إنه ذلك المرض ذو السمعة السيئة عند جميع الأمم والشعوب، والذي إذا ذُكر: تداعت إلى الأذهان أعداد ضحاياه التي تفوق الخيال، وارتبط اسمه بـــ"الوباء" في كثيرٍ من الأحيان بل هو أحد أبرز مظاهره.
الداء الوبيل الذي يثير اسمه الهلع ويهيج مشاعر القلق، وتم الاصطلاح عليه –كما نرى في كتب التاريخ- بالمرض الأسود، وكلّ باحثٍ في علوم الاجتماع يعلم يقيناً كيف صار أحد مصادر التشاؤم ورمزاً من أدبيات الرعب.
عن الطاعون نتحدث، وعنه نذكر ونتذكّر دليلاً من دلائل نبوّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، حينما جاءه الخبر من السماء بكارثةٍ إنسانيّة تحلّ في أمّته وأتباعه وتُفني منهم الخلق الكثير.
كان ذلك الإخبار في السنة التاسعة للهجرة، فقد أوضح لنا الصحابي الجليل عوف بن مالك رضي الله عنه عن خبر النبوءة، والوقت الذي قيلت فيه، والظروف التي صاحبتها، يقول عوف رضي الله عنه: أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قُبّة من أَدَم، فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة، موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتَان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا) رواه البخاري، والأَدَم: هو الجلد، والغاية: الراية.
هنا نرى النبي –صلى الله عليه وسلم- قد أخبر بست علاماتٍ تحدث من بعده وكلّها من أشراط الساعة، أما وفاته عليه الصلاة والسلام فكان في السنة الحادية عشرة من الهجرة، وأما فتح بيت المقدس فكان على يدي الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- سنة خمس عشرة للهجرة، وبعدها "الموتان" الذي أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بحلوله وحدوثه.
والموتان: بضم الميم وسكون الواو، وقيل: موتان بفتح الميم والواو، وفيها لغة أخرى: فتح الميم وإسكان الواو، وهي بمعنى انتشار الموت في الناس كانتشار النار في الهشيم، وقد شبّهه النبي –صلى الله عليه وسلم- بعقاص الغنم، وهو داءٌ يصيب الغنم، فيسيل من أنوفها شيء، ثم لا تلبث أن تموت.
يقول أحد شرّاح الحديث: "أراد بالمُوتان الوباء، وهو في الأصل موت يقع في الماشية، والميم منه مضمومة، واستعماله في الإنسان تنبيهٌ على وقوعه فيهم وقوعه في الماشية، فإنها تسلب سلباً سريعاً".
وحتى نفهم أكثر طبيعة هذا المرض الرهيب، يحسن بنا العودة إلى المراجع الطبيّة التي بيّنت حقيقة هذا المرض، فقد وصفوا الطاعون بأنه عدوى تهدد حياة الإنسان، ومنشأ هذه العدوى بكتريا تُعرف باسم "يرسِينيا بيستيس" Yersinia pestis، وتتواجد هذه البكتيريا في أجساد بعض القوارض كالفئران والجرذان، ثم يأتي دور البراغيث التي تصاب بها ثم تقوم بدورها في نقل عدوى الطاعون إلى الناس.
هذا ما تقوله علوم الطبيعة عن مرض الطاعون، ولنا نحن المسلمين إضافةٌ وتعقيب نستمدّه من السنّة، ومن خلاله نؤمن بأّنه مرضٌ جعله الله سبحانه وتعالى بلاءً للمؤمنين والكافرين على حدٍّ سواء، على أنه للمؤمنين رحمة، ولمن سواهم عذابٌ ونقمة، عن عائشة أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فقال عليه الصلاة والسلام : (إنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء ، فجعله الله رحمة للمؤمنين) رواه البخاري.
والذي يموت بسبب هذا المرض يعتبر من جملة الشهداء، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق: (ليس من عبدٍ يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، إلا كان له مثل أجر الشهيد) رواه البخاري.
وعن حفصة بنت سيرين أن أنس بن مالك رضي الله عنه سألها : بم مات يحيى بن أبي عمرة ؟ فقالت : بالطاعون ، فقال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (الطاعون شهادة لكل مسلم) أخرجه البخاري .
وعن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يأتي الشهداء والمتوفّون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيُقال: انظروا، فإن كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً ريح المسك، فهم شهداء. فيجدونهم كذلك) رواه أحمد والطبراني.
وقد وقع الطاعون الذي أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم- زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سنة ثمان عشرة للهجرة ، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، في بلدةٍ يُقال لها: عمواس ومات بسببه جماعات من سادات الصحابة، منهم معاذ بن جبل، وأبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو جندل سهل بن عمر وأبوه، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم أجمعين.
وتكلّم المؤرّخون كثيراً كيف استقبل المسلمون هذه الظاهرة الجديدة عليهم بشيء من الارتباك واختلاف المواقف؛ إذ لا سابقة لهم في التعامل مع أمثال هذه الأوبئة العامة، فمنهم من دعا إلى الفرار والهروب إلى الدول المجاورة، ومنهم من نظر إلى هذه الدعوة بأنها فرارٌ من قدرٍ محتوم، وأجلٍ مقسوم، ومما اشتهر في شأن طاعون عمواس الحوار الذي دار بين أبي عبيدة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، إذ قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيتَ الخصبة رعيتَها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتَها بقدر الله؟ قال: نعم.
وقد آثر أبو عبيدة رضي الله عنه البقاء في عمواس، ورفض دعوة عمر رضي الله عنه بمفارقة مكان الوباء، حتى أصابه الطاعون، فقام في الناس خطيبا فقال: "أيها الناس، إن هذا الوجع رحمةٌ بكم، ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظّه"، ثم مات وقد استخلف على الناس معاذ بن جبل رضي الله عنهم، فقام خطيباً وقال نحو ما قال أبو عبيدة رضي الله عنه،فأصيب ولده عبد الرحمن بالطاعون فمات، ثم أصيب هو بالطاعون، وكان مبدأ المرض في يده، يقول أحد الرواة: "لقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيكِ، شيئاً من الدنيا" وذلك منه استحضاراً للأجور العظيمة المترتّبة عليه.
وقد أصرّ الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يترك المدينة ويتوجّه إلى الشام ليقف بنفسه على الكارثة التي أودت بحياة ثلاثين ألفاً –وقيل سبعين ألف- في ثلاثة أيام، رغبةً منه في الإشراف على شؤون المسلمين والنظر في كيفيّة التعامل مع الحدث.
وواجه المسلمون تحدّياً جديدياً في مسألة قسمة المواريث وإشكالاتها المتعلّقة بموت الورثة وورثتهم على نحوٍ متعاقبٍ سريع، فصار من الصعوبةِ بمكان أن يُتعامل مع هذا الواقع الجديد وقسمة المواريث بالطرق الاعتياديّة السابقة.
وقد تولّى الخليفة عمر رضي الله عنه القسمة بنفسه، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقطعت أطماع الأعداء في استغلال هذه الفوضى باستباحة الأراضي والقضاء على الوجود الإسلامي.
وعاش المسلمون في ظلّ هذا الوباء أيّاماً عصيبة، حتى كانت نهايته على يد العبقري عمرو بن العاص رضي الله عنه، فحينما مات معاذ رضي الله عنه واستخلف عمرو بن العاص قام في الناس خطيباً فقال: "أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصّنوا منه في الجبال" وكأنّه يعني أن حال هذا الوباء كحال النار، فإذا لم تجد النار ما تحرقها خمدت، فكانت نصيحته للناس أن يتفرّقوا في النواحي شيئاً من الزمن، وبهذه النظرة السديدة ارتفع الوباء وانتهى ، ولله الحمد والمنّة.
وختاماً: يُذكر في هذا السياق حديث سعد بن معاذ رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (.. فإذا كان بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرض، فلا تدخلوها) رواه أحمد، وقد مرّ معنا حيرة الصحابة في دخول موطن الطاعون من عدمه، حتّى قال الطبّ كلمته في عصرنا الحالي، مبيّناً ومن خلال المنهج التجريبي أن المتواجد في الأرض الموبوءة قد يكون حاملاً للفيروس المسبّب للمرض دون أن تظهر عليه أعراضه، فيكون خروجه من موطن الوباء سبباً في انتشاره في مواطن أخرى، وعليه: يكون الحجر الصحّي هو أنجع الوسائل في السيطرة على الوباء ومنعه من الانتشار، وهو ما جاء الأمر به في الحديث النبويّ الشريف، ولذلك اعتبر كثيرٌ من العلماء أن هذا الحديث داخلٌ في جملة الأحاديث المتعلّقة بالإعجاز العلميّ، والتي تدلّ على أن نبينا –صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، بل هو الوحي من ربّ السماء.
الداء الوبيل الذي يثير اسمه الهلع ويهيج مشاعر القلق، وتم الاصطلاح عليه –كما نرى في كتب التاريخ- بالمرض الأسود، وكلّ باحثٍ في علوم الاجتماع يعلم يقيناً كيف صار أحد مصادر التشاؤم ورمزاً من أدبيات الرعب.
عن الطاعون نتحدث، وعنه نذكر ونتذكّر دليلاً من دلائل نبوّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، حينما جاءه الخبر من السماء بكارثةٍ إنسانيّة تحلّ في أمّته وأتباعه وتُفني منهم الخلق الكثير.
كان ذلك الإخبار في السنة التاسعة للهجرة، فقد أوضح لنا الصحابي الجليل عوف بن مالك رضي الله عنه عن خبر النبوءة، والوقت الذي قيلت فيه، والظروف التي صاحبتها، يقول عوف رضي الله عنه: أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قُبّة من أَدَم، فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة، موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتَان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا) رواه البخاري، والأَدَم: هو الجلد، والغاية: الراية.
هنا نرى النبي –صلى الله عليه وسلم- قد أخبر بست علاماتٍ تحدث من بعده وكلّها من أشراط الساعة، أما وفاته عليه الصلاة والسلام فكان في السنة الحادية عشرة من الهجرة، وأما فتح بيت المقدس فكان على يدي الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- سنة خمس عشرة للهجرة، وبعدها "الموتان" الذي أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بحلوله وحدوثه.
والموتان: بضم الميم وسكون الواو، وقيل: موتان بفتح الميم والواو، وفيها لغة أخرى: فتح الميم وإسكان الواو، وهي بمعنى انتشار الموت في الناس كانتشار النار في الهشيم، وقد شبّهه النبي –صلى الله عليه وسلم- بعقاص الغنم، وهو داءٌ يصيب الغنم، فيسيل من أنوفها شيء، ثم لا تلبث أن تموت.
يقول أحد شرّاح الحديث: "أراد بالمُوتان الوباء، وهو في الأصل موت يقع في الماشية، والميم منه مضمومة، واستعماله في الإنسان تنبيهٌ على وقوعه فيهم وقوعه في الماشية، فإنها تسلب سلباً سريعاً".
وحتى نفهم أكثر طبيعة هذا المرض الرهيب، يحسن بنا العودة إلى المراجع الطبيّة التي بيّنت حقيقة هذا المرض، فقد وصفوا الطاعون بأنه عدوى تهدد حياة الإنسان، ومنشأ هذه العدوى بكتريا تُعرف باسم "يرسِينيا بيستيس" Yersinia pestis، وتتواجد هذه البكتيريا في أجساد بعض القوارض كالفئران والجرذان، ثم يأتي دور البراغيث التي تصاب بها ثم تقوم بدورها في نقل عدوى الطاعون إلى الناس.
هذا ما تقوله علوم الطبيعة عن مرض الطاعون، ولنا نحن المسلمين إضافةٌ وتعقيب نستمدّه من السنّة، ومن خلاله نؤمن بأّنه مرضٌ جعله الله سبحانه وتعالى بلاءً للمؤمنين والكافرين على حدٍّ سواء، على أنه للمؤمنين رحمة، ولمن سواهم عذابٌ ونقمة، عن عائشة أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فقال عليه الصلاة والسلام : (إنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء ، فجعله الله رحمة للمؤمنين) رواه البخاري.
والذي يموت بسبب هذا المرض يعتبر من جملة الشهداء، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق: (ليس من عبدٍ يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، إلا كان له مثل أجر الشهيد) رواه البخاري.
وعن حفصة بنت سيرين أن أنس بن مالك رضي الله عنه سألها : بم مات يحيى بن أبي عمرة ؟ فقالت : بالطاعون ، فقال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (الطاعون شهادة لكل مسلم) أخرجه البخاري .
وعن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يأتي الشهداء والمتوفّون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيُقال: انظروا، فإن كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً ريح المسك، فهم شهداء. فيجدونهم كذلك) رواه أحمد والطبراني.
وقد وقع الطاعون الذي أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم- زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سنة ثمان عشرة للهجرة ، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، في بلدةٍ يُقال لها: عمواس ومات بسببه جماعات من سادات الصحابة، منهم معاذ بن جبل، وأبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو جندل سهل بن عمر وأبوه، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم أجمعين.
وتكلّم المؤرّخون كثيراً كيف استقبل المسلمون هذه الظاهرة الجديدة عليهم بشيء من الارتباك واختلاف المواقف؛ إذ لا سابقة لهم في التعامل مع أمثال هذه الأوبئة العامة، فمنهم من دعا إلى الفرار والهروب إلى الدول المجاورة، ومنهم من نظر إلى هذه الدعوة بأنها فرارٌ من قدرٍ محتوم، وأجلٍ مقسوم، ومما اشتهر في شأن طاعون عمواس الحوار الذي دار بين أبي عبيدة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، إذ قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيتَ الخصبة رعيتَها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتَها بقدر الله؟ قال: نعم.
وقد آثر أبو عبيدة رضي الله عنه البقاء في عمواس، ورفض دعوة عمر رضي الله عنه بمفارقة مكان الوباء، حتى أصابه الطاعون، فقام في الناس خطيبا فقال: "أيها الناس، إن هذا الوجع رحمةٌ بكم، ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظّه"، ثم مات وقد استخلف على الناس معاذ بن جبل رضي الله عنهم، فقام خطيباً وقال نحو ما قال أبو عبيدة رضي الله عنه،فأصيب ولده عبد الرحمن بالطاعون فمات، ثم أصيب هو بالطاعون، وكان مبدأ المرض في يده، يقول أحد الرواة: "لقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيكِ، شيئاً من الدنيا" وذلك منه استحضاراً للأجور العظيمة المترتّبة عليه.
وقد أصرّ الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يترك المدينة ويتوجّه إلى الشام ليقف بنفسه على الكارثة التي أودت بحياة ثلاثين ألفاً –وقيل سبعين ألف- في ثلاثة أيام، رغبةً منه في الإشراف على شؤون المسلمين والنظر في كيفيّة التعامل مع الحدث.
وواجه المسلمون تحدّياً جديدياً في مسألة قسمة المواريث وإشكالاتها المتعلّقة بموت الورثة وورثتهم على نحوٍ متعاقبٍ سريع، فصار من الصعوبةِ بمكان أن يُتعامل مع هذا الواقع الجديد وقسمة المواريث بالطرق الاعتياديّة السابقة.
وقد تولّى الخليفة عمر رضي الله عنه القسمة بنفسه، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقطعت أطماع الأعداء في استغلال هذه الفوضى باستباحة الأراضي والقضاء على الوجود الإسلامي.
وعاش المسلمون في ظلّ هذا الوباء أيّاماً عصيبة، حتى كانت نهايته على يد العبقري عمرو بن العاص رضي الله عنه، فحينما مات معاذ رضي الله عنه واستخلف عمرو بن العاص قام في الناس خطيباً فقال: "أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصّنوا منه في الجبال" وكأنّه يعني أن حال هذا الوباء كحال النار، فإذا لم تجد النار ما تحرقها خمدت، فكانت نصيحته للناس أن يتفرّقوا في النواحي شيئاً من الزمن، وبهذه النظرة السديدة ارتفع الوباء وانتهى ، ولله الحمد والمنّة.
وختاماً: يُذكر في هذا السياق حديث سعد بن معاذ رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (.. فإذا كان بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرض، فلا تدخلوها) رواه أحمد، وقد مرّ معنا حيرة الصحابة في دخول موطن الطاعون من عدمه، حتّى قال الطبّ كلمته في عصرنا الحالي، مبيّناً ومن خلال المنهج التجريبي أن المتواجد في الأرض الموبوءة قد يكون حاملاً للفيروس المسبّب للمرض دون أن تظهر عليه أعراضه، فيكون خروجه من موطن الوباء سبباً في انتشاره في مواطن أخرى، وعليه: يكون الحجر الصحّي هو أنجع الوسائل في السيطرة على الوباء ومنعه من الانتشار، وهو ما جاء الأمر به في الحديث النبويّ الشريف، ولذلك اعتبر كثيرٌ من العلماء أن هذا الحديث داخلٌ في جملة الأحاديث المتعلّقة بالإعجاز العلميّ، والتي تدلّ على أن نبينا –صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، بل هو الوحي من ربّ السماء.