مكث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث عشرة سنة في مكة، يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وترك ما كانوا عليه وآباءهم من عبادة الأصنام، فاستجاب له قلة قليلة آمنوا به، ولقوا في الله من الأذى والعنت ما الله به عليم، فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهجرة إلى الحبشة، ليأمنوا على أنفسهم وعلى دينهم من الفتن، وبقي هو ونفر معه، صابراً على أذى قريش، حتى ماتت زوجته خديجة ـ رضي الله عنها ـ، التي كانت تقف دونه بمنزلتها ومن يؤازرها من عشيرتها، ومات أبو طالب الذي كان يدافع عنه، فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب في موسم الحج، حتى شرح الله ـ عز وجل ـ له صدور طائفة من الأوس والخزرج فآمنوا به، وبايعوه بيعتي العقبة الأولى والثانية على أن يمنعوه مما يمنعون منه أولادهم ونساءهم إن هو قدِم عليهم، ووعدوه بالنصرة والطاعة، ووعدهم بالجنة .
وفي المقابل ضاق كفار قريش ذرعا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ووجدوا أنفسهم قد فشلوا في كل محاولاتهم في القضاء عليه وعلى دعوته الجديدة،، إذ فشلوا في وسائل التعذيب والإرهاب، كما فشلوا في أساليب الإغراء والمساومات، وعلموا بما تم بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل المدينة في بيعة العقبة، فأزعجهم ذلك، وشعروا بأن الإِسلام ستكون له دولة يأرز إليها، وحِصنٌ يحتمي به، وتوجسوا خيفةً من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعزموا على أن يتخذوا قراراً حاسماً للقضاء عليه مهما كلفهم ذلك ..
وفي وم السادس والعشرين من شهر صفر في السنة الرابعة عشرة من البعثة النبوية وبعد شهرين ونصف من بيعة العقبة الكبرى، اجتمع في دار الندوة: أبو جهل بن هشام، وجبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدي، والحارث بن عامر، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنَّضْر بن الحارث، وأبو البَخْتَرِي بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود، وحَكِيم بن حِزَام، وأمية بن خَلَف وغيرهم من صناديد الكفر حينئذٍ بمكة، وأجمعوا أمرهم على قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولما جاءوا إلى دار الندوة اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل وشاركهم في هذا الاجتماع، وقد قال الله تعالى عن ذلك: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال الآية: 30 ) .
وقد روي ابن هشام في السيرة النبوية، وابن إسحاق صاحب المغازي، وابن كثير في تفسيره، ما دار من حوارٍ بين المشركين في هذه الجلسة عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل، ادخل، فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل!، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، قال فصرخ عدو الله، الشيخ النجدي، فقال: والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكُن أن يثبوا عليه، حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا، قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فانه إذا خرج لن يضركم ما صنع، وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعُن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا، قال: فقال أبو جهل، لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟، قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شاباً وسيطا نهدا، ثم يُعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فاذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا، وقطعنا عنا أذاه، قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره، قال: فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له، فأتى جبريلُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، يذكر نعمه عليه، وبلاءه عنده: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال الآية:30) ) .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزَّى ومناتَ الثالثةِ الأُخرى ونائلةَ وإساف، لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ تبكي حتى دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك؟، فقال: يا بُنَيَّةُ أَرِيني وُضوءاً، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا، ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم إليه منهم رجل فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت (قبحت) الوجوه، ثم حَصَبَهم بها فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قُتِلَ يوم بدرٍ كافراً ) .
وروى البيهقي في دلائل النبوة: ( وأقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ، فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليَّ بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجى ببرد له أخضر ففعل، ثم خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رءوسهم، وأخذ الله ـ عز وجل ـ بأبصارهم عن نبيه وهو يقرأ : { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }(يس الآية: 1: 2)، إلى قوله -: { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }(يس: من الآية: 9 )، ثم قال البيهقي: " ورُوِيَ عن عكرمة ما يؤكد هذا " .
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ :
لقد مكر كفار قريش و قرروا أن يقتلوا ويتخلصوا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،على أن يتولى ذلك المنكر العظيم فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في قبائل كثيرة، فيعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلهم، فيرضوا بالدية، ولكن الأمر انتهى إلى النتيجة التي أرادها الله ـ عز وجل ـ وهي حفظ نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإفشال مكرهم ومخططهم، فإن الله ـ سبحانه ـ هو القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، قال الله تعالى: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال من الآية: 30).
وهذا المكر المضاف إلى الله ـ عز وجل ـ ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذموم، وأما المكر المضاف إلى الله ـ سبحانه ـ فإنه محمود، لأن مكر المخلوقين معناه الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما المكر من الله ـ عز وجل ـ فإنه محمود، لأن فيه حفظ الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإيصال العقوبة لمن يستحقها، فهو عدل ورحمة .
قال الشيخ ابن عثيمين: " فالمكر صفة مدح في محله، لأنه يدل على القوة وعلى العظمة، وعلى الإحاطة بالخصم، وعلى ضعف الخصم، وعدم إدراكه ما يريده به خصمه .. وعلى هذا فلو قال قائل هل يصح أن يوصف الله بالمكر؟، فالجواب: أن وصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق لا يجوز، وأما وصف الله بالمكر في موضعه في مقابلة أولئك الذين يمكرون به وبرسله فإن هذا جائز، لأنه في هذه الحال يكون صفة كمال " .
وقال الشيخ الألباني: " كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، فإذا توهم الإنسان أمراً لا يليق بالله، فليعلم رأساً أنه مخطئ، فهذه الآية هي مدح لله ـ عز وجل ـ، وليس فيها أي شيء لا يجوز نسبته إلى الله تبارك وتعالى " .
إن من دلائل نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخصوصياته: عصمة بدنه الشريف من القتل، والأمثلة من سيرته وحياته التي تدل على ذلك كثيرة، ومنها هذه المؤامرة التي دبرها زعماء قريش في دار الندوة .
قال الماوردي: " فمن معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }المائدة من الآية: 67) فعَصَمَه منهم "..
ومن دروس وفوائد هذا الموقف من السيرة النبوية: مَنْ حفظ الله حفظه الله، فهذا درس عظيم، وسُنَّةٌ ماضية في: أنَّ مَنْ حفِظ اللهَ حفظه الله، والحفظُ من الله عام وشامل، وأعظم ما في ذلك أن يُحْفَظَ الإنسان في دينه ودعوته، وهذا الحفظ يشمل حفظ البدن، ولكن ليس بالضرورة أن يُحفظ المؤمن الذي حفظ الله، فلا يصل إليه أعداؤه بالأذى، فقد يُصاب ويُبتلى لترفع درجاته، وتُكَفَّر ذنوبُه، فعن سعد بن أبى وقاص ـ رضى الله عنه ـ قال: ( قلت: يا رسول الله! أى الناس أشد بلاءً؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبْلَتَى الرجلُ على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابْتُلِىَ على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة ) رواه الترمذي .
وفي المقابل ضاق كفار قريش ذرعا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ووجدوا أنفسهم قد فشلوا في كل محاولاتهم في القضاء عليه وعلى دعوته الجديدة،، إذ فشلوا في وسائل التعذيب والإرهاب، كما فشلوا في أساليب الإغراء والمساومات، وعلموا بما تم بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل المدينة في بيعة العقبة، فأزعجهم ذلك، وشعروا بأن الإِسلام ستكون له دولة يأرز إليها، وحِصنٌ يحتمي به، وتوجسوا خيفةً من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعزموا على أن يتخذوا قراراً حاسماً للقضاء عليه مهما كلفهم ذلك ..
وفي وم السادس والعشرين من شهر صفر في السنة الرابعة عشرة من البعثة النبوية وبعد شهرين ونصف من بيعة العقبة الكبرى، اجتمع في دار الندوة: أبو جهل بن هشام، وجبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدي، والحارث بن عامر، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنَّضْر بن الحارث، وأبو البَخْتَرِي بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود، وحَكِيم بن حِزَام، وأمية بن خَلَف وغيرهم من صناديد الكفر حينئذٍ بمكة، وأجمعوا أمرهم على قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولما جاءوا إلى دار الندوة اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل وشاركهم في هذا الاجتماع، وقد قال الله تعالى عن ذلك: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال الآية: 30 ) .
وقد روي ابن هشام في السيرة النبوية، وابن إسحاق صاحب المغازي، وابن كثير في تفسيره، ما دار من حوارٍ بين المشركين في هذه الجلسة عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل، ادخل، فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل!، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، قال فصرخ عدو الله، الشيخ النجدي، فقال: والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكُن أن يثبوا عليه، حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا، قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فانه إذا خرج لن يضركم ما صنع، وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعُن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا، قال: فقال أبو جهل، لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟، قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شاباً وسيطا نهدا، ثم يُعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فاذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا، وقطعنا عنا أذاه، قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره، قال: فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له، فأتى جبريلُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، يذكر نعمه عليه، وبلاءه عنده: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال الآية:30) ) .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزَّى ومناتَ الثالثةِ الأُخرى ونائلةَ وإساف، لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ تبكي حتى دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك؟، فقال: يا بُنَيَّةُ أَرِيني وُضوءاً، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا، ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم إليه منهم رجل فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت (قبحت) الوجوه، ثم حَصَبَهم بها فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قُتِلَ يوم بدرٍ كافراً ) .
وروى البيهقي في دلائل النبوة: ( وأقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ، فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليَّ بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجى ببرد له أخضر ففعل، ثم خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رءوسهم، وأخذ الله ـ عز وجل ـ بأبصارهم عن نبيه وهو يقرأ : { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }(يس الآية: 1: 2)، إلى قوله -: { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }(يس: من الآية: 9 )، ثم قال البيهقي: " ورُوِيَ عن عكرمة ما يؤكد هذا " .
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ :
لقد مكر كفار قريش و قرروا أن يقتلوا ويتخلصوا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،على أن يتولى ذلك المنكر العظيم فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في قبائل كثيرة، فيعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلهم، فيرضوا بالدية، ولكن الأمر انتهى إلى النتيجة التي أرادها الله ـ عز وجل ـ وهي حفظ نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإفشال مكرهم ومخططهم، فإن الله ـ سبحانه ـ هو القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، قال الله تعالى: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال من الآية: 30).
وهذا المكر المضاف إلى الله ـ عز وجل ـ ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذموم، وأما المكر المضاف إلى الله ـ سبحانه ـ فإنه محمود، لأن مكر المخلوقين معناه الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما المكر من الله ـ عز وجل ـ فإنه محمود، لأن فيه حفظ الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإيصال العقوبة لمن يستحقها، فهو عدل ورحمة .
قال الشيخ ابن عثيمين: " فالمكر صفة مدح في محله، لأنه يدل على القوة وعلى العظمة، وعلى الإحاطة بالخصم، وعلى ضعف الخصم، وعدم إدراكه ما يريده به خصمه .. وعلى هذا فلو قال قائل هل يصح أن يوصف الله بالمكر؟، فالجواب: أن وصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق لا يجوز، وأما وصف الله بالمكر في موضعه في مقابلة أولئك الذين يمكرون به وبرسله فإن هذا جائز، لأنه في هذه الحال يكون صفة كمال " .
وقال الشيخ الألباني: " كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، فإذا توهم الإنسان أمراً لا يليق بالله، فليعلم رأساً أنه مخطئ، فهذه الآية هي مدح لله ـ عز وجل ـ، وليس فيها أي شيء لا يجوز نسبته إلى الله تبارك وتعالى " .
إن من دلائل نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخصوصياته: عصمة بدنه الشريف من القتل، والأمثلة من سيرته وحياته التي تدل على ذلك كثيرة، ومنها هذه المؤامرة التي دبرها زعماء قريش في دار الندوة .
قال الماوردي: " فمن معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }المائدة من الآية: 67) فعَصَمَه منهم "..
ومن دروس وفوائد هذا الموقف من السيرة النبوية: مَنْ حفظ الله حفظه الله، فهذا درس عظيم، وسُنَّةٌ ماضية في: أنَّ مَنْ حفِظ اللهَ حفظه الله، والحفظُ من الله عام وشامل، وأعظم ما في ذلك أن يُحْفَظَ الإنسان في دينه ودعوته، وهذا الحفظ يشمل حفظ البدن، ولكن ليس بالضرورة أن يُحفظ المؤمن الذي حفظ الله، فلا يصل إليه أعداؤه بالأذى، فقد يُصاب ويُبتلى لترفع درجاته، وتُكَفَّر ذنوبُه، فعن سعد بن أبى وقاص ـ رضى الله عنه ـ قال: ( قلت: يا رسول الله! أى الناس أشد بلاءً؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبْلَتَى الرجلُ على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فى دينه رقة ابْتُلِىَ على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة ) رواه الترمذي .