بسم الله الرحمن الرحيم
استقبال شهر شعبان - د. علاء شعبان الزعفراني
ما أسرع مرور الأيامِ والسنوات، فهذه مرةٌ بعد مرة وما السابقةُ منا ببعيد فنحنُ على مشارف شهر شعبان، ومع سرعة انصرام الأيام ينبغي لنا أن نحذر، فما هي إلا أيام وتنتهي حياتنا، فلعينا المبادرة إلى الأعمال الصالحة شكرًا لنعمة الله علينا بالبقاء حتى هذه المواسم الفاضلة، فكم من إنسان تمنى أن يدرك أيامنا ولكن فاجأه الموت؛ لذا كانت هذه الوقفات مع بداية شهر شعبان.
أولاً: الإكثار من الصيام:
♦ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ"[1].
وفي رواية مسلم: "كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا"[2]، فيسن صوم أكثر شهر شعبان، ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء من الحنفية[3]، والمالكية[4]، والشافعية[5]، وطائفة من الحنابلة[6].
فعلينا أن نكثر من الصيام في شهر شعبان، اتباعًا لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ولترفع أعمالنا ونحن صيام.
♦ فعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟! قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"[7].
وقد دلت السنة على أن أعمال العباد ترفع للعرض على الله عز وجل أولاً بأول، في كل يوم مرتين: مرة بالليل ومرة بالنهار:
• فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ"[8].
• وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ"[9].
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "فيه: أَنَّ الأَعْمَال تُرْفَع آخِرَ النَّهَار، فَمَنْ كَانَ حِينَئِذٍ فِي طَاعَة بُورِكَ فِي رِزْقه وَفِي عَمَله، وَاَللَّه أَعْلَم، وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ حِكْمَة الأَمْر بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمَا وَالاهْتِمَام بِهِمَا -يعني صلاتي الصبح والعصر - "[10].
ودلت السنة على أن أعمال كل أسبوع تعرض - أيضًا - مرتين على الله عز وجل.
• فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ: يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلَّا عَبْدًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا، أَوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا"[11].
ودلت السنة - أيضًا - على أن أعمال كل عام ترفع إلى الله عز وجل جملة واحدة في شهر شعبان كما في حديث أسامة بن زيد.
فنلخص من هذه النصوص أن أعمال العباد تعرض على الله ثلاثة أنواع من العرض:
• العرض اليومي، ويقع مرتين كل يوم.
• والعرض الأسبوعي، ويقع مرتين أيضًا: يوم الاثنين ويوم الخميس.
• العرض السنوي، ويقع مرة واحدة في شهر شعبان.
وقد دلت أحاديث عرض الأعمال على الله تعالى على الترغيب في الازدياد من الطاعات في أوقات العرض، كما قال صلى الله عليه وسلم في صيام شعبان: "فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"[12].
وكان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول: "اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل!!"[13].
فمن أساء منا في ما رفع من أعماله في يومه فأمامه فرصة أن يجود فيما سيرفع خلال الأسبوع، ومن أساء فأمامه فرصة أن يحسن فيما سيرفع من أعمال العباد في كل عام في شهر شعبان، فهذا من فضل ونعمة ربنا علينا.
ثانيًا: فلنحذر الغفلة:
في حديث أسامة قال النبي صلى الله عليه وسلم "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ"[14].
والغفلة هي: "فقد الشّعور بما حقّه أن يشعر به"[15].
قال تعالى:﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [16].
هذا تعجب من حالة الناس، وأنه لا ينجع فيهم تذكير، ولا يرعون إلى نذير، وأنهم قد قرب حسابهم، ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة، والحال أنهم في غفلة معرضون، أي: غفلة عما خلقوا له، وإعراض عما زجروا به. كأنهم للدنيا خلقوا، وللتمتع بها ولدوا، وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ، ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم، ولهذا قال: ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ﴾ [الأنبياء: 2] يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه وما يضرهم، ويرهبهم منه ﴿ إِلا اسْتَمَعُوهُ ﴾ [الأنبياء: 2] سماعا، تقوم عليهم به الحجة، ﴿ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 2، 3] أي: قلوبهم غافلة معرضة لاهية بمطالبها الدنيوية، وأبدانهم لاعبة، قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل، والأقوال الردية، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة، تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه، وتستمعه استماعا، تفقه المراد منه، وتسعى جوارحهم، في عبادة ربهم، التي خلقوا لأجلها، ويجعلون القيامة والحساب والجزاء منهم على بال، فبذلك يتم لهم أمرهم، وتستقيم أحوالهم، وتزكوا أعمالهم[17].
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنّه كبش أملح[18] فيوقف بين الجنّة والنّار فيقال: يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون[19] وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت. قال: ويقال: يا أهل النّار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت.
قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثمّ يقال: يا أهل الجنّة، خلود فلا موت. ويا أهل النّار خلود فلا موت». ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾[20] وأشار بيده إلى الدّنيا"[21].
فهذه هي الغفلة التي قال عنها معاذ بن جبل رضي الله عنه: «ليس تحسّر أهل الجنّة إلّا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها»[22].
فتأمل معي الحسرة التي يشعر بها أهل النار إذا ضاعت منهم الفرص في حياتهم فما استغلوا منها شيء حتى فاجأهم الموت، وضاع منهم كل شيء.
فنعوذ بالله من الغفلة ونسأله تعالى أن يعيننا على أنفسنا في شهر شعبان.
ثالثًا: العودة إلى القرآن:
علينا قبل أن يدخل علينا شهر رمضان أن نعود إلى القرآن بصورة مختلفة، فنقرأ بتأمل لأجل أن يغير فينا القرآن، قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [23].
وعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ»، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى»، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ"[24].
تأمل معي تفاعله صلى الله عليه وسلم مع القرآن، فليس الهدف مجرد التلاوة باللسان مع غفلة القلب، ويؤكد هذا المعنى الحديث الآتي:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]... الحديث[25].
فترديد الآية المؤثرة في القلب من أقوى ما يعين على تدبر القرآن، قَالَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ: "إِنَّمَا الْآيَةُ مِثْلُ التَّمْرَةِ كُلَّمَا مَضَغْتَهَا اسْتَخْرَجْتَ حَلَاوَتَهَا"، فَحُدِّثَ بِهِ أَبُو سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: "صَدَقَ، إِنَّمَا يُؤْتَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ السُّورَةَ أَرَادَ آخرها"[26].
لذا عندما فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا الأمر وتربوا عليه كثر هذا الأمر فيهم وفي التابعين:
فعَنْ مَسْرُوقٍ: " أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ، رَدَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحَ، ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]"[27].
وعن عَبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَسْمَاءَ وَهِيَ تَقْرَأُ: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27] قَالَ: «فَوَقَفَتْ عَلَيْهَا، فَجَعَلَتْ تَسْتَعِيذُ وَتَدْعُو» قَالَ عَبَّادٌ: فَذَهَبْتُ إِلَى السُّوقِ، فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ وَهِيَ فِيهَا بَعْدُ تَسْتَعِيذُ وَتَدْعُو[28].
وَرَدَّدَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْلَةً: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18] حَتَّى أَصْبَحَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّ فِيهَا مُعْتَبَرًا، مَا نَرْفَعُ طَرَفًا وَلَا نَرُدُّهُ إِلَّا وَقَعَ عَلَى نِعْمَةٍ، وَمَا لَا نَعْلَمُهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ أَكْثَرُ»[29].
رابعًا: ليلة النصف من شعبان:
اختلف أهل العلم في فضل هذه الليلة من حيث هي:
قال ابن رجب: "كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، يعظمونها، ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها.
وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها،.. وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا ذلك كله بدعة"[30].
واحتج من يرى فضلها بأحاديث من أجودها حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللهَ - تعالى - لَيَطَّلِعُ في ليلةِ النِّصْفِ من شعبانَ، فيغفرُ لجميعِ خلقِهِ؛ إلا لِمُشْرِكٍ أو مُشَاحِنٍ"[31].
فالراجح أن الحديث حسن، لذا قال ابن حجر - رحمه الله -: "وأما ليلة النصف من شعبان، فلها فضيلة، وإحياؤها بالعبادة مستحب، ولكن على الانفراد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حتى يمضي ثُلُث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، من ذا الذى يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر"[32].
وقال ابن رجب الحنبلي: "فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب وستر العيوب وتفريج الكروب، وأن يقدم على ذلك التوبة، فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب"[33].
خامسًا: الصيام في آخر شعبان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا"[34].
هذا حديث مختلف فيه، وعلى فرض صحته فهو يدل على النهي عن الصيام بعد نصف شعبان، أي ابتداءً من اليوم السادس عشر.
لأنه قد ورد ما يدل على جواز الصيام عموما من بداية شعبان وحتى بعد النصف. فمن ذلك:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»[35].
فهذا يدل على أن الصيام بعد نصف شعبان جائز لمن كانت له عادة بالصيام، كرجل اعتاد صوم يوم الاثنين والخميس، أو كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ونحو ذلك.
وعن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلا"[36].
فهذا الحديث يدل على جواز الصيام بعد نصف شعبان، ولكن لمن وصله بما قبل النصف.
وقد عمل الشافعية بهذه الأحاديث كلها، فقالوا:
لا يجوز أن يصوم بعد النصف من شعبان إلا لمن كان له عادة، أو وصله بما قبل النصف. هذا هو الأصح عند أكثرهم أن النهي في الحديث للتحريم.
وذهب بعضهم - كالروياني - إلى أن النهي للكراهة لا التحريم[37].
والذين ردوا هذا الحديث لهم مأخذان[38]:
أحدهما: أنه لم يتابع العلاء عليه أحد، بل انفرد به عن الناس[39].
وكيف لا يكون هذا معروفًا عند أصحاب أبي هريرة مع أنه تعم به البلوى ويتصل به العمل؟!
والمأخذ الثاني: أنهم ظنوه معارضًا لحديث عائشة[40]، وأم سلمة[41] في صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله، أو إلا قليلاً منه، وقوله: "إلا أن يكون لأحدكم صوم فليصمه"، وسؤاله للرجل عن صور سرر شعبان. قالوا: وهذه الأحاديث أصح منه.
وأما المصححون له، فأجابوا عن هذا بأنه ليس فيه ما يقدح في صحته، و هو حديث على شرط مسلم، و قد أخرج مسلم في صحيحه عدة أحاديث عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وتفرده به تفرد ثقة بحديث مستقل، وله عدة نظائر في الصحيح.
قالوا: والتفرد الذي يعلل به هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها. وأما الثقة العدل إذا روى حديثًا وتفرد به لم يكن تفرده علةً، فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم عملت بها الأمة؟
وأما ظن معارضته بالأحاديث الدالة على صيام شعبان، فلا معارضة بينهما، فإن تلك الأحاديث تدل على صوم نصفه مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف لا لعادةٍ ولا مضافًا إلى ما قبله، ويشهد له حديث التقدم[42].
وَأَمَّا كَوْن الْعَلَاء لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ أَبِيهِ، فَهَذَا لَمْ نَعْلَم أَنَّ أَحَدًا عَلَّلَ بِهِ الْحَدِيث، فَإِنَّ الْعَلَاء قَدْ ثَبَتَ سَمَاعه مِنْ أَبِيهِ، وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ الْعَلَاء عَنْ أَبِيهِ بِالْعَنْعَنَةِ غَيْر حَدِيث[43].
وَقَدْ قَالَ... [44]: لَقِيت الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن وَهُوَ يَطُوف، فَقُلْت لَهُ: بِرَبِّ هَذَا الْبَيْت، حَدَّثَك أَبُوك عَنْ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا اِنْتَصَفَ شَعْبَان فَلَا تَصُومُوا؟" فَقَالَ: وَرَبِّ هَذَا الْبَيْت سَمِعْت أَبِي يُحَدِّث عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَره[45].
وعليه فالراجح ثبوت الحديث - والله أعلم -، فيكون أقرب الأقوال هو: قول بعض الشافعية وبعض الحنابلة بأنه يُكره الصيام بعد منتصف شعبان لمن ليس له عادة، لحديث: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا".
وفي ختام كلامنا أنصح نفسي وإياكم بالانكسار والتضرع بين يدي الله، والبكاء على ذنوبنا، فالله يحب من عبده كسرته، وتضرعه، وذله بين يديه، واستعطافه، وسؤاله أن يعفو عنه، ويغفر له، فاللهم تب علينا وبلغنا رمضان وأنت راضٍ عنا، وارزقنا ذوق حلاوة الإيمان.