في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد، تلكم الغزوة التي ظهر فيها أثر الإيمان، وما يفعله في نفس المسلم من التضحية بالروح في سبيل الله، تعلَّم فيها المسلمون أسباب النصر وأسباب الهزيمة، ودفعوا فيها الثمن غالياً من الشهداء والجرحى، وذكرها الله ـ عز وجل ـ في نحو ستين آية من سورة آل عمران لأهميتها، وضرب فيها الصحابة أروع الأمثلة في البطولة والشهادة . بدأت المعركة واستعرت نيرانها، واستبسل المسلمون في القتال، وانتصروا في البداية لما التزموا أوامر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وانسحب المشركون منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون، فلما رأى الرماة ذلك نزل كثير منهم وتركوا أماكنهم، وخالفوا أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وظل أميرهم عبد الله بن جبير ـ رضي الله عنه ـ مكانه ومعه عدد قليل منهم، وانتهز خالد بن الوليد ـ ولازال يومئذ مشركا ـ فرصة خلو الجبل من الرماة ونزول أكثرهم، فالتف ورجع هو ومن معه من جنده، فقتلوا مَنْ بَقِيَ من الرماة وأميرهم، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف يقتلونهم، حتى وصلوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشجوه في وجهه، وفي هذه اللحظات العصيبة ثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه نفر من أصحابه، يدافعون عنه بأجسادهم وأرواحهم، في صور رائعة من الحب والتضحية، فقام أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ يُسوِّر نفسه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، ويقول: " نحري دون نحرك يا رسول الله "، حتى شُلّت يمينه وأثخنته الجراح . وأبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ يحمي ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسهام تقع عليه ولا يتحرك . ومالك بن سنان ـ رضي الله عنه ـ يمتص الدم من وجنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أنقاه . وطلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ يجعل من نفسه سَلَّمَاً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصعد عليه ليرتقي إلى صخرة بالجبل ليحميه من المشركين، حتى قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينئذ: ( أوجب طلحة ) أي الجنة . شهداء في أحد، يوم التقى الجمعان : مِن حكمة الله تعالى وفضله إكرام بعض عباده بنيل الشهادة في سبيله، التي هي من أعلى المراتب والدرجات، ومن ذلك ما حدث لبعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يوم أحد، قال الله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ }(آل عمران الآية: 166)، فقد أراد ـ عز وجل ـ أن يتخذ من عباده شهداء، تُراق دماؤهم في سبيله، ويؤثرون محبته ورضاه على نفوسهم، قال تعالى: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ }(آل عمران من الآية: 140 ) . قال ابن كثير في قوله تعالى:"{ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } يعني: يُقْتَلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته " . وفي غزوة أحد استُشْهِدَ سبعون صحابيّاً، سطروا بدمائهم وأرواحهم صفحات مضيئة في بذل النفس والروح في سبيل الله ـ عز وجل ـ، ومنهم : عبد الله بن حرام ـ رضي الله عنه ـ : عبد الله بن حرام ـ رضي الله عنه ـ هو والد جابر بن عبد الله - رضي الله عنه ـ، وقصة استشهاده في أُحُد يرويها ابنه ـ جابر فيقول: ( دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني (أظنني) إلا مقتولاً في أول من يُقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن عليَّ ديناً فاقضه واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفنت معه آخر في قبره ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير هُنَيَّةً (شيئا يسيراً) في أُذُنِه، فجعلته في قبر على حِدَةٍ ) رواه البخاري . وعن جابر - رضي الله عنه - قال: ( لما قُتِل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه، أبكي وينهوني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله باجنحتها حتى رفعتموه ) رواه البخاري . وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يا جابر ما لي أراكَ منكسِرًا؟، قلتُ : يا رسولَ اللَّهِ استُشْهِدَ أبي قُتِلَ يومَ أُحُدٍ، وترَكَ عيالًا ودَيْنَاً، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أفلَا أبشِّرُكَ بما لقيَ اللَّهُ بِهِ أباك؟، قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابِ، وإنَّ اللَّهَ أحيا أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا (مواجهة) فقالَ : يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قال: يا ربِّ تُحييني فأُقتلَ فيك (في سبيلك) ثانية، قالَ الرَّبُّ تبارك وتعالَى : إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لا يُرجَعون، قال : فأنزل اللَّه تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }(آل عمران الآية 169 : 170) ) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني . وعن مسروق بن الأجدع قال: سألنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن هذه الآية :{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }، فقال: أما إنا قد سألنا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطَّلاعةً فقال: هل تشتهون شيئاً؟، قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا مِن أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا ) رواه مسلم . عَمْرُو بن الْجَمُوحِ - رضي الله عنه -: كان أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء يغزون مع النبي - صلى الله عليه وسلم ـ ويقاتلون معه، فلما توجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أُحُد أراد عمرو ـ رضي الله عنه ـ أن يخرج معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( إن بنِيَّ هؤلاء يمنعوني أن أجاهد معك، ووالله إني لأرجو أنْ أُستشهَدَ فأَطأَ بعرْجَتِي هذه في الجنةِ!!، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعل الله - عز وجل - أن يرزقه الشهادة؟، فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقُتِلَ يومَ أُحُدٍ شهِيدًا )، وفي رواية أخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عليه بعد ما قُتِلَ فقال -: ( كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة ) حسنه الألباني . عبد الله بن جحش - رضي الله عنه -: قصة استشهاده ـ رضي الله عنه ـ يرويها سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب ـ رضي الله عنه ـ فيقول: قال عبد الله بن جحش في غزوة أُحُد: " اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني بم ذاك؟، فأقول: فيك (في سبيلك) ) رواه الحاكم، قال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: " فلقد رأيتُهُ آخرَ النَّهارِ وإنَّ أنفَهُ وأذنَهُ لمعلَّقتانِ في خيط " . أنس بن النضر - رضي الله عنه -: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( غاب عِمِّي أنسُ بنُ النضرِ عن قتالِ بدر، فقال: يا رسول الله، غِبْتُ عن أولِ قتالٍ قاتلتَ المشركينَ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يوم أُحُد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ، وأبرأ مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة وربِّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع )، قال أنس: " فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتِلَ وقد مَثَّلَ به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه (أصبعه)، وقال: كنا نرى ـ أو نظن ـ أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب الآية : 23) ) رواه البخاري . لقد ضرب الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في غزوة أحد أروع الأمثلة في البطولة والاستشهاد، واستفادوا منها العبر والعظات، فما هُزِموا بعدها، لأنهم تجنبوا أسباب الهزيمة والخذلان، وقد أنزل الله - تعالى ـ فيما حدث في غزوة أحد قرآناُ يُتلى إلى يوم القيامة، يمسح به جراحات الصحابة، ويزيل عنهم ما أصابهم، ويستفيد منه المسلمون على مرِّ العصور، فقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران: 138 :142) .