الطيب صالح.. حالة خاصة من حالات الإبداع
شوقي بدر يوسف
منذ فترة طويلة ظلت هناك قناعة كبيرة في الساحة السردية العربية بأن أعمال الطيب صالح القصصية والروائية القليلة العدد هي صاحبة التوهج والألق بجانب مثيلاتها من أصحاب نادي النخبة من الأسماء السردية الكبيرة أمثال نجيبالغربة فجّرت الكامن الإبداعي لدى الطيب صالح محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن منيف وحنا مينه وعبد السلام العجيلي وزكريا تامر وفؤاد التكرلي وغيرهم.
ويمثل الطيب صالح وسط هذه الصفوة المتميزة من السرديين العرب أيقونة لها ألقها الخاص، كما يمثل عالمه القصصي والروائي حالة خاصة من حالات الإبداع في الشأن السرد العربي المعاصر، وتمثل القصة القصيرة في عالمه جانبا من الجوانب الثرية على قلة عدد نصوصها، حيث كتب الطيب صالح عددا محدودا جدا من القصص القصيرة، كما هو الحال عنده في الفن الروائي، فهو كاتب مقل كما أشار في العديد من اللقاءات والحوارات التي أجريت معه حول هذا الموضوع.
بدأ الطيب صالح كتابة القصة القصيرة عام 1953، ولكنه لم ينشر منها إلا عددا قليلا لفتت إليه الأنظار بتميز لغتها الشاعرية وعمق البصيرة الفنية وإحكام البنية السردية، كما تميزت قصصه أيضا بروح التصوف المستمدة من ثقافته الخاصة، وامتصاصه لثقافة القرية في شمال السودان، يضاف إلى ذلك عامل النشأة، والتحلي بروح المكان والناس والانتماء والطبيعة والنيل الذي كان ملازما له منذ الصغر، كما كان لتعليمه في الخارج أيضا الفضل في انفتاحه على الثقافة الغربية التي نهل منها خاصة الثقافة الأنجليزية مما كان لها تأثير كبير على إبداعه القصصي والروائي شكلا ومضمونا.
يقول الطيب صالح بعد انتقاله إلى لندن عام 1953 وبداية تفجر مكامن الإبداع لديه: "كانت بدايتي قاسية جدا في لندن لأنني تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي، لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق في بلد غريب وبين قوم غرباء" لكن مع هذا استطاع الطيب صالح التكيّف مع هذه الحياة الجديدة في مدينة لندن، وتأقلم سريعا مع مناخها الخاص وحياتها الثقافية المعروفة.
وإذا كانت هناك ميزة نرجعها إلى لندن فهي قد فجّرت الكامن الإبداعي لديه، فالطيب صالح بدأ كتاباته في لندن. وهو يقول عن هذه الفترة: "في تلك الفترة وتحت وطأة الحنين إلى أهلي وبلدي وعشيرتي كتبت قصة قصيرة أسميتها "نخلة على الجدول" كانت القصة تعبيرا عن حنين للبلد ومحاولة لاستحضار تلك البيئة ".
وبعد انقطاع دام سبع سنوات كتب الطيب صالح بعدها قصة أسماها "حفنة تمر" ثم كتب "دومة ود حامد" ولاقت كتابات الطيب صالح القصصية كثيرا من التشجيع والاطراء والقبول. فقد أعجبت تلك الكتابات كل من معاوية الدرملي والمترجم دينيس جونسون ديفيس وساعدوه في عملية النشر والترجمة. وحتي تلك اللحظة لم يتصّور الطيب صالح بأنه أصبح كاتبا قصصيا، فقد كان يمارس فقط نوعا من الحنين الجارف إلى أرض الوطن وسط هذه البنايات الشاهقة والضباب الكثيف.
نشرت قصة "نخلة على الجدول" لأول مرة في جريدة الأحد البيروتية في نفس العام التي كتبت فيه، كما نشرت بعد ذلك بمجلة القصة السودانية التي كان يرأسها عثمان علي نور في العدد العاشر الصادر في أكتوبر 1960 والتي كانت تحتفي بالأدب القصصي السوداني فأفردت بعض صفحاتها لهذا الكاتب الشاب المغترب الذي ينشر انتاجه القصصي خارج حدود الوطن.
وفي العدد التالي من المجلة "نوفمبر 1960" عرض لها الناقد السوداني حامد حمداي مهاجما الطيب صالح، فاقترح إجراء نوع من التعديل على النص، بدا في مرآته أن هذا النص غير ناضج من الناحية الفنية ويحتاج إلى اتقان وتصويب وإعادة نظر مرة اخري، بمعنى أن كاتبها برعم لا زال في البدايات، ويجب عليه أن يوالي الجهد ليقف على قدميه.
أما قصة "حفنة تمر" فقد نشرت لأول مرة عام 1961، وتتميز هذه القصة بنسيجها المجازي الرامز من خلال لغة راعى الطيب صالح فيها شفافية العربية ورونقها، خاصة وأن القصة تتناول الواقع السوداني في القرية، وممارسات الأهل في جني محصول التمر والتصرف فيه بالبيع والمبادلة، وما ينتج عن ذلك من أحوال تخص هذا الجانب الإنساني والاجتماعي والاقتصادي للإنسان السوداني الذي يعتبر النخلة والأرض هي حياته كلها، وراوي القصة طفل صغير، أو الكاتب ذاته يستعيد بعض ذكريات الطفولة المرتبطة بالأهل والأقارب.
إضافة إلى البعد الدلالي العميق لعلاقة النخلة بالإنسان في ريف السودان، وشدة المعاناة والبؤس التي يلاقيها الإنسان عند جني محصوله ومحاولة الحصول في النهاية على ثمرة كده وتعبه.
وقد أشار الكاتب على لسان الراوي في نسيج قصته من خلال مراقبته لعملية المقايضة لنتاج النخلة السودانية وهو ترميز للواقع الحاصل في هذه الفترة والذي كان يدور آنئذ في مخيلة الكاتب وهواجسه: "كانوا خلقا كثيرا، كنت أعرفهم كلهم، لكنني لسبب أخذت أراقب مسعود، كان واقفا بعيدا عن ذلك الحشد كأن الأمر لا يعنيه" ثم يستأنف الكاتب باقي السرد من خلال حصيلة المراقبة، كان الجد المتدين الفارع الطول وصاحب اللحية البيضاء كالقطن هو المهيمن على قلب وعقل الراوي.
ولكنه عندما وجده يمارس الظلم مع الشيخ محجوب صاحب النخلة، يشعر بأن مثله الأعلى قد سقط، ويتقيأ حفنة التمر الذي كان جده قد منحها إياه: "أحسست بألم في صدري، وعدوت مبتعدا، شعرت أنني أكره جدي، أدخلت إصبعي في حلقي وتقيأت التمر الذي أكلت".
في هذه القصة استعاد الطيب صالح حنينه الجارف إلى الأهل والأحباب، وجسد من خلال ذلك هذه التيمة التي احتفى بها في قصتيه الأولى والثانية، فمسرح القصتين واحد، ومكان الكتابة واحد، وكانت كتابة هاتين القصتين بمثابة التنفيس عن هذه الغربة المتواجد فيها الطيب صالح آنئذ.
فبواكير قصصه كانت للقرية دور أساسي فيها، من خلال الإنسان السوداني في قريته والنخلة المتجذرة داخل الأرض، وكثيرا ما يتردد فيها فيضانات النيل، والنبات والزرع والحصاد، وفي النيل يغرق أبطاله، حيث يختار مصطفى سعيد رحلة الحياة الأبدية، فمن النيل جاء وإلى النيل يعود.
وكتب الطيب صالح "دومة ود حامد" ونشرت في العدد الثالث من مجلة أصوات عام 1961 ليجسد من خلالها المعتقدات الأنثربولوجية المتجذرة في وجدان الإنسان السوداني خاصة في ريفه الموغل في الداخل وما تفعله هذه المعتقدات في مواجهة التغيير والتحولات الملحة والضرورية لتقدم المجتمع.
وفي قصة "هكذا يا سادتي" التي نشرت في مجلة أدب البيروتية في شتاء عام 1962، نجد هذا الصدام مع البيئة الأنجليزية من خلال حضور الراوي لحفل شراب اسكتلندية، يشرب فيها ويظهر رأيه صراحة في هذا المجتمع الموغل في الاستعمارية، النص يعتبر مقدمة أولية لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال".
وقد استحضره الكاتب في أحد مقاطع قصة "مقدمات" وهو مقطع الاختيار، تأتي بعدها مباشرة قصة "رسالة إلى إيلين" وهي قصيدة غزلية على أساس أن الغزل هو مديح النساء، وهي أيضا تحفل بروح موسم الهجرة هي الأخرى، كتبها الطيب صالح في أجواء زواجه من بريطانية، وهو يطرح التجربة في إطارها الإنساني العام.
كتبت في صورة رسالة، يبعثها سوداني تزوج من "إبردين" في اسكوتلندا، من قريته في شمال السودان، حيث جاء ليقضي ثلاثين يوما في ود حامد، يعود بعدها إلى زوجته في بريطانيا، ونستطيع أن ندرك حب الكاتب لزوجته "إيلين" من خلال تضحيته برصيد إنساني كبير هو علاقته بأمه وأبيه وأهله، وربما دل ذلك على فقدانه لهم، وتضحيته بكل الروابط القوية التي كانت تربطه بأهله وأحبابه.
وفي القسم الثاني من القصة يستكمل سرد الوقائع بعد إرساله الخطاب الذي يشكّل القسم الأول من النص. حينها يشعر أنه غريب على "القبيلة" وهم غرباء عنه، بالرغم من مبالغتهم في الاحتفاء به. ربما كانت قصتي "هكذا يا سادتي" و"رسالة إلي إيلين" تعبّران عن واقع الحياة في البيئة الأنجليزية والتي أصبح تأثيرها كبيرا على الكاتب من خلال الغربة ومعايشته لهذا المنفى الاختياري بكل ثقله الحسي والمعنوي.
وهي تعتبر البذرة التي نمت بعد ذلك وأصبحت "موسم الهجرة إلى الشمال"، "اذهب وعد إليّ سليما: إذا ضحكت لك منهن فتاة فكشر في وجهها. اطمئني فلن تضحك لي فتاة أنا في حسابهن كنخلة على الشاطئ اقتلعها التيار وجرفها بعيدا عن منبتها.
أنا في حسابهن تجارة كسدت لكن ما أحلى الكساد معك". "إسعد عطلتك ولكن لا تسعد أكثر مما يجب. تذكر أنني هنا اتضوي وأنتظرك ستكون مع أهلك فلا تنسي برحيلك ستتركني بلا أهل". من هذه الخواطر الحوارية في نسيج القصة لا يخطئ القارئ ما لهذه الرسالة في كونها تسجيل حدث واقعي.
كتب بعد ذلك الطيب صالح نصوص "مقدمات"، وقد كتبت في بداية الأمر بالأنجليزية ثم أعاد كتابتها بالعربية مترجمة ولعلها مطورة ومعدلة أيضا. فنصوص "مقدمات" بمقاطعها الستة و"هكذا يا سادتي" والجزء الأول من "رسالة إلي إيلين" تدور جميعها في لندن، ومن ثم فلا تدور في قرية ود حامد بالسودان، وهي تقاسيم وملامح أولية على عالم مصطفي سعيد في لندن، خارج بيئة العمل الأكاديمي، وتجسيد لعالم المرأة البريطانية، والعلاقات التي يغدو الزواج فيها أمرا واردا لتتويج العلاقة، تبدو فيها المرأة هي صاحبة المبادرة، وصاحبة الشعور العميق الصادق والرغبة في توطيد الصلة في حمي ظل دائم، ويبدو الرجل – وهو شخص أجنبي في كل الأحوال – مترددا يهمل الرد على الرسائل الواردة إليه فضلا عن اختيار الحب، ومن ثم يؤدي هذا الطقس إلى ضياع الحب، ومن ثم ضياع المرأة من يده إلى الأبد.
ففي نصوص "مقدمات" تبدو هذه المقاطع القصصية القصيرة وكأنها لوحات فنية، وهي تتضمن ست نصوص أو ست لوحات قصصية كل منها يحقق حضورا لومضة كاشفة تعكس روح المزج بين ما هو نابع من الذات بكل تفاصيل حياتها وبين القرية وما تحمله من بكارة وحضور له واقعه الخاص، وما هو مستمد من الآخر الموغل في الصعود إلى الشمال في غربته الجديدة.
كما تحقق هذه النصوص شكلا فنيا جديدا يحمل سمات القصة القصيرة أو القصة القصيدة، ونصوص "مقدمات" ربما كانت هي الارهاصة الأولى لظهور فن القصة القصيرة جدا حيث كتبت هذه الومضات القصصية القصيرة جدا وهي" أغنية حب – خطوة للأمام – الشيء الآخر – لك حتى الممات – الأختبار – سوزان وعلي" وقد نشرت هذه القصص لأول مرة في مجلة حوار البيروتية في عددها الحادي والعشرين عام 1966.
ثم أعيد نشرها مرة أخرى بمجلة الهلال عدد سبتمبر 1969 ولكن بعد استبعاد نص "الشيء الآخر"، واعتقد أن سبب الأستبعاد هي بعض الإيحاءات الجنسية "التابو" المتضمنة لهذا النص، حيث يشير واقع النص المستبعد من النشر في مجلة الهلال وهو كالآتي: "قابلته في الجراند أوتيل في الخرطوم. كان يتحدث عن الأنكليز بكثير من المرارة، مما جعلني أشتبه في أمره.
لماذا تكرههم إلي هذا الحد؟"
إنهم استعماريون".
قلت له، كيما أثيره: لكنهم لم يعودوا يستعمرون"، لكنه أصر.
وعدت أسأله: "لماذا؟".
"لأنهم لا يعطونك غرفة تسكن فيها، ولأنك لا ...."، لم يقلها فعلا، لكني عرفت.
أما من حيث الغرف، فذلك أمر عسير في بعض الأحيان.
هذا صحيح.
"ولكن ألم يعثر لك المعهد البريطاني في النهاية على غرفة في إحدى نواحي تشزويك؟".
قال: "في النهاية"
حينئذ كان ما سيحدث قد حدث بالفعل.
أما الشيء الأخر- "فليس باستطاعة أحد أن يحصل لك على شيء مثل ذلك. عليك أن تفتش. أليس كذلك! إنها بلاد لا تستطيع فيها أن تفعل ما تشاء. ولكن أن تظل تفتش سنوات ثلاثا وتلقى ولا واحدة – أمر غريب، أليس كذلك؟".
"بلى، أمر غريب".
غريب فعلا، لأن الرجل على قسط كبير من الذكاء ويقولون أنه كيماوي لامع.
كان يريد أن يأخذ شهادة ويأخذ زوجة. حتى في الخرطوم يجد ذلك صعبا. بعض الناس مثل هذا. أما من حيث الحصول على غرفة، فإني اعترف أن ذلك أمر عسير جدا في كثير من الأحيان.
وقد حقق الطيب صالح من خلال نصوص "مقدمات" شكلا جديدا في الفن القصصي يحمل داخله مكامن الدوال والدلالات الكاشفة على مغزى ما يريد الكاتب أن يعبر عنه ويجسده من خلال هذا الشكل الجديد المكثف والمقطّر إلى أبعد الحدود والمقتصدة فيها اللغة لتقول في كلمات قليلة ما لا تستطيع أن يقوله السرد القصصي التقليدي في جمله الطويلة، وربما كان هذا الشكل الذي مارسه الطيب صالح في هذا الوقت هو المبشر بظهور هذه الومضات الكاشفة واللوحات الفنية القصيرة جدا التي غزت الساحة القصصية بعد ذلك وأصبحت علامة مهمة من علامات الفن القصصي المعاصر، والتي عرفت بالقصة قصيرة جدا.
كتب الطيب صالح بعد ذلك قصة "الرجل القبرصي" وقد كتبت هذه القصة في بيروت في صيف 1972 ونشرت عام 1973 في العدد الثاني من مجلة "الثقافة العربية"، وقد أعاد الطيب صالح كتابة الفقرات الأولى منها ونشرت بعد ذلك في عدد يناير 1976 من مجلة الدوحة القطرية، وبذلك لن تكون القصتان مطابقتان تماما خاصة في استهلالهما الأول.
ويجسد الطيب صالح في هذا النص إشكالية العلاقة بين الذات والآخر من خلال العديد من القضايا الشائكة مثل قضايا الموت والهوية والانتماء والحرية في غموض واضح، وقد وضح في هذه القصة تجريب جديد يخوضه الطيب صالح في صالح القصة القصيرة المعاصرة، كتب بعدها قصتان حواريتان هما "يوم مبارك على شاطئ أم باب" وقصة "هكذا تحّول ميدان بيكاديللي الشهير إلى سيرك" التي تعتبر هي آخر أعماله في مجال القصة القصيرة وقد نشرت بجريدة الراية القطرية في عددها الصادر يوم السبت الموافق لـ15 أكتوبر 2005.
لقد لخص الطيب صالح في قصصه القصيرة ملامح ومعالم من حياته الخصبة الثرية، وكان حضوره في بعضها طفلا وشابا وكهلا، حاضرا ومغتربا، مثقفا ومنظرا إجتماعيا وسياسيا وثقافيا، بحيث كانت القصة القصيرة في حالة من الحالات المتوهجة على يد هذا السارد الكبير الذي رحل عن عالمنا تاركا إرثا سرديا متميزا في أدبنا المعاصر.
شوقي بدر يوسف
الجمل بما حمل
شوقي بدر يوسف
منذ فترة طويلة ظلت هناك قناعة كبيرة في الساحة السردية العربية بأن أعمال الطيب صالح القصصية والروائية القليلة العدد هي صاحبة التوهج والألق بجانب مثيلاتها من أصحاب نادي النخبة من الأسماء السردية الكبيرة أمثال نجيبالغربة فجّرت الكامن الإبداعي لدى الطيب صالح محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن منيف وحنا مينه وعبد السلام العجيلي وزكريا تامر وفؤاد التكرلي وغيرهم.
ويمثل الطيب صالح وسط هذه الصفوة المتميزة من السرديين العرب أيقونة لها ألقها الخاص، كما يمثل عالمه القصصي والروائي حالة خاصة من حالات الإبداع في الشأن السرد العربي المعاصر، وتمثل القصة القصيرة في عالمه جانبا من الجوانب الثرية على قلة عدد نصوصها، حيث كتب الطيب صالح عددا محدودا جدا من القصص القصيرة، كما هو الحال عنده في الفن الروائي، فهو كاتب مقل كما أشار في العديد من اللقاءات والحوارات التي أجريت معه حول هذا الموضوع.
بدأ الطيب صالح كتابة القصة القصيرة عام 1953، ولكنه لم ينشر منها إلا عددا قليلا لفتت إليه الأنظار بتميز لغتها الشاعرية وعمق البصيرة الفنية وإحكام البنية السردية، كما تميزت قصصه أيضا بروح التصوف المستمدة من ثقافته الخاصة، وامتصاصه لثقافة القرية في شمال السودان، يضاف إلى ذلك عامل النشأة، والتحلي بروح المكان والناس والانتماء والطبيعة والنيل الذي كان ملازما له منذ الصغر، كما كان لتعليمه في الخارج أيضا الفضل في انفتاحه على الثقافة الغربية التي نهل منها خاصة الثقافة الأنجليزية مما كان لها تأثير كبير على إبداعه القصصي والروائي شكلا ومضمونا.
يقول الطيب صالح بعد انتقاله إلى لندن عام 1953 وبداية تفجر مكامن الإبداع لديه: "كانت بدايتي قاسية جدا في لندن لأنني تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي، لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق في بلد غريب وبين قوم غرباء" لكن مع هذا استطاع الطيب صالح التكيّف مع هذه الحياة الجديدة في مدينة لندن، وتأقلم سريعا مع مناخها الخاص وحياتها الثقافية المعروفة.
وإذا كانت هناك ميزة نرجعها إلى لندن فهي قد فجّرت الكامن الإبداعي لديه، فالطيب صالح بدأ كتاباته في لندن. وهو يقول عن هذه الفترة: "في تلك الفترة وتحت وطأة الحنين إلى أهلي وبلدي وعشيرتي كتبت قصة قصيرة أسميتها "نخلة على الجدول" كانت القصة تعبيرا عن حنين للبلد ومحاولة لاستحضار تلك البيئة ".
وبعد انقطاع دام سبع سنوات كتب الطيب صالح بعدها قصة أسماها "حفنة تمر" ثم كتب "دومة ود حامد" ولاقت كتابات الطيب صالح القصصية كثيرا من التشجيع والاطراء والقبول. فقد أعجبت تلك الكتابات كل من معاوية الدرملي والمترجم دينيس جونسون ديفيس وساعدوه في عملية النشر والترجمة. وحتي تلك اللحظة لم يتصّور الطيب صالح بأنه أصبح كاتبا قصصيا، فقد كان يمارس فقط نوعا من الحنين الجارف إلى أرض الوطن وسط هذه البنايات الشاهقة والضباب الكثيف.
نشرت قصة "نخلة على الجدول" لأول مرة في جريدة الأحد البيروتية في نفس العام التي كتبت فيه، كما نشرت بعد ذلك بمجلة القصة السودانية التي كان يرأسها عثمان علي نور في العدد العاشر الصادر في أكتوبر 1960 والتي كانت تحتفي بالأدب القصصي السوداني فأفردت بعض صفحاتها لهذا الكاتب الشاب المغترب الذي ينشر انتاجه القصصي خارج حدود الوطن.
وفي العدد التالي من المجلة "نوفمبر 1960" عرض لها الناقد السوداني حامد حمداي مهاجما الطيب صالح، فاقترح إجراء نوع من التعديل على النص، بدا في مرآته أن هذا النص غير ناضج من الناحية الفنية ويحتاج إلى اتقان وتصويب وإعادة نظر مرة اخري، بمعنى أن كاتبها برعم لا زال في البدايات، ويجب عليه أن يوالي الجهد ليقف على قدميه.
أما قصة "حفنة تمر" فقد نشرت لأول مرة عام 1961، وتتميز هذه القصة بنسيجها المجازي الرامز من خلال لغة راعى الطيب صالح فيها شفافية العربية ورونقها، خاصة وأن القصة تتناول الواقع السوداني في القرية، وممارسات الأهل في جني محصول التمر والتصرف فيه بالبيع والمبادلة، وما ينتج عن ذلك من أحوال تخص هذا الجانب الإنساني والاجتماعي والاقتصادي للإنسان السوداني الذي يعتبر النخلة والأرض هي حياته كلها، وراوي القصة طفل صغير، أو الكاتب ذاته يستعيد بعض ذكريات الطفولة المرتبطة بالأهل والأقارب.
إضافة إلى البعد الدلالي العميق لعلاقة النخلة بالإنسان في ريف السودان، وشدة المعاناة والبؤس التي يلاقيها الإنسان عند جني محصوله ومحاولة الحصول في النهاية على ثمرة كده وتعبه.
وقد أشار الكاتب على لسان الراوي في نسيج قصته من خلال مراقبته لعملية المقايضة لنتاج النخلة السودانية وهو ترميز للواقع الحاصل في هذه الفترة والذي كان يدور آنئذ في مخيلة الكاتب وهواجسه: "كانوا خلقا كثيرا، كنت أعرفهم كلهم، لكنني لسبب أخذت أراقب مسعود، كان واقفا بعيدا عن ذلك الحشد كأن الأمر لا يعنيه" ثم يستأنف الكاتب باقي السرد من خلال حصيلة المراقبة، كان الجد المتدين الفارع الطول وصاحب اللحية البيضاء كالقطن هو المهيمن على قلب وعقل الراوي.
ولكنه عندما وجده يمارس الظلم مع الشيخ محجوب صاحب النخلة، يشعر بأن مثله الأعلى قد سقط، ويتقيأ حفنة التمر الذي كان جده قد منحها إياه: "أحسست بألم في صدري، وعدوت مبتعدا، شعرت أنني أكره جدي، أدخلت إصبعي في حلقي وتقيأت التمر الذي أكلت".
في هذه القصة استعاد الطيب صالح حنينه الجارف إلى الأهل والأحباب، وجسد من خلال ذلك هذه التيمة التي احتفى بها في قصتيه الأولى والثانية، فمسرح القصتين واحد، ومكان الكتابة واحد، وكانت كتابة هاتين القصتين بمثابة التنفيس عن هذه الغربة المتواجد فيها الطيب صالح آنئذ.
فبواكير قصصه كانت للقرية دور أساسي فيها، من خلال الإنسان السوداني في قريته والنخلة المتجذرة داخل الأرض، وكثيرا ما يتردد فيها فيضانات النيل، والنبات والزرع والحصاد، وفي النيل يغرق أبطاله، حيث يختار مصطفى سعيد رحلة الحياة الأبدية، فمن النيل جاء وإلى النيل يعود.
وكتب الطيب صالح "دومة ود حامد" ونشرت في العدد الثالث من مجلة أصوات عام 1961 ليجسد من خلالها المعتقدات الأنثربولوجية المتجذرة في وجدان الإنسان السوداني خاصة في ريفه الموغل في الداخل وما تفعله هذه المعتقدات في مواجهة التغيير والتحولات الملحة والضرورية لتقدم المجتمع.
وفي قصة "هكذا يا سادتي" التي نشرت في مجلة أدب البيروتية في شتاء عام 1962، نجد هذا الصدام مع البيئة الأنجليزية من خلال حضور الراوي لحفل شراب اسكتلندية، يشرب فيها ويظهر رأيه صراحة في هذا المجتمع الموغل في الاستعمارية، النص يعتبر مقدمة أولية لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال".
وقد استحضره الكاتب في أحد مقاطع قصة "مقدمات" وهو مقطع الاختيار، تأتي بعدها مباشرة قصة "رسالة إلى إيلين" وهي قصيدة غزلية على أساس أن الغزل هو مديح النساء، وهي أيضا تحفل بروح موسم الهجرة هي الأخرى، كتبها الطيب صالح في أجواء زواجه من بريطانية، وهو يطرح التجربة في إطارها الإنساني العام.
كتبت في صورة رسالة، يبعثها سوداني تزوج من "إبردين" في اسكوتلندا، من قريته في شمال السودان، حيث جاء ليقضي ثلاثين يوما في ود حامد، يعود بعدها إلى زوجته في بريطانيا، ونستطيع أن ندرك حب الكاتب لزوجته "إيلين" من خلال تضحيته برصيد إنساني كبير هو علاقته بأمه وأبيه وأهله، وربما دل ذلك على فقدانه لهم، وتضحيته بكل الروابط القوية التي كانت تربطه بأهله وأحبابه.
وفي القسم الثاني من القصة يستكمل سرد الوقائع بعد إرساله الخطاب الذي يشكّل القسم الأول من النص. حينها يشعر أنه غريب على "القبيلة" وهم غرباء عنه، بالرغم من مبالغتهم في الاحتفاء به. ربما كانت قصتي "هكذا يا سادتي" و"رسالة إلي إيلين" تعبّران عن واقع الحياة في البيئة الأنجليزية والتي أصبح تأثيرها كبيرا على الكاتب من خلال الغربة ومعايشته لهذا المنفى الاختياري بكل ثقله الحسي والمعنوي.
وهي تعتبر البذرة التي نمت بعد ذلك وأصبحت "موسم الهجرة إلى الشمال"، "اذهب وعد إليّ سليما: إذا ضحكت لك منهن فتاة فكشر في وجهها. اطمئني فلن تضحك لي فتاة أنا في حسابهن كنخلة على الشاطئ اقتلعها التيار وجرفها بعيدا عن منبتها.
أنا في حسابهن تجارة كسدت لكن ما أحلى الكساد معك". "إسعد عطلتك ولكن لا تسعد أكثر مما يجب. تذكر أنني هنا اتضوي وأنتظرك ستكون مع أهلك فلا تنسي برحيلك ستتركني بلا أهل". من هذه الخواطر الحوارية في نسيج القصة لا يخطئ القارئ ما لهذه الرسالة في كونها تسجيل حدث واقعي.
كتب بعد ذلك الطيب صالح نصوص "مقدمات"، وقد كتبت في بداية الأمر بالأنجليزية ثم أعاد كتابتها بالعربية مترجمة ولعلها مطورة ومعدلة أيضا. فنصوص "مقدمات" بمقاطعها الستة و"هكذا يا سادتي" والجزء الأول من "رسالة إلي إيلين" تدور جميعها في لندن، ومن ثم فلا تدور في قرية ود حامد بالسودان، وهي تقاسيم وملامح أولية على عالم مصطفي سعيد في لندن، خارج بيئة العمل الأكاديمي، وتجسيد لعالم المرأة البريطانية، والعلاقات التي يغدو الزواج فيها أمرا واردا لتتويج العلاقة، تبدو فيها المرأة هي صاحبة المبادرة، وصاحبة الشعور العميق الصادق والرغبة في توطيد الصلة في حمي ظل دائم، ويبدو الرجل – وهو شخص أجنبي في كل الأحوال – مترددا يهمل الرد على الرسائل الواردة إليه فضلا عن اختيار الحب، ومن ثم يؤدي هذا الطقس إلى ضياع الحب، ومن ثم ضياع المرأة من يده إلى الأبد.
ففي نصوص "مقدمات" تبدو هذه المقاطع القصصية القصيرة وكأنها لوحات فنية، وهي تتضمن ست نصوص أو ست لوحات قصصية كل منها يحقق حضورا لومضة كاشفة تعكس روح المزج بين ما هو نابع من الذات بكل تفاصيل حياتها وبين القرية وما تحمله من بكارة وحضور له واقعه الخاص، وما هو مستمد من الآخر الموغل في الصعود إلى الشمال في غربته الجديدة.
كما تحقق هذه النصوص شكلا فنيا جديدا يحمل سمات القصة القصيرة أو القصة القصيدة، ونصوص "مقدمات" ربما كانت هي الارهاصة الأولى لظهور فن القصة القصيرة جدا حيث كتبت هذه الومضات القصصية القصيرة جدا وهي" أغنية حب – خطوة للأمام – الشيء الآخر – لك حتى الممات – الأختبار – سوزان وعلي" وقد نشرت هذه القصص لأول مرة في مجلة حوار البيروتية في عددها الحادي والعشرين عام 1966.
ثم أعيد نشرها مرة أخرى بمجلة الهلال عدد سبتمبر 1969 ولكن بعد استبعاد نص "الشيء الآخر"، واعتقد أن سبب الأستبعاد هي بعض الإيحاءات الجنسية "التابو" المتضمنة لهذا النص، حيث يشير واقع النص المستبعد من النشر في مجلة الهلال وهو كالآتي: "قابلته في الجراند أوتيل في الخرطوم. كان يتحدث عن الأنكليز بكثير من المرارة، مما جعلني أشتبه في أمره.
لماذا تكرههم إلي هذا الحد؟"
إنهم استعماريون".
قلت له، كيما أثيره: لكنهم لم يعودوا يستعمرون"، لكنه أصر.
وعدت أسأله: "لماذا؟".
"لأنهم لا يعطونك غرفة تسكن فيها، ولأنك لا ...."، لم يقلها فعلا، لكني عرفت.
أما من حيث الغرف، فذلك أمر عسير في بعض الأحيان.
هذا صحيح.
"ولكن ألم يعثر لك المعهد البريطاني في النهاية على غرفة في إحدى نواحي تشزويك؟".
قال: "في النهاية"
حينئذ كان ما سيحدث قد حدث بالفعل.
أما الشيء الأخر- "فليس باستطاعة أحد أن يحصل لك على شيء مثل ذلك. عليك أن تفتش. أليس كذلك! إنها بلاد لا تستطيع فيها أن تفعل ما تشاء. ولكن أن تظل تفتش سنوات ثلاثا وتلقى ولا واحدة – أمر غريب، أليس كذلك؟".
"بلى، أمر غريب".
غريب فعلا، لأن الرجل على قسط كبير من الذكاء ويقولون أنه كيماوي لامع.
كان يريد أن يأخذ شهادة ويأخذ زوجة. حتى في الخرطوم يجد ذلك صعبا. بعض الناس مثل هذا. أما من حيث الحصول على غرفة، فإني اعترف أن ذلك أمر عسير جدا في كثير من الأحيان.
وقد حقق الطيب صالح من خلال نصوص "مقدمات" شكلا جديدا في الفن القصصي يحمل داخله مكامن الدوال والدلالات الكاشفة على مغزى ما يريد الكاتب أن يعبر عنه ويجسده من خلال هذا الشكل الجديد المكثف والمقطّر إلى أبعد الحدود والمقتصدة فيها اللغة لتقول في كلمات قليلة ما لا تستطيع أن يقوله السرد القصصي التقليدي في جمله الطويلة، وربما كان هذا الشكل الذي مارسه الطيب صالح في هذا الوقت هو المبشر بظهور هذه الومضات الكاشفة واللوحات الفنية القصيرة جدا التي غزت الساحة القصصية بعد ذلك وأصبحت علامة مهمة من علامات الفن القصصي المعاصر، والتي عرفت بالقصة قصيرة جدا.
كتب الطيب صالح بعد ذلك قصة "الرجل القبرصي" وقد كتبت هذه القصة في بيروت في صيف 1972 ونشرت عام 1973 في العدد الثاني من مجلة "الثقافة العربية"، وقد أعاد الطيب صالح كتابة الفقرات الأولى منها ونشرت بعد ذلك في عدد يناير 1976 من مجلة الدوحة القطرية، وبذلك لن تكون القصتان مطابقتان تماما خاصة في استهلالهما الأول.
ويجسد الطيب صالح في هذا النص إشكالية العلاقة بين الذات والآخر من خلال العديد من القضايا الشائكة مثل قضايا الموت والهوية والانتماء والحرية في غموض واضح، وقد وضح في هذه القصة تجريب جديد يخوضه الطيب صالح في صالح القصة القصيرة المعاصرة، كتب بعدها قصتان حواريتان هما "يوم مبارك على شاطئ أم باب" وقصة "هكذا تحّول ميدان بيكاديللي الشهير إلى سيرك" التي تعتبر هي آخر أعماله في مجال القصة القصيرة وقد نشرت بجريدة الراية القطرية في عددها الصادر يوم السبت الموافق لـ15 أكتوبر 2005.
لقد لخص الطيب صالح في قصصه القصيرة ملامح ومعالم من حياته الخصبة الثرية، وكان حضوره في بعضها طفلا وشابا وكهلا، حاضرا ومغتربا، مثقفا ومنظرا إجتماعيا وسياسيا وثقافيا، بحيث كانت القصة القصيرة في حالة من الحالات المتوهجة على يد هذا السارد الكبير الذي رحل عن عالمنا تاركا إرثا سرديا متميزا في أدبنا المعاصر.
شوقي بدر يوسف
الجمل بما حمل