بعد سبع سنوات من بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعاهد أئمة الكفر في مكة على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب لأنهم آزروا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكتبوا صحيفة بذلك علقوها على الكعبة، اتفقوا فيها على أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يتزاوجوا منهم حتى يسلموا لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقتلوه، وكتبوا صحيفة بهذا المعنى وعلقوها في جوف الكعبة لكي يعطوها معنى القداسة، وقد شملت هذه الصحيفة مناحي الحياة كلها، ولم تكن قاصرة على الجانب الاقتصادي فقط، فقد شملت الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وقد أنشد أبو طالب قصيدته الشهيرة في ذلك والتي جاء فيها: وَلَمَّا رَأَيْتُ القَوْمَ لا وُدَّ فيهِمُ***وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِل وَقَدْ صارَحُونا بالعَداوةِ وَالأَذى***وَقَد طاوَعُوا أَمْرَ العَدوَّ المُزايِل وَقَدْ حالَفُوا قَوْماً عَلَيْنا أَظِنَّةً***يَعَضُّونَ غَيْظا خَلْفَنا بِالأَنامِلِ وكان لتلك القصيدة مفعولها في حشد همم بني هاشم وبني عبد المطلب ودخولهم جميعاً مسلمهم ومشركهم في حلف الحماية والنصرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، علما بأن هذه النصرة كانت عصبية للقبيلة لا لنصرة للإسلام والدعوة، ومع ذلك قبل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك الحماية ليبين لنا جواز الاستفادة من الأعراف والتقاليد الجاهلية من أجل خدمة الإسلام وتطويعها وفق الشرع، لتكون وسيلة من وسائل النصرة والدعوة لدين الله تبارك وتعالى . شدة وبلاء: حاصرت وقاطعت قريش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه، ومنعت عنهم الطعام والشراب وكلَ ما يحتاجونه، فاشتد وعظم الأمر عليهم فأكلوا أوراق الشجر، وكلَّ شيء رطب، وكان صياحُ الصبيانِ يُسمع من وراء الشِعْب (الوادي)من شدة الجوع والمخمصة، قال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: " كنا قوما يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشدته، فلما أصابنا البلاء اعْتَرَفْنَا بذلك وصبَرْنَا له ومَرَنَّا علَيْه، ولقد رأيتني مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة خرجت من الليل أبول وإذا أنا أسمع بقعقعة (صوت) شيء تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين ثم استففتها وشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثا". وقال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ:"فحُصِرْنا في الشِعْبِ ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة (الطعام) حتى أن الرجل منا ليخرج بالنفقة فما يُبَايع حتى يرجع، حتى هلك منا مَن هلك". نقض الصحيفة: مرَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه في الشعب محاصرين ثلاث سنوات كاملة قاسوا خلالها من ويلات الحصار ما لم تشهده العرب ولا الإنسانية من قبل، حتى قيض الله ـ عز وجل ـ مِن مشركي مكة أنفسهم مَن مشى في نقض تلك الصحيفة الظالمة الجائرة، ففي المحرم سنة عشر من النبوة وبعد ثلاث سنوات من الحصار حدث نقض الصحيفة وفك الميثاق، وذلك أن قريشا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارها لها، وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي - وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفيا بالليل بالطعام - فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي - وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟، فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلا، قال: فمن هو؟، قال: أنا، قال له زهير: ابغنا رجلا ثالثا . فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكَّره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟، إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟، قال: أنا، قال: ابغنا ثالثا، قال قد فعلت، قال: من هو؟، قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعا. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟، قال: نعم، قال: من هو؟، قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: ابغنا خامسا. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟، قال: نعم ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم . فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد -: كذبت، والله لا تشق، فقال: زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت، قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به، قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشاوروا فيه بغير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة (حشرة مثل النملة)، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله ـ عز وجل ـ، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت . وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا:"باسمك اللهم"،وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله، ثم نقض الصحيفة، وخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه من الشعب. حُجة وعِناد: قيام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة والمعجزات الخارقة لا يؤثر في أصحاب الهوى والأحقاد، فقد رأى المشركون آية من آيات نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بإخباره لهم أن الأرضة قد أكلت صحيفتهم الظالمة إلا: " باسمك اللهم "، ولكنهم أعرضوا من هذه الآية وازدادوا كفرا إلى كفرهم، لأنهم أغلقوا قلوبهم وعقولهم عن التدبر، وأغمضوا أعينهم عن الاهتداء إلى الحق بعد قيام الأدلة عليه، حيث أيد الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحشرات الصغيرة التي أكلت ما في صحيفتهم من جور وظلم وقطيعة، ومع ذلك لم يصدقوا ويؤمنوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصدق فيهم قول الله تعالى: { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ }(الأنعام:33)، وقوله سبحانه: { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ }(القمر: 2) شكر النعم : لما أذن الله بنصر دينه، وإعزاز رسوله، وفتح مكة، ثم حجة الوداع، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر أن ينزل في خيف بني كنانة ليتذكر ما كان المسلمون فيه من الضيق والاضطهاد في مكة وفي شعب أبي طالب، وحينما سئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجته أين تنزل غدا؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، المحصب، حيث تقاسمت قريش على الكفر، وذلك أن بني كنانة حالفت قريش على بني هاشم أن لا يبايعوهم ولا يؤوهم ) رواه البخاري، والخيف: هو المكان الذي اجتمعت فيه قريش لعقد مقاطعتهم الظالمة . قال ابن حجر: " قيل إنما اختار النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه، فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم، وتمكنهم من دخول مكة ظاهرا، على رغم أنف من سعى في إخراجه منها " . لقد واجه المشركون دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأساليب مختلفة، للقضاء على هذا الدين الجديد وعلى أتباعه، وقد باءت تلك الوسائل بالفشل، فانتقلوا إلى أسلوب الحصار والمقاطعة والتجويع الذي اتفقوا عليه في صحيفتهم الظالمة، وهو أسلوب يلجأ إليه الأعداء ـ قديما وحديثا ـ عندما لا يتمكنوا من مقابلة الحُجَّة بالحُجة، وهدفه القضاء على المسلمين، أو إنزالهم عند شروطهم الظالمة، ولكن هيهات أن يتحقق لهم ذلك، فالمسلمون يستمدون قوتهم من الله تعالى، ويتحلون بالصبر والثبات على الحق، كما ثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه أمام هذه الصحيفة والمقاطعة، والتي كانت مرحلة مِن مراحلَ تربوية، صنعت جيلاً من الصحابة يستطيع أن يواجه الأهوال والمصاعب دون تردد أو ضعف، جيل تربى على يد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووصفهم الله تعالى بقوله: { مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }(الأحزاب:23)