الطيب صالح... موسم العودة من الشمال
قاسم حسين
كاتب بحريني
ربما كان ذلك في أحد أيام العام 1986، حين وقع بيدي عددٌ قديمٌ من مجلة «الدوحة» القطرية، وكان من أمتع ما قرأته فيه كلمةٌ ألقيت في مؤتمرٍ عُقد في تونس، ابتدأها صاحبها معرّفا نفسه على أنه «الطيب صالح»، وليس «عبدالله الطيب»، فكثيرٌ من إخواننا المشارقة يخلطون بيني وبين شخص آخر تماما!
الكلمة التي نشرت في صفحتين، تركت انطباعا قويا في النفس، وعرفت لاحقا أنه روائي كبير، ثم قرأت أن أحد المخرجين الكويتيين حوّل إحدى رواياته «عرس الزين» إلى فيلم نهاية السبعينيات. ثم عرفت أن لديه عدة روايات، فطلبت المجموعة الكاملة لأتفرّغ لقراءتها رواية رواية: «مريود»، «ضو البيت»، «دومة ود حامد»، «بندر شاه»... فكلها ذات نكهة خاصة جدا، تشمّ فيها رائحة الريف وتسمع همسات قلب السوداني البسيط المستلقي على ضفاف النيل، وتعيش وسط البخور والعطور في مراسم إعداد «الريحة والدخان» لتجهيز العروس السودانية لليلة الدخلة.
وُلد الطيّب في قرية بشمال السودان العام 1929، والتحق بجامعة الخرطوم ليدرس العلوم، وفي 1952 غادر إلى بريطانيا ليكمل دراسته ويعمل بالقسم العربي في الـ «بي بي سي»، ومنها انتقل إلى وزارة الإعلام في قطر، ومنها إلى باريس حيث تولى منصبا في المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو).
بداية الشهرة كانت في 1966، مع «موسم الهجرة إلى الشمال» التي صدرت في بيروت، حيث أحسن استقبالها النقّاد العرب، واعتبروها واحدة من أهم الروايات العربية المعاصرة، وجرى ترجمتها إلى أكثر من خمسين لغة أجنبية، واختيرت في 2002 من بين أهم مئة رواية في تاريخ الأدب العالمي، وهو إنجاز عربي عظيم دون شك.
الرواية تناولت مبكرا موضوع الصدام بين الثقافات، من خلال نموذج الطالب القادم من عالم الجنوب حيث غابات السافانا والأنهار الاستوائية إلى عاصمة الضباب لندن. وفي هجرته إلى الشمال يحاول إثبات ذاته في ميدان الدراسة العليا، وإثبات فحولته أمام الإنجليزيات، لينتقم من الإمبراطورية العظمى التي احتلت بلاده وأخضعتها منذ عقود.
كثيرون ممن قرأوها استقر في أذهانهم أنه ينزف من تجارب شخصية، والمفارقة أن الحكم الجديد في السودان منع الرواية من التداول في التسعينيات، بعد ثلاثين عاما من صدورها، لما فيها من مشاهد جنسية مباشرة وتعبيرات صريحة، بينما اعتبرها العالم الخارجي أفضل تحفة قدّمها السودان للعالم العربي، وبسببها أنعم ناقد أدبيٌ كبير مثل رجاء النقاش على المؤلف بلقب «عبقري الرواية العربية».
كثيرة هي الجوائز التي حصل عليها، لكن أهمها على الإطلاق ما وصفه به أحد النقاد بقوله: «لقد جلس الطيّب صالح مع شعبه على الأرض ليروي لنا حكاياته».
الطيّب كان يزور البحرين بين فترةٍ وأخرى، ربما كانت تعني له شيئا خاصا. فهو يزور له أهلا، ويلتقي ببعض أفراد الجالية السودانية الكريمة، وفي كلّ مرّة كان يفضّل السكينة ويتجنّب الأضواء، ولذلك كان يرفض الحديث إلى الصحافة أو إجراء لقاء مع التلفزيون.
أمس... رحل عن عالمنا الطيّب صالح عن ثمانين عاما، بعد أن أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة في أحد مستشفيات لندن، فقد آن للمهاجر الأسمر أن ينهي غربته ويعود من الشمال
قاسم حسين
كاتب بحريني
ربما كان ذلك في أحد أيام العام 1986، حين وقع بيدي عددٌ قديمٌ من مجلة «الدوحة» القطرية، وكان من أمتع ما قرأته فيه كلمةٌ ألقيت في مؤتمرٍ عُقد في تونس، ابتدأها صاحبها معرّفا نفسه على أنه «الطيب صالح»، وليس «عبدالله الطيب»، فكثيرٌ من إخواننا المشارقة يخلطون بيني وبين شخص آخر تماما!
الكلمة التي نشرت في صفحتين، تركت انطباعا قويا في النفس، وعرفت لاحقا أنه روائي كبير، ثم قرأت أن أحد المخرجين الكويتيين حوّل إحدى رواياته «عرس الزين» إلى فيلم نهاية السبعينيات. ثم عرفت أن لديه عدة روايات، فطلبت المجموعة الكاملة لأتفرّغ لقراءتها رواية رواية: «مريود»، «ضو البيت»، «دومة ود حامد»، «بندر شاه»... فكلها ذات نكهة خاصة جدا، تشمّ فيها رائحة الريف وتسمع همسات قلب السوداني البسيط المستلقي على ضفاف النيل، وتعيش وسط البخور والعطور في مراسم إعداد «الريحة والدخان» لتجهيز العروس السودانية لليلة الدخلة.
وُلد الطيّب في قرية بشمال السودان العام 1929، والتحق بجامعة الخرطوم ليدرس العلوم، وفي 1952 غادر إلى بريطانيا ليكمل دراسته ويعمل بالقسم العربي في الـ «بي بي سي»، ومنها انتقل إلى وزارة الإعلام في قطر، ومنها إلى باريس حيث تولى منصبا في المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو).
بداية الشهرة كانت في 1966، مع «موسم الهجرة إلى الشمال» التي صدرت في بيروت، حيث أحسن استقبالها النقّاد العرب، واعتبروها واحدة من أهم الروايات العربية المعاصرة، وجرى ترجمتها إلى أكثر من خمسين لغة أجنبية، واختيرت في 2002 من بين أهم مئة رواية في تاريخ الأدب العالمي، وهو إنجاز عربي عظيم دون شك.
الرواية تناولت مبكرا موضوع الصدام بين الثقافات، من خلال نموذج الطالب القادم من عالم الجنوب حيث غابات السافانا والأنهار الاستوائية إلى عاصمة الضباب لندن. وفي هجرته إلى الشمال يحاول إثبات ذاته في ميدان الدراسة العليا، وإثبات فحولته أمام الإنجليزيات، لينتقم من الإمبراطورية العظمى التي احتلت بلاده وأخضعتها منذ عقود.
كثيرون ممن قرأوها استقر في أذهانهم أنه ينزف من تجارب شخصية، والمفارقة أن الحكم الجديد في السودان منع الرواية من التداول في التسعينيات، بعد ثلاثين عاما من صدورها، لما فيها من مشاهد جنسية مباشرة وتعبيرات صريحة، بينما اعتبرها العالم الخارجي أفضل تحفة قدّمها السودان للعالم العربي، وبسببها أنعم ناقد أدبيٌ كبير مثل رجاء النقاش على المؤلف بلقب «عبقري الرواية العربية».
كثيرة هي الجوائز التي حصل عليها، لكن أهمها على الإطلاق ما وصفه به أحد النقاد بقوله: «لقد جلس الطيّب صالح مع شعبه على الأرض ليروي لنا حكاياته».
الطيّب كان يزور البحرين بين فترةٍ وأخرى، ربما كانت تعني له شيئا خاصا. فهو يزور له أهلا، ويلتقي ببعض أفراد الجالية السودانية الكريمة، وفي كلّ مرّة كان يفضّل السكينة ويتجنّب الأضواء، ولذلك كان يرفض الحديث إلى الصحافة أو إجراء لقاء مع التلفزيون.
أمس... رحل عن عالمنا الطيّب صالح عن ثمانين عاما، بعد أن أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة في أحد مستشفيات لندن، فقد آن للمهاجر الأسمر أن ينهي غربته ويعود من الشمال