تطرّقنا في جزء سابق إلى آيات قرآنيّة تدلّ دلالةً قاطعةً على ثبوت الشفاعة، ولا شك أن في السنّة أدلّةٌ أخرى تصبّ في هذا الاتجاه، فتنصّ على أن الشفاعة ثابتةٌ في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الملائكة، وفي حق النبيين والشهداء والصالحين، قد بلغت بمجموعها حدّ التواتر، ولا ينكر هذه الأحاديث إلا أهل البدع والأهواء، فكان لزاماً أن نذكر بعضاً من تلك الأحاديث :
أولاً: أحاديث تثبت حق الشفاعة للنبي –صلى الله عليه وسلم-:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أعطيت خمساً لم يُعطهن أحد قبلي: -ثم ذكر منها- وأعطيت الشفاعة) متفق عليه.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً) متفق عليه، فهذا الحديث فيه دلالةٌ على أن الشفاعة مستحقّة لمن خلص إيمانهم من الشرك.
وعنه رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقّ عنه القبر، وأول شافعٍ وأول مشفع) رواه مسلم، والمعنى أنّه عليه الصلاة والسلام أوّل من يتقدّم للشفاعة، وهو كذلك أوّل من تُقبل منه الشفاعة يوم القيامة.
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) رواه أصحاب السنن عدا النسائي.
حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتاني آت من عند ربي، فخيّرني بين أن يُدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) رواه الترمذي وابن ماجه، وفي هذا الحديث يتجلّى عطف النبي عليه الصلاة والسلام على أمّته، بحيث فضّل أن تنتفع عامّة أمّته على أن يدخل شطرهم الجنّة، ثم يحرم شطرها الآخر من شفاعته، فصلوات ربّي وسلامه عليه.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو المشهور بحديث الشفاعة الطويل، وفيه عدد من الألفاظ التي تحتاج إلى بيان معناها، سنبيّنها بعد سرد الحديث، قال رضي الله عنه: أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشةً، ثم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوةٌ دعوتها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كَذِبات، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، فضّلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم. فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وكلمّتَ الناس في المهد صبياً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعدَه مثله -ولم يذكر ذنباً- ، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد. فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلقُ فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً، لم يفتحه على أحدٍ قبلي، ثم يُقال: يا محمد! ارفع رأسك، سَلْ تُعْطه، واشفع تُشفّع. فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب). ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وحِمْيَر، أو كما بين مكة وبُصرى) متفق عليه.
ومعنى قول أبي هريرة : "فنهش" أي: أخذ بأطراف أسنانه قطعةً من اللحم، وقوله عليه الصلاة والسلام: (في صعيدٍ واحد) الصعيد: الأرض الواسعة المستوية، وتُجمع على: صُعُد، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وينفذهم البصر) معناه أن الناظر إليهم يحيط بهم جميعاً، فلا يخفى عليه شئ منهم، وذلك لاستواء الأرض يوم القيامة، وليس فيها ما يستتر به أحدٌ عن الناظرين، وقوله عليه الصلاة والسلام: (شركاء الناس) بمعنى أنهم يشتركون مع غيرهم في الدخول من تلك الأبواب ولا يمنعون منها، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة) المصراع: هو جانب الباب، وقوله عليه الصلاة والسلام: (هجر) هي مدينة عظيمة في بلاد البحرين، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وبُصرى) بصرى هي مدينة تقع قريباً من دمشق.
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحدٍ قبلك) رواه مسلم، وهذا الحديث للشفاعة في دخول الناس إلى الجنّة.
حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله! هل نفعْتَ أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك. فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم، هو في ضحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) متفق عليه.
ومعنى: (يحوطك) أي: يذبّ عنك ويدافع، ومعنى : (ضحضاح) هو في الأصل الماء في الأرض يبلغ إلى نحو الكعبين، فكذلك النار التي سيُعذّب بها أبو طالب، ومعنى: (الدرك الأسفل) قعر جهنم وأسفلها، وفي هذا الحديث إثباتٌ للشفاعة الخاصّة بأبي طالب، وهي ليست لأحدٍ غيره من المشركين.
ثانياً: أعمال توجب شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد من أمتي، إلا كنتُ له شفيعاً يوم القيامة، أو شهيداً –أي: عليه-)، رواه مسلم، واللأواء: المسغبة وشدّة الجوع.
حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من استطاع أن يموت بالمدينة فلْيَمت بها؛ فإني أشفع لمن يموت بها) رواه ابن ماجه والترمذي، واللفظ له.
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري، والمقام المحمود هو مقام الشفاعة حينما يسجد النبي –صلى الله عليه وسلم- لربّه ويسأله الشفاعة.
ثالثاً: شفاعة القرآن:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سورةٌ من القرآن، ثلاثون آية، تشفع لصاحبها حتى يغفر له: تبارك الذي بيده الملك) رواه أبو داود.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حلِّه. فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زدْهُ. فيُلبس حلّة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه. فيرضى عنه، فيُقال له: اقرأ وارق. ويُزاد بكل آيةٍ حسنة) رواه الترمذي.
حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو كأنهما غيايتان- أو كأنهما فِرْقان من طيرٍ صوافّ، تحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلة) رواه مسلم.
وقد سميت البقرة وآل عمران بالزهراوين؛ لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كأنهما غمامتان أو غيايتان) أي: كالسحابتين اللتين تظلّان الإنسان، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كأنهما فرقانٌ من طيرٍ صوافّ) هو السرب من الطيور المجتمعة، تبسط أجنحتها فتكون من كثرتها كالظلّة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (تحاجّان عن أصحابهما) أي: تشفعان وتدافعان عن صاحبهما، ومعنى: (ولا يستطيعها البطلة) أي: لا يقدر عليها السحرة.
رابعاً: شفاعة المؤمنين:
حديث عبد الله بن أبي الجدعاء رضي الله عنه، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ليدخلن الجنةَ بشفاعة رجلٍ من أمتي، أكثر من بني تميم) ، قالوا: يا رسول الله! سواك؟ فقال: (سواي)، رواه الترمذي وابن ماجه.
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة، وإن الرجل ليشفع للقبيلة، وإن الرجل ليشفع للعُصْبة، وإن الرجل ليشفع للثلاثة، وللرجلين، وللرجل) رواه أحمد في مسنده.
حديث المقدام بن معد يكرب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (للشهيد عند الله ستُّ خصال: -وذكر منها- ويشفّع في سبعين إنساناً من أقاربه) رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحدّث عن موتى المسلمين، فقال:(صغارهم دعاميصُ الجنة، يتلقّى أحدهم أباه، فيأخذ بثوبه، كما آخذ أنا بصَنِفَة ثوبك هذا، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة) رواه مسلم.
والدعاميص: صغار أهل الجنة، وهو في الأصل كائنٌ مائيٌ صغير يكون في مستنقع الماء، وقد ذكر ابن منظورٍ معنى آخر لها فقال: " والدعموص: الدخّالُ في الأمور، أي: أنهم سيّاحون في الجنة، دخّالون في منازلها، لا يُمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحُرَم، ولا يحتَجِب منهم أحد"، ومعنى: (بصَنِفَة) هو طرف الثوب، ومعنى: (فلا ينتهي) أي: فلا يتركه.
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والذي يبين شفاعات المؤمنين، ويذكر كذلك شفاعة أرحم الراحمين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله من المؤمنين يوم القيامة، لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلّون ويحجون، فيُقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فيُخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا! ما بقي فيها أحد ممّن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خيرٍ فأخرجوه. فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها أحدا ممّن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خيرٍ فأخرجوه. فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها ممّن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خيرٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضةً من النار، فيُخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حِمماً، فيلقيهم في نهرٍ في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فيَخرجون كما تخرج الحبة في حميلِ السيل، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقول عز وجل: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تُعطِ أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبدا) رواه مسلم.
ومعنى (عادوا حِمماً): صاروا فحماً من شدّة حرارة جهنم، ومعنى: (نهر في أفواه الجنة): في مطلِعِ الجنة، كأن المراد في الحديث أنها أنهارٌ تخرج من مسالك قصور الجنة ومنازلها، ومعنى: (الحبة في حميل السيل) النبتة التي تنمو فيما يجيء به السيل من طين وغيره، عند شطِّ مجرى السيل، ومعنى: (فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم): في أعناقهم علامة يُعرفون بها، وهو تشبيهٌ لصفائهم ونقائهم .
حديث أبي النضر السلمي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثةٌ من الولد فيحتسبهم، إلا كانوا له جُنّةً من النار)، فقالت امرأةٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو اثنان؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أو اثنان) رواه مالك في "الموطّأ".
أولاً: أحاديث تثبت حق الشفاعة للنبي –صلى الله عليه وسلم-:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أعطيت خمساً لم يُعطهن أحد قبلي: -ثم ذكر منها- وأعطيت الشفاعة) متفق عليه.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً) متفق عليه، فهذا الحديث فيه دلالةٌ على أن الشفاعة مستحقّة لمن خلص إيمانهم من الشرك.
وعنه رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقّ عنه القبر، وأول شافعٍ وأول مشفع) رواه مسلم، والمعنى أنّه عليه الصلاة والسلام أوّل من يتقدّم للشفاعة، وهو كذلك أوّل من تُقبل منه الشفاعة يوم القيامة.
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) رواه أصحاب السنن عدا النسائي.
حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتاني آت من عند ربي، فخيّرني بين أن يُدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) رواه الترمذي وابن ماجه، وفي هذا الحديث يتجلّى عطف النبي عليه الصلاة والسلام على أمّته، بحيث فضّل أن تنتفع عامّة أمّته على أن يدخل شطرهم الجنّة، ثم يحرم شطرها الآخر من شفاعته، فصلوات ربّي وسلامه عليه.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو المشهور بحديث الشفاعة الطويل، وفيه عدد من الألفاظ التي تحتاج إلى بيان معناها، سنبيّنها بعد سرد الحديث، قال رضي الله عنه: أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشةً، ثم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوةٌ دعوتها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كَذِبات، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، فضّلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم. فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وكلمّتَ الناس في المهد صبياً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعدَه مثله -ولم يذكر ذنباً- ، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد. فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلقُ فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً، لم يفتحه على أحدٍ قبلي، ثم يُقال: يا محمد! ارفع رأسك، سَلْ تُعْطه، واشفع تُشفّع. فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب). ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وحِمْيَر، أو كما بين مكة وبُصرى) متفق عليه.
ومعنى قول أبي هريرة : "فنهش" أي: أخذ بأطراف أسنانه قطعةً من اللحم، وقوله عليه الصلاة والسلام: (في صعيدٍ واحد) الصعيد: الأرض الواسعة المستوية، وتُجمع على: صُعُد، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وينفذهم البصر) معناه أن الناظر إليهم يحيط بهم جميعاً، فلا يخفى عليه شئ منهم، وذلك لاستواء الأرض يوم القيامة، وليس فيها ما يستتر به أحدٌ عن الناظرين، وقوله عليه الصلاة والسلام: (شركاء الناس) بمعنى أنهم يشتركون مع غيرهم في الدخول من تلك الأبواب ولا يمنعون منها، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة) المصراع: هو جانب الباب، وقوله عليه الصلاة والسلام: (هجر) هي مدينة عظيمة في بلاد البحرين، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وبُصرى) بصرى هي مدينة تقع قريباً من دمشق.
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحدٍ قبلك) رواه مسلم، وهذا الحديث للشفاعة في دخول الناس إلى الجنّة.
حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله! هل نفعْتَ أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك. فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم، هو في ضحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) متفق عليه.
ومعنى: (يحوطك) أي: يذبّ عنك ويدافع، ومعنى : (ضحضاح) هو في الأصل الماء في الأرض يبلغ إلى نحو الكعبين، فكذلك النار التي سيُعذّب بها أبو طالب، ومعنى: (الدرك الأسفل) قعر جهنم وأسفلها، وفي هذا الحديث إثباتٌ للشفاعة الخاصّة بأبي طالب، وهي ليست لأحدٍ غيره من المشركين.
ثانياً: أعمال توجب شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد من أمتي، إلا كنتُ له شفيعاً يوم القيامة، أو شهيداً –أي: عليه-)، رواه مسلم، واللأواء: المسغبة وشدّة الجوع.
حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من استطاع أن يموت بالمدينة فلْيَمت بها؛ فإني أشفع لمن يموت بها) رواه ابن ماجه والترمذي، واللفظ له.
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري، والمقام المحمود هو مقام الشفاعة حينما يسجد النبي –صلى الله عليه وسلم- لربّه ويسأله الشفاعة.
ثالثاً: شفاعة القرآن:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سورةٌ من القرآن، ثلاثون آية، تشفع لصاحبها حتى يغفر له: تبارك الذي بيده الملك) رواه أبو داود.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حلِّه. فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زدْهُ. فيُلبس حلّة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه. فيرضى عنه، فيُقال له: اقرأ وارق. ويُزاد بكل آيةٍ حسنة) رواه الترمذي.
حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو كأنهما غيايتان- أو كأنهما فِرْقان من طيرٍ صوافّ، تحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلة) رواه مسلم.
وقد سميت البقرة وآل عمران بالزهراوين؛ لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كأنهما غمامتان أو غيايتان) أي: كالسحابتين اللتين تظلّان الإنسان، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كأنهما فرقانٌ من طيرٍ صوافّ) هو السرب من الطيور المجتمعة، تبسط أجنحتها فتكون من كثرتها كالظلّة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (تحاجّان عن أصحابهما) أي: تشفعان وتدافعان عن صاحبهما، ومعنى: (ولا يستطيعها البطلة) أي: لا يقدر عليها السحرة.
رابعاً: شفاعة المؤمنين:
حديث عبد الله بن أبي الجدعاء رضي الله عنه، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ليدخلن الجنةَ بشفاعة رجلٍ من أمتي، أكثر من بني تميم) ، قالوا: يا رسول الله! سواك؟ فقال: (سواي)، رواه الترمذي وابن ماجه.
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة، وإن الرجل ليشفع للقبيلة، وإن الرجل ليشفع للعُصْبة، وإن الرجل ليشفع للثلاثة، وللرجلين، وللرجل) رواه أحمد في مسنده.
حديث المقدام بن معد يكرب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (للشهيد عند الله ستُّ خصال: -وذكر منها- ويشفّع في سبعين إنساناً من أقاربه) رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحدّث عن موتى المسلمين، فقال:(صغارهم دعاميصُ الجنة، يتلقّى أحدهم أباه، فيأخذ بثوبه، كما آخذ أنا بصَنِفَة ثوبك هذا، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة) رواه مسلم.
والدعاميص: صغار أهل الجنة، وهو في الأصل كائنٌ مائيٌ صغير يكون في مستنقع الماء، وقد ذكر ابن منظورٍ معنى آخر لها فقال: " والدعموص: الدخّالُ في الأمور، أي: أنهم سيّاحون في الجنة، دخّالون في منازلها، لا يُمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحُرَم، ولا يحتَجِب منهم أحد"، ومعنى: (بصَنِفَة) هو طرف الثوب، ومعنى: (فلا ينتهي) أي: فلا يتركه.
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والذي يبين شفاعات المؤمنين، ويذكر كذلك شفاعة أرحم الراحمين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله من المؤمنين يوم القيامة، لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلّون ويحجون، فيُقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فيُخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا! ما بقي فيها أحد ممّن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خيرٍ فأخرجوه. فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها أحدا ممّن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خيرٍ فأخرجوه. فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها ممّن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خيرٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضةً من النار، فيُخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حِمماً، فيلقيهم في نهرٍ في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فيَخرجون كما تخرج الحبة في حميلِ السيل، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقول عز وجل: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تُعطِ أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبدا) رواه مسلم.
ومعنى (عادوا حِمماً): صاروا فحماً من شدّة حرارة جهنم، ومعنى: (نهر في أفواه الجنة): في مطلِعِ الجنة، كأن المراد في الحديث أنها أنهارٌ تخرج من مسالك قصور الجنة ومنازلها، ومعنى: (الحبة في حميل السيل) النبتة التي تنمو فيما يجيء به السيل من طين وغيره، عند شطِّ مجرى السيل، ومعنى: (فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم): في أعناقهم علامة يُعرفون بها، وهو تشبيهٌ لصفائهم ونقائهم .
حديث أبي النضر السلمي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثةٌ من الولد فيحتسبهم، إلا كانوا له جُنّةً من النار)، فقالت امرأةٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو اثنان؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أو اثنان) رواه مالك في "الموطّأ".