هل يجوز شرعا تشخيص نبي من الأنبياء أو زوجه أو ولده أو والده أو والدته؟
الإجابة لفضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر السابق -رحمه الله-:
إن القصص القرآني على تنوعه ليس مجرد معجزة في أسلوبه وصياغته، وإنما هو مضمون موضوعي مقيد بغرض ديني يهدف إلى إبانته وتحقيقه وإقراره، فالقصة تتكرر في غير موضع، وتصاغ في عبارات متغايرة، وفى كل مرة تدعو دعوة مباشرة لشيء، وفى ذات الوقت لا تنفك عن إعجاز القرآن، ومع هذا وذاك تبتعد عن الخيال، وكيف يحتويها أو يحوطها خيال والقرآن كلمة الله.
ومن بين قصص القرآن كانت قصص الأنبياء -عليهم السلام- جاءت تصحيحًا لمفاهيم خاطئة امتلأت بها كتب الديانات السابقة المحرفة، كما جاءت مبينة لما كان لهم من شرائع درست بنبذ أهلها إياها، وتحدث القرآن الكريم عن أنبياء الله ورسله باعتبارهم المصطفين الأخيار من بني الإنسان، ومع هذا فهم بشر يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام ويجري عليهم الموت.
اختارهم الله لما علمه فيهم سلفًا من نقاء وفضل، فهم أفضل بشر على الإطلاق وإن تفاوتوا في الفضل فيما بينهم قال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ)، وهم بهذه المنزلة أعز من أن يمثلهم أو يتمثل بهم إنسان أو حتى شيطان، فقد عصمهم الله واعتصموا به فلم يزلوا، لأن لهم عصمة تصونهم وتقودهم بعيدًا عن الخطايا الكبار والصغار قبل الرسالة وبعدها.
يدلنا على هذه الحصانة -كما نسميها في تعبيراتنا العصرية- الحديث الشريف الذي رواه أنس -رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي)، وفى رواية أبى هريرة -رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولكأنما رآني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) -متفق على صحته-، وهذا واضح الدلالة في أن الشيطان لا يظهر في صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- عيانًا أو منامًا، صونًا من الله لرسله وعصمة لسيرتهم، بعد أن عصم ذواتهم ونفوسهم.
وإذا كان هذا الحديث الشريف يقودنا إلى أن الله قد عصم خاتم الرسل -عليه والصلاة والسلام- من أن يتقمص صورته شيطان، فإن فقه هذا المعنى أنه يحرُم على أي إنسان أن يتقمص شخصيته ويقوم بدوره. وإذا كان هذا هو الحكم والفقه في جانب الرسول الخاتم فإنه أيضًا الحكم بالنسبة لمن سبق من الرسل، لأن القرآن الكريم جعلهم في مرتبة واحدة من حيث التكريم والعصمة، فإذا امتنعوا بعصمة من الله أن يتمثلهم الشيطان امتدت هذه العصمة إلى بني الإنسان، فلا يجوز لهم أن يمثلوا شخصيات الرسل؛ إذ لا يوجد الإنسان الذي ابيضت صفحته، وظهرت سريرته، ونقّاه الله من الخطايا والدنايا كما عصم أنبياءه ورسله، ويستدل على ذلك من قول الله -سبحانه-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، وإذا كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب كما قال القرآن (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى (، فإن القصة لا تستفاد منها العبرة آخذة بالنفوس إلا إذا كانت من الإنسان الذي اصطفاه الله واختاره لإبلاغ الرسالة وإنقاذ أمته، وكيف تتأتى الاستفادة من تمثيل إنسان لشخص نبي ومن قبل مثل شخص عربيد مقامر سكير رفيق حانات وأخ للدعارة والداعرات، ومن بعد يمثل كل أولئك أو كثيرًا منهم.
إنه جميل جدًا أن نتجه إلى القصص الديني القرآني نعرضه بطرق العصر ولغته ومواده ونقربه إلى أذهان أولادنا بدلاً من القصص المستورد الذي يحرض على التحلل والانحلال.
نعم، إن هذا أمر محمود، لكن لا بد فيه من الالتزام بآداب الإسلام ونصوص القرآن ولنصور الوقائع كما حكاها القرآن واقعًا لا خيال فيه، ولنحجب شخص النبي الذي نعرض قصصه مع قومه، فلا يتمثله أحد، وإنما نسمع صوت من يردد إبلاغه الرسالة ومحاجته لقومه وإبانته لمعجزته كما أوردها القرآن الكريم. فإظهار شخص متحدث باسم رسول الله موسى -عليه السلام- مثلاً وقت النطق بما يردده من أقوال هذا النبي يكون منافيًا لالتزامنا نحن المسلمين نحو الأنبياء من التكريم والتوقير والارتفاع عن الغض من مكانتهم التي صانها الله.
كما أن النبي هارون وأم موسى وأخته وزوجه يأخذون هذا الحكم، فلا يجوز أن يتقمص أشخاصهم أحد من الممثلين، بل نسمع الأقوال المنسوبة إليهم نطقًا، لأن الله -سبحانه- كرّم أمَّ موسى بقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (، وأيا ما كان معنى هذا الوحي وطرقه فهو وحي من الله إلى من اصطفاها أمًّا لنبيه ترتفع به عن مستوى الغير فلا تتمثلها امرأة مع الاحترام لأشخاص من يقوم بهذا التمثيل، وهذه أخته وهذه زوجه لكل منهما مكانتها وموضعها الذي رفعها الله إليه في قرآنه، ثم هذا النبي هارون شريك موسى في الرسالة قال تعالى: (هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)، وإن فقه كل ذلك يجعل لأولئك مكانًا علينا بالتبع لهذا النبي إن لم يكن لذواتهم التي كرّمها الله وشرفها بالوحي. ولعلنا نسترشد في هذا المعنى بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حق نفسه ونشأته ونسبه (أنا خيار من خيار)، وهذا الحكم -كما سبق- يمتد إلى غيره ممن سبقه من الأنبياء.