حتى الظلام الدامس تجدُ فيه بصيصاً من نور، وحتى جاهليّة ما قبل الإسلام وما فيها من مظاهر الشرك وألوان الوثنيّة كان فيها ما يستحق الإعجاب والتأمّل، وبين يدينا مظاهر اجتماعيّة وعباديّةٌ كانت للمنهج السماوي حيالها وقفة تصحيح للتصوّرات، وتقويم لانحرافات عقديّة وفكريّة، فما هي تلك المظاهر التي كانت عند الجاهليّة؟ وكيف قام الإسلام بتصحيحها وتقويمها؟
لنعد قليلاً إلى الوراء، وتحديداً قبل البعثة بسنين طويلة، ولنتجه صوب مكّة التي احتوت بين جنباتها أوّل بيتٍ مبارك وُضع للناس، ذلك البيت العتيق الذي أعاد إبراهيم عليه السلام بناءه، وشهد موجاتٍ من الاهتمام تارة، والإهمال تارات، حتى صار الأمر بيد قريش، التي كانت تسمح للناس على مختلف مللهم ونحلهم بالطواف حول هذا البيت المقدّس، ليكون مثابةً للناسِ وأمناً.
صحيح أنه كانت لقريشٍ كثير من عادات الجاهليّة الرعناء، وصحيحٌ أنها كانت تعاني الكثير من الانحرافات العقديّة واللوثات الشركيّة والانحلال الخلقي، إلا أن ذلك لم يمنعها من تعظيم البيت الحرام من خلال عددٍ من الأعمال التي شهد لها التاريخ بالقيام بها، والاعتناء بشأنها، نذكر من ذلك:
سقاية الحجاج
المقصود بـ (سقاية الحاج) القيام على توفير المياه لزوّار المسجد الحرام؛ فمن المعلوم أن مكّة بطبيعتها شحيحة الماء، ولا يمكن بحالٍ أن تُوصف أرضُها بالوفرة المائية نتيجةً لموقعها الجغرافي، وكان الاعتماد الأساسي لهم على نوادر الأمطار إضافةً للمياه الجوفيّة.
ولمكانة البيت المقدّس عند أهالي الجزيرة العربيّة، كانت العرب تفد إلى مكة بأعداد كبيرة من مختلف المناطق، أما والحال هذه، وقد أخذت قريشٌ على عاتقها مهمة توفير المياه لهؤلاء الحجاج والزوّار، وما يستدعيه ذلك من حفرٍ منتظم للآبار بما يتناسب مع أعداد القادمين؛ لئلا يلقى الحاج من قلة الماء ما يضطرّه إلى الخروج من مكة، أو العزوف عن القدوم إليها.
وقد قيل: إن أول من سقى الحجيج هو قصي بن كلاب، ذلك أنه لما جمع قريشاً أخذ سدانة الكعبة من خزاعة، وجعل السقاية لعبد الدار بن قصي، الذي قام بها خير قيام، وتوارثوها حتى وصلت للعباس رضي الله عنه، حيث استمرت معه حتى ظهر الإسلام.
حكى الأزرقي في كتابه تاريخ مكة: أن السقاية حياضٌ من أُدُم -أي: جلد- كانت على عهد قصي بن كلاب توضع بفناء الكعبة، يُستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقاه الحاج، فجعل قصي عند موته أمر السقاية لابنه عبد مناف، ولم تزل مع عبد مناف يقوم بها، فكان يسقي الماء من الآبار إلى أن مات.
وكنوعٍ من المبالغة في الكرم، لم يكتفِ القرشيّون بسقيا الحجاج من الماء، بل كانوا يأخذون النبيذ -وهو شرابٌ لذيذ غير مسكر- والشراب الطيب، ويجعلونه في الموسم في الأماكن التي تغشاها الناس، فيأتي الناس فيشربون منها.
رفادة الحجاج
(الرفادة) كما يعرّفها ابن الأثير: "شيء كانت قريش تترافدُ به في الجاهلية: أي تتعاون، فيُخرج كل إنسان بقدر طاقته، فيجمعون مالاً عظيماً، فيشترون به الطعام، ويطعمون الناس أيام موسم الحج حتى ينقضي".
وصاحب الفضل لهذه المكرمة العربيّة هو قصي بن كلاب، فقد قرّر على بطون قريش التزاماً ماليًّا، أو عينيًّا، يتعلّق بإكرام ضيوف البيت الحرام، فيشترون به الأنعام، ويذبحونها، ثم يوزعون لحومها على الحجاج، وليس ذلك فحسب، بل ربما اشتروا به الكعك والسويق، وهو الطعام الذي يُصنع مدقوق الحنطة والشعير.
إن هذه الرفادة كانت عظيمة الأثر، ومحلاً للتقدير عند وفود البيت الحرام؛ لأن الجزيرة العربية بطبيعتها قليلة الطعام، وكان الزاد المحمول معهم قليلاً غير كلف في العموم، ولاسيما عند بُعد المسافة، ثم إن إطعام الطعام وإكرام الضيوف كان من أكبر المحامد في المجتمعات العربيّة، فكان ذلك سبباً في إنزال أهل مكّة منزلاً في النفوس ليس لغيرهم من القرى.
عمارة المسجد الحرام
في الوقت الذي لم ترعَ القبائل الأوائل أمر الكعبة حق الرعاية، بما استحلّوه من حرمة البيت وبظلمهم لزوّار البيت العتيق، وارتكابهم للآثام العظيمة والمنكرات الشنيعة بين يدي الكعبة المشرّفة، آل أمرُ الكعبة بعد أزمانٍ متطاولة إلى قصي بن كلاب، وبنيه من بعده، بعد أن جمّع قبائل قريش من حولِه ورسم لهم مساراً واضحاً من تقدير حرمة المكان وتقديسه وتعظيم شعائره، حتى بل الأمر بالناس عدم الجرأة على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسهاً.
ولأن الكعبة بطبيعتها كانت بحاجةٍ دوريّة للترميم والصيانة نتيجة للعوامل الطبيعية القاسية، تعاهد القرشيّون هذه المهمة العظيمة، وتوارثوها حتى وصل الأمر إلى عبد المطلب بن هاشم جد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا ننسى قصّة اجتماع قريش لتجديد بناء الكعبة لِما أصابها من تصدع جدرانها، وقد تم تقسيم العمل في بناء الكعبة بين القبائل، وتولت كل واحدة منها ناحية من نواحي الكعبة، وهذه من عمارة المسجد الحرام.
المفاخرة المنحرفة بهذه الفضائل
لا شك أن الأعمال السابقة المذكورة كانت محلّ تقدير، والعدلُ يقتضي أن نشهد بالحق لمن قام بها، ولكن، كيف تعامل أهل مكة مع هذه الأعمال؟
يخبرنا التاريخ أنهم أعطوها من المكانة قوق الذي تستحقّه، فجعلوها أفضل من الإيمان بالله واليوم الآخر، ورفعوها فوق منزلة الأعمال الصالحة العظام كالجهاد في سبيل الله. روى الطبري بإسناده أن المشركين سألوا اليهود قائلين: نحن سقاة الحاج، وعمَّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه، فقالت اليهود عناداً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنتم أفضل. وروى ابن عباس رضي الله عنهما، أن أباه العباس قال حين أسر يوم بدر -قبل إسلامه-: "لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، ونفك العاني".
وكان القرشيّون يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعمَّاره، ويقولون: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وقد ذكر الله استكبارهم وإعراضهم ذامًّا لهم، وموبّخاً في قوله سبحانه: {مستكبرين به سامرا تهجرون} (المؤمنون:67).
الجواب الإلهي
أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيّن مكانة الإيمان الحقيقيّة، فجاء الرد مخاطباً مشركي قريش، منكراً أن تكون سقاية الحجيج، ورفادة الزوّار، ورعاية بيت الله الحرام، أهلاً للمقارنة بأصل المعتقدات: الإيمان بالله واليوم الآخر، وبأعمال صالحة كالجهاد والهجرة، قال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين* الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} (التوبة:19-20).
نعم: تلك السقاية والرعاية والرفادة أعمالٌ عظيمةٌ تُذكر فتُشكر، ولكن ما فائدتها وقد خالطت ما يُبطل فضلها، ويُذهب أجرها؟ إن الإيمان هو أصل الأصول الذي به تُقبل الأعمال الصالحة، وإلا فهي هباءٌ منثورٌ لا قيمة له، قال سبحانه: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (الفرقان:23)، وقال سبحانه: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} (إبراهيم:18).
وفي هذا درسٌ بليغ للمتأثّرين بأصحاب الأعمال الإنسانيّة العظيمة من اليهود والنصارى، الذين يقومون بالأعمال الإغاثيّة، ويرسلون الحملات الطبيّة المتعلّقة بالأوبئة والدفاع عن حقوق المستضعفين، وغيرها من الأعمال الجليلة، إننا لا نُنكر فضلها وحُسنها، لكن نفعها لا يعود لأصحابِها ما داموا قد نقضوا الأصل المستوجب للأجر والمثوبة، وهو الإيمان بالله، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون؛ وصدق فيهم قوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) رواه مسلم؛ لأن المشركين ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان بوحدانية الله جل وعلا. لكن الله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين وأعدلهم، يجزيهم على ما قاموا به من الأعمال الخيرة إحساناً في الدنيا، فيدفع عنهم من الضر أو البلاء ما يكون مقابلاً لما قاموا به من أعمال الطيبة.
أخيراً: إن معرفة الخسران العظيم الذي يحيق بأعمال المشركين الخيّرة، يدعونا إلى دعوتهم إلى الحق حتى يشاطروا أهل الإيمان الأجر الحقيقي من ثواب الآخرة، نسأل الله أن يهدي أهل الضلال ويعيدهم إلى الحق.
لنعد قليلاً إلى الوراء، وتحديداً قبل البعثة بسنين طويلة، ولنتجه صوب مكّة التي احتوت بين جنباتها أوّل بيتٍ مبارك وُضع للناس، ذلك البيت العتيق الذي أعاد إبراهيم عليه السلام بناءه، وشهد موجاتٍ من الاهتمام تارة، والإهمال تارات، حتى صار الأمر بيد قريش، التي كانت تسمح للناس على مختلف مللهم ونحلهم بالطواف حول هذا البيت المقدّس، ليكون مثابةً للناسِ وأمناً.
صحيح أنه كانت لقريشٍ كثير من عادات الجاهليّة الرعناء، وصحيحٌ أنها كانت تعاني الكثير من الانحرافات العقديّة واللوثات الشركيّة والانحلال الخلقي، إلا أن ذلك لم يمنعها من تعظيم البيت الحرام من خلال عددٍ من الأعمال التي شهد لها التاريخ بالقيام بها، والاعتناء بشأنها، نذكر من ذلك:
سقاية الحجاج
المقصود بـ (سقاية الحاج) القيام على توفير المياه لزوّار المسجد الحرام؛ فمن المعلوم أن مكّة بطبيعتها شحيحة الماء، ولا يمكن بحالٍ أن تُوصف أرضُها بالوفرة المائية نتيجةً لموقعها الجغرافي، وكان الاعتماد الأساسي لهم على نوادر الأمطار إضافةً للمياه الجوفيّة.
ولمكانة البيت المقدّس عند أهالي الجزيرة العربيّة، كانت العرب تفد إلى مكة بأعداد كبيرة من مختلف المناطق، أما والحال هذه، وقد أخذت قريشٌ على عاتقها مهمة توفير المياه لهؤلاء الحجاج والزوّار، وما يستدعيه ذلك من حفرٍ منتظم للآبار بما يتناسب مع أعداد القادمين؛ لئلا يلقى الحاج من قلة الماء ما يضطرّه إلى الخروج من مكة، أو العزوف عن القدوم إليها.
وقد قيل: إن أول من سقى الحجيج هو قصي بن كلاب، ذلك أنه لما جمع قريشاً أخذ سدانة الكعبة من خزاعة، وجعل السقاية لعبد الدار بن قصي، الذي قام بها خير قيام، وتوارثوها حتى وصلت للعباس رضي الله عنه، حيث استمرت معه حتى ظهر الإسلام.
حكى الأزرقي في كتابه تاريخ مكة: أن السقاية حياضٌ من أُدُم -أي: جلد- كانت على عهد قصي بن كلاب توضع بفناء الكعبة، يُستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، ويسقاه الحاج، فجعل قصي عند موته أمر السقاية لابنه عبد مناف، ولم تزل مع عبد مناف يقوم بها، فكان يسقي الماء من الآبار إلى أن مات.
وكنوعٍ من المبالغة في الكرم، لم يكتفِ القرشيّون بسقيا الحجاج من الماء، بل كانوا يأخذون النبيذ -وهو شرابٌ لذيذ غير مسكر- والشراب الطيب، ويجعلونه في الموسم في الأماكن التي تغشاها الناس، فيأتي الناس فيشربون منها.
رفادة الحجاج
(الرفادة) كما يعرّفها ابن الأثير: "شيء كانت قريش تترافدُ به في الجاهلية: أي تتعاون، فيُخرج كل إنسان بقدر طاقته، فيجمعون مالاً عظيماً، فيشترون به الطعام، ويطعمون الناس أيام موسم الحج حتى ينقضي".
وصاحب الفضل لهذه المكرمة العربيّة هو قصي بن كلاب، فقد قرّر على بطون قريش التزاماً ماليًّا، أو عينيًّا، يتعلّق بإكرام ضيوف البيت الحرام، فيشترون به الأنعام، ويذبحونها، ثم يوزعون لحومها على الحجاج، وليس ذلك فحسب، بل ربما اشتروا به الكعك والسويق، وهو الطعام الذي يُصنع مدقوق الحنطة والشعير.
إن هذه الرفادة كانت عظيمة الأثر، ومحلاً للتقدير عند وفود البيت الحرام؛ لأن الجزيرة العربية بطبيعتها قليلة الطعام، وكان الزاد المحمول معهم قليلاً غير كلف في العموم، ولاسيما عند بُعد المسافة، ثم إن إطعام الطعام وإكرام الضيوف كان من أكبر المحامد في المجتمعات العربيّة، فكان ذلك سبباً في إنزال أهل مكّة منزلاً في النفوس ليس لغيرهم من القرى.
عمارة المسجد الحرام
في الوقت الذي لم ترعَ القبائل الأوائل أمر الكعبة حق الرعاية، بما استحلّوه من حرمة البيت وبظلمهم لزوّار البيت العتيق، وارتكابهم للآثام العظيمة والمنكرات الشنيعة بين يدي الكعبة المشرّفة، آل أمرُ الكعبة بعد أزمانٍ متطاولة إلى قصي بن كلاب، وبنيه من بعده، بعد أن جمّع قبائل قريش من حولِه ورسم لهم مساراً واضحاً من تقدير حرمة المكان وتقديسه وتعظيم شعائره، حتى بل الأمر بالناس عدم الجرأة على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسهاً.
ولأن الكعبة بطبيعتها كانت بحاجةٍ دوريّة للترميم والصيانة نتيجة للعوامل الطبيعية القاسية، تعاهد القرشيّون هذه المهمة العظيمة، وتوارثوها حتى وصل الأمر إلى عبد المطلب بن هاشم جد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا ننسى قصّة اجتماع قريش لتجديد بناء الكعبة لِما أصابها من تصدع جدرانها، وقد تم تقسيم العمل في بناء الكعبة بين القبائل، وتولت كل واحدة منها ناحية من نواحي الكعبة، وهذه من عمارة المسجد الحرام.
المفاخرة المنحرفة بهذه الفضائل
لا شك أن الأعمال السابقة المذكورة كانت محلّ تقدير، والعدلُ يقتضي أن نشهد بالحق لمن قام بها، ولكن، كيف تعامل أهل مكة مع هذه الأعمال؟
يخبرنا التاريخ أنهم أعطوها من المكانة قوق الذي تستحقّه، فجعلوها أفضل من الإيمان بالله واليوم الآخر، ورفعوها فوق منزلة الأعمال الصالحة العظام كالجهاد في سبيل الله. روى الطبري بإسناده أن المشركين سألوا اليهود قائلين: نحن سقاة الحاج، وعمَّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه، فقالت اليهود عناداً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنتم أفضل. وروى ابن عباس رضي الله عنهما، أن أباه العباس قال حين أسر يوم بدر -قبل إسلامه-: "لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، ونفك العاني".
وكان القرشيّون يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعمَّاره، ويقولون: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وقد ذكر الله استكبارهم وإعراضهم ذامًّا لهم، وموبّخاً في قوله سبحانه: {مستكبرين به سامرا تهجرون} (المؤمنون:67).
الجواب الإلهي
أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيّن مكانة الإيمان الحقيقيّة، فجاء الرد مخاطباً مشركي قريش، منكراً أن تكون سقاية الحجيج، ورفادة الزوّار، ورعاية بيت الله الحرام، أهلاً للمقارنة بأصل المعتقدات: الإيمان بالله واليوم الآخر، وبأعمال صالحة كالجهاد والهجرة، قال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين* الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} (التوبة:19-20).
نعم: تلك السقاية والرعاية والرفادة أعمالٌ عظيمةٌ تُذكر فتُشكر، ولكن ما فائدتها وقد خالطت ما يُبطل فضلها، ويُذهب أجرها؟ إن الإيمان هو أصل الأصول الذي به تُقبل الأعمال الصالحة، وإلا فهي هباءٌ منثورٌ لا قيمة له، قال سبحانه: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (الفرقان:23)، وقال سبحانه: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} (إبراهيم:18).
وفي هذا درسٌ بليغ للمتأثّرين بأصحاب الأعمال الإنسانيّة العظيمة من اليهود والنصارى، الذين يقومون بالأعمال الإغاثيّة، ويرسلون الحملات الطبيّة المتعلّقة بالأوبئة والدفاع عن حقوق المستضعفين، وغيرها من الأعمال الجليلة، إننا لا نُنكر فضلها وحُسنها، لكن نفعها لا يعود لأصحابِها ما داموا قد نقضوا الأصل المستوجب للأجر والمثوبة، وهو الإيمان بالله، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون؛ وصدق فيهم قوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) رواه مسلم؛ لأن المشركين ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان بوحدانية الله جل وعلا. لكن الله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين وأعدلهم، يجزيهم على ما قاموا به من الأعمال الخيرة إحساناً في الدنيا، فيدفع عنهم من الضر أو البلاء ما يكون مقابلاً لما قاموا به من أعمال الطيبة.
أخيراً: إن معرفة الخسران العظيم الذي يحيق بأعمال المشركين الخيّرة، يدعونا إلى دعوتهم إلى الحق حتى يشاطروا أهل الإيمان الأجر الحقيقي من ثواب الآخرة، نسأل الله أن يهدي أهل الضلال ويعيدهم إلى الحق.