيظن العدو أن الأرض ممهدة وعندما يأتي بجيشه وجنوده يقع في هذا الخندق، أما الخدعة بالقول فمثل كلام محمد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ لكعب بن الأشرف اليهودي، فقد أوهمه بالتعريض أنه كافر مثله .
قال النووي في شرحه لمسلم: " قوله ـ: ( ائذن لي فلأقل ) معناه ائذن لي أن أقول عني وعنك ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره، ففيه دليل على جواز التعريض، وهو أن يأتي بكلام باطنه صحيح ويفهم منه المخاطَب غير ذلك، فهذا جائز في الحرب وغيرها مالم يمنع به حقا شرعيا .. وقوله: ( وقد عنَّانا ) هذا من التعريض الجائز بل المستحب، لأن معناه في الباطن أنه أدبنا بآداب الشرع التي فيها تعب لكنه تعب في مرضاة الله تعالى، فهو محبوب لنا، والذي فهم المخاطَب منه العناء الذي ليس بمحبوب " .
وقال الإمام المازري: " إنما قتله (محمد بن مسلمة) كذلك، لأنه نقض عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهجاه وسبَّه، وكان عاهده ألا يعين عليه أحداً، ثم جاء مع أهل الحرب معيناً عليه، قال: وقد أشكل قتله على هذا الوجه على بعضهم، ولم يعرف الجواب الذي ذكرناه، قال القاضي: قيل هذا الجواب، وقيل: لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بأمان في شيء من كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه، وليس في كلامه عهد ولا أمان، قال: ولا يحل لأحد أن يقول إن قتله كان غدراً .. وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود، وكان كعب قد نقض عهد ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ورفقته، ولكنه استأنس بهم، فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان " .
لقد قام اليهودي ابن الأشرف بجرائم كثيرة، وخيانات عديدة وإساءات متعددة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللصحابة وزوجاتهم، وكل جريمة من هذه الجرائم تُعَدُّ نقضاً للعهد تستوجب عقوبة القتل، فكيف إذا اجتمعت هذه الجرائم كلها فيه؟!.. وكان قتله من باب الخدعة المشروعة، وليس من باب الغدر المنهي عنه، حيث أنه لم يطمئن لمحمد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ على أساس أنه مسلم أعطاه الأمن والأمان وعقد معه عهداً واتفاقاً، إنما اطمأن له على أساس أنه مثله وعلى شاكلته لا يحب الإسلام ولا يحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما أوهمه بذلك تعريضاً، ومن ثم فهذه خدعـة وليست غدراً، ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذِنَ في قتله، لأنه بعد هجرته إلى المدينة المنورة قد عاهد اليهود بميثاق، بيّن لهم فيه ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، وكان من بين بنود ذلك الميثاق: " أن للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .."، والتزم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفَّى بهذا العهد والميثاق، لأنه أوفى الناس بالعهد، وأبعدهم عن الغدر، ولكن اليهود ـ كعادتهم ـ نقضوا العهد، كما حدث من يهود بني قينقاع، وكذلك كعب بن الأشرف .
إن مواقف اليهود الحاقدة على الإسلام وعلى نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السيرة النبوية وفي واقعنا المعاصر كثيرة جداً، ولا عجب في ذلك، فقد كان حالهم مع أنبيائهم، فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم: { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ }(المائدة الآية: 70 )، فعلى المسلمين أن يتنبهوا لكيدهم ـ هم وغيرهم ـ، وأن يقفوا يداً واحدة أمام أطماعهم ومؤامراتهم، مسترشدين في ذلك بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهديه في تعامله معهم .
فتعالوا بنا لنستمع إلى قصة قتل عدو الله ـ كعب بن الأشرف اليهودي ـ الذي آذى الله ورسوله، من جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ الذي قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
( مَن لِكَعْبِ بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسولَه؟، قال محمدُ بنُ مسلمة: يا رسولَ الله، أتُحِبُّ أن أقتلَهُ؟، قال: نعم، قال: ائْذنْ لي فَلأقُلْ، قال: قُلْ، قال: فأتاه، فقال له، وذكر ما بينَهم (من المودة قديما)، وقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقةَ، وقد عَنَّانَا (أتعبنا)، فلما سمعه قال: وأيضاً والله لَتَمَلُّنَّه ( ليزيدنكم مللا وضجراً )، قال: إنا قد اتَّبعناه الآن، ونكره أن نَدَعَه (نتركه)، حتى ننظرَ إلى أيِّ شيء يصيرُ أمرُهُ؟، قال: وقد أردتُ أن تُسلفني سَلَفاً، قال: فما تَرَهنُني؟، قال: ما تريد، قال: ترهنني نساءَكم؟، قال: أنت أجملُ العرب، أنرهنُك نساءنا؟!، قال له: ترهنوني أولادَكم؟، قال: يُسَبُّ ابنُ أحدنا، فيقال: رُهن في وَسقين من تمر، ولكن نرهنُك اللأْمَةَ (السلاح)، قال: فنعم، وواعَده، أن يأتيه بالحارث، وأبي عَبسِ بن جَبْر، وعَبَّادِ بن بِشْر، قال: فجاؤوا، فدعَوه ليلاً، فنزل إليهم ..، قالت له امرأتُه: إني لأسمع صوتاً كأنه صوتُ دم، قال: إنما هو محمد ورضيعي أبو نائلةَ، إن الكريم لو دُعِيَ إلى طَعنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنتُ منه فدُونَكم، قال: فلما نزل ـ نزل وهو مَتَوشِّح ـ، فقالوا: نجدُ منك رِيح الطِّيب؟، قال: نعم، تحتي فلانة، هي أعْطَرُ نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشُمَّ منه؟، قال: نعم، فَشُمَّ، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟، قال: فاستمكنَ منه، ثم قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبروه ) رواه البخاري ومسلم .
لقد نزلت سيوف محمد بن مسلمة وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ على جسد عدو الله ابن الأشرف فوقع قتيلاً، وقد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله من اليهود، فلم يبق أحدٌ منهم إلا استيقظ من نومه، وفي الصباح علموا بمقتله، فدبَّ الرعب في قلوبهم الحاقدة، وعلموا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن يتوانَى في استخدام القوة حين يري الغدر منهم، فلم يُحركوا ساكناً، بل استكانوا ولزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، وهكذا تفرغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلي حينٍ، لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة .
فائدة :
اتخذ بعض أعداء الإسلام قصة مقتل كعب بن الأشرف من السيرة النبوية شبهة لمحاولة النيل من نبينا ـ صلى الله عليه و سلم ـ واتهامه بالغدر، وربما يحدث للبعض عند معرفته لهذه القصة خطأ في الفهم فيقول بجواز الغدر بالكفار، وهذا خطأ كبير، إذ ليس في القصة غدر كما يمكن أن يُتَوَّهَم .
قال الإمام البغوي: " قد ذهب من ضلَّ في رأيه, وزلَّ عن الحق, إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكا, فأبعد الله هذا القائل, وقبَّح رأيه, ذهب عليه معنى الحديث, والتبس عليه طريق الصواب ".
فهذه القصة الصحيحة من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ليس فيها غدر ولكنها الخدعـة، وهناك فرق بين الغدر والخدعة، فالغدر قدْ نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه، فعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أَمَّرَ أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ( اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ) رواه مسلم .
والغدر: هو نقض العهد بغير إعلام الآخر وبغير أن ينقضه هو أولا، والعهد: أن يبرم المسلم اتفاقا وعهداً مع غيره، فيجب عليه الالتزام والوفاء به، ومن أمثلته في السيرة النبوية: صلح الحديبية الذي عقده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع مشركي مكة، وعهده مع يهود بني قريظة و بني النضير الذي نقضوه هم بعدها .
أما الخدعة: هي أن تجعل العدو يظن أمراً على غير حقيقته ثم تأتيه من حيث لا يشعر، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( الحرب خدعة ) رواه مسلم .
قال النووي: " واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل " .
وقد تكون الخدعة بالفعل أو بالقول، فبالفعل مثل حفر خندق وحفرة أو غير ذلك، فيظن العدو أن الأرض ممهدة وعندما يأتي بجيشه وجنوده يقع في هذا الخندق، أما الخدعة بالقول فمثل كلام محمد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ لكعب بن الأشرف اليهودي، فقد أوهمه بالتعريض أنه كافر مثله .
قال النووي في شرحه لمسلم: " قوله ـ: ( ائذن لي فلأقل ) معناه ائذن لي أن أقول عني وعنك ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره، ففيه دليل على جواز التعريض، وهو أن يأتي بكلام باطنه صحيح ويفهم منه المخاطَب غير ذلك، فهذا جائز في الحرب وغيرها مالم يمنع به حقا شرعيا .. وقوله: ( وقد عنَّانا ) هذا من التعريض الجائز بل المستحب، لأن معناه في الباطن أنه أدبنا بآداب الشرع التي فيها تعب لكنه تعب في مرضاة الله تعالى، فهو محبوب لنا، والذي فهم المخاطَب منه العناء الذي ليس بمحبوب " .
وقال الإمام المازري: " إنما قتله (محمد بن مسلمة) كذلك، لأنه نقض عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهجاه وسبَّه، وكان عاهده ألا يعين عليه أحداً، ثم جاء مع أهل الحرب معيناً عليه، قال: وقد أشكل قتله على هذا الوجه على بعضهم، ولم يعرف الجواب الذي ذكرناه، قال القاضي: قيل هذا الجواب، وقيل: لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بأمان في شيء من كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه، وليس في كلامه عهد ولا أمان، قال: ولا يحل لأحد أن يقول إن قتله كان غدراً .. وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود، وكان كعب قد نقض عهد ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ورفقته، ولكنه استأنس بهم، فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان " .
لقد قام اليهودي ابن الأشرف بجرائم كثيرة، وخيانات عديدة وإساءات متعددة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللصحابة وزوجاتهم، وكل جريمة من هذه الجرائم تُعَدُّ نقضاً للعهد تستوجب عقوبة القتل، فكيف إذا اجتمعت هذه الجرائم كلها فيه؟!.. وكان قتله من باب الخدعة المشروعة، وليس من باب الغدر المنهي عنه، حيث أنه لم يطمئن لمحمد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ على أساس أنه مسلم أعطاه الأمن والأمان وعقد معه عهداً واتفاقاً، إنما اطمأن له على أساس أنه مثله وعلى شاكلته لا يحب الإسلام ولا يحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما أوهمه بذلك تعريضاً، ومن ثم فهذه خدعـة وليست غدراً، ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذِنَ في قتله، لأنه بعد هجرته إلى المدينة المنورة قد عاهد اليهود بميثاق، بيّن لهم فيه ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، وكان من بين بنود ذلك الميثاق: " أن للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .."، والتزم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفَّى بهذا العهد والميثاق، لأنه أوفى الناس بالعهد، وأبعدهم عن الغدر، ولكن اليهود ـ كعادتهم ـ نقضوا العهد، كما حدث من يهود بني قينقاع، وكذلك كعب بن الأشرف .
إن مواقف اليهود الحاقدة على الإسلام وعلى نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السيرة النبوية وفي واقعنا المعاصر كثيرة جداً، ولا عجب في ذلك، فقد كان حالهم مع أنبيائهم، فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم: { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ }(المائدة الآية: 70 )، فعلى المسلمين أن يتنبهوا لكيدهم ـ هم وغيرهم ـ، وأن يقفوا يداً واحدة أمام أطماعهم ومؤامراتهم، مسترشدين في ذلك بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهديه في تعامله معهم .