بلغ يأس الأميركيين من ساستهم وتدهور أوضاعهم الاقتصادية، حد تصديق معظم الأحلام الجديدة التي نثرها عليهم رجل الأعمال الناجح والمثير للجدل دونالد ترامب. جاء انتخابه ثمرة أمرين: نقمة على طبقة تقليدية، وأمل بأن تتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. قد ينسحب هذا الزلزال الأميركي على دول أخرى قريبا وبينها فرنسا المنتظِرة سقوطا مدويا للرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند وحزبه، ونجاحا لليمين واليمين المتطرف.
يمثل ترامب نموذجا لحال العالم في هذا القرن. سقطت الأحزاب التقليدية. تغيرت القيم. تبدلت المفاهيم السياسية. انهارت المنظومة التقليدية للدعاية. تراجعت سطوة اللوبيات. قتل المالُ المبادئ. بات الخطاب الشعبوي الذي يشبه محادثات شبكة التواصل الاجتماعي سبيلا ممتازا لتغيير واقع عالمي صعب والحلم بحياة أفضل او.. تدمير الحياة.
ثمة شيء ما تغير في عالم اليوم، ما لم ننتبه اليه، لن نفهم هذه الزلازل التي تفكك المنظومة السياسية التقليدية في العالم. وعد ترامب شعبه برفاهية وبناء طرقات وجسور وتأمين وظائف وعمل واستنهاض البنية الاقتصادية وإعادة الرفاهية والقيادة لأميركا. صدَّقه الناس، أولا لأنه نجح تماما في مجال الاقتصاد وبنى ثروة هائلة تقارب ٥ مليارات دولار، وثانيا لأنه دغدغ عقلهم الباطني المحتاج للأمل.
ليس مهما ما قاله ترامب أو ما سيقوله في السياسة. قد يقول شيئا اليوم ويغيّره غدا ثم يغيره بعد غد. هو يعرف أن لا أخلاق ولا مبادئ في السياسة تماما كما هي الحال في خلال جمع الثروات الكبيرة. لا يوجد ثري شريف في العالم. مثالنا على ذلك ان ترامب دعا، أولا، الى الحياد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ثم عاد يعِد بنقل السفارة الاميركية الى القدس وهو ما لم يفعله أي رئيس أميركي قبله. أدرك سريعا انه لا يزال مبكرا التخلص من اللوبيات في الكونغرس وغيره. (ربما علينا إعادة قراءة كتاب اللوبي المقرب من "إسرائيل" والسياسة الخارجية الاميركية لمؤلفيه جون ميرشماير وستيفان والت لنفهم كم ان هذا اللوبي متغلغل بمفاصل أميركا).
ليس مهما ما قاله وسيقوله ترامب. هذا خطاب سياسي غب الطلب، يتغير حين تتغير المصالح. الأهم هو نزوعه صوب جمع أكبر قدر من عوامل النهضة الاقتصادية. من هنا قد نتفاءل بأنه لن ينجر كثيرا وراء حروب في الخارج تكلف أميركا كثيرا. ولن يُرسل جيوشا للقتال هنا وهناك، وسيحرص على ضمان المصالح التجارية والاقتصادية. هذا يعني ان روسيا والرئيس الأسد وايران و «حزب الله» قد يجدون الفرصة مناسبة تماما الآن لتسريع الخطوات العسكرية في حلب، ويعني ان ايران وحلفاءها العراقيين قد يفيدون من هذه الفرصة في العراق وربما في اليمن. قال ترامب صراحة ان الأسد ليس أولويته وانما ضرب «داعش». وقال ان الأسد اكثر ذكاء من أوباما وهيلاري كلينتون.
صحيح ان ترامب قال انه سيمزق الاتفاق النووي مع ايران او سيعيد التفاوض بشأنه، لكن المصالح الاقتصادية قد تجعله يقول عكس هذا لاحقا اذا ما تخلص قليلا من سطوة اللوبي الصهيوني. أما دول الخليج (الفارسي) وفي مقدمها السعودية فربما عليها ان تقلق، ذلك ان ترامب يدرك ان تطبيق قانون «جاستا» يدر على أميركا أموالا طائلة. وترامب قد يضع شروطا مالية كبيرة على دول الخليج (الفارسي) للاستمرار في حمايتها ويجبرها على دفع تكاليف ضرب «داعش».. هذا ما قاله صراحة في خطابه وهو قد لا يتراجع كثيرا حياله لأن في الأمر مصادر مالية.
لا شك ان سيد البيت الأبيض الجديد الذي يروقه اللون الأبيض بين الأميركيين اكثر من الأسود والخلاسي، سيواجه آلة عسكرية ومالية ودعائية خطيرة إذا ما استمر بالغزل مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. ذلك ان الاستراتيجية السياسية والعسكرية الاميركية ذهبت منذ سنوات صوب محاولة تطويق الصين وروسيا، لذلك قد يكون من المهم في المرحلة المقبلة تطور خطابه في هذا الاتجاه ورصد ردود فعل الآلة العسكرية في بلاده.
نعم، لقد أحدث فوز ترامب زلزالا كبيرا في سلم القيم التقليدية، لكن هذا الفوز أكد أن من يريد ان يعمل بالسياسة في عصرنا الحالي، عليه ان يغير قواعد التفكير. لقد حول «الربيع العربي» دولنا الى حطام عمراني وانساني، أما الربيع الوحيد الذي نجح فعليا فهو في أميركا وقد ينسحب على دول أخرى قريبا في أوروبا. يُبشر هذا الربيع بسقوط الأحزاب التقليدية والسياسات التقليدية واللوبيات القديمة، لكن مصيبته أنه لا يعد ببناء أي شيء. هو يشبه الى حد بعيد الفوضى التي أريد لها ان تكون خلاقة في بلادنا فكانت مدمرة بلا أي استراتيجية بعدها.
ترامب شعبوي ومثير للجدل وللاشمئزاز في بعض شطحاته العنصرية، لكن لاحظوا كيف تحدث عن «كل الاميركيين» في خطاب النصر. هو هكذا. سيقول الشيء وعكسه. يعرف ان السياسة لعبة وخالية من المبادئ. يريد فقط بناء حلم أميركي جديد بعدما خبا وهج كل الأحلام السابقة. انه كاوبوي الاقتصاد بدلا من كاوبوي الفتوحات العسكرية التي حولت في السنوات الماضية عدوها من هندي أحمر الى هنود سمر (ونحن بينهم).
نعم ان فوز ترامب هو سقوط لمنظومة سياسية تقليدية في العالم. ولعلنا في لبنان رأينا شيئا من سقوط هذه المنظومة الصدئة في الانتخابات البلدية.
من يدري، فلو تم إقرار القانون النسبي، قد تنهار المنظومة بكاملها لمصلحة جيل يائس من كل شيء.
أما فلاديمير بوتين الذي جاء هو الآخر من خارج الأحزاب التقليدية، فلعله هذه الليلة سينام قرير العين، وعينه الثانية على حلب بصفقة سياسية او بالحرب. لكن ربما عليه تماما كالأسد أن لا يتفاءل طويلا، فليس ترامب من الذين يمكن الاعتماد على ثبات مواقفهم... المصالح سيدة المبادئ.