لعل التطوُّر الطبيعي للشكل الشاذِّ في العبادة لدى أهل مكة هو التشريع الأرضي بديلاً عن التشريع السماوي؛ لأن الأصنام لا توحي شرعًا، ولا تسنُّ القوانين!
ولكن آفة العرب الكبرى أنهم نسبوا هذا التشريع البشري -أيضًا- إلى الله عز وجل، فجعلوا هذه العبادات المبتكرة والبدع المنحرفة جزءًا من دينهم، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
تشريعات خاصة بالذبائح
وعلى هذا فقد بدءوا بوضع التشريعات الأرضية التي تتناول جوانب الحياة المختلفة؛ فهناك تشريعات خاصة بالذبائح؛ كما قال سبحانه: {وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]، وقال كذلك: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 138-139].
وعن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيَّب قال: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلاَ يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ فَلاَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ. قَالَ: وَقَالَ أبو هريرة رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ(أمعاءه) فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ" [1]. وزاد في رواية للبخاري: وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبَكْرُ تُبْتَكَرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الإِبِلِ بِالأُنْثَى، ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدَ ذَلِكَ بِالأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا طَوَاغِيتِهِمْ وَيَدْعُونَهَا الْوَصِيلَةُ حِينَ وُصِلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ. وَالْحَامُ: فَحْلُ الإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ دَعَوْهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنَ الْحَمْلِ، فَلَمْ يَحْمِلُوا عَلَيْهِ شَيْئًا وَسَمَّوْهُ الْحَامَي[2].
وعن نُبَيْشَةَ رضي الله عنه قال: نادى رجلٌ وهو بمنًى فقال: يا رسول الله إنَّا كنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً[3] في الجاهليَّة في رجبٍ، فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "اذْبَحُوا فِي أَيِّ شَهْرٍ مَا كَانَ، وَبَرُّوا اللهَ وَأَطْعِمُوا". قال: إنَّا كنَّا نُفَرِّعُ فَرَعًا [4]، فما تأمرنا؟ قال: "فِي كُلِّ سَائِمَةٍ (الراعية) فَرَعٌ تَغْذُوهُ مَاشِيَتُكَ [5]، حَتَّى إِذَا اسْتَحْمَلَ[6] ذَبَحْتَهُ فَتَصَدَّقْتَ بِلَحْمِهِ" [7]. وقد ردَّ الله سبحانه وتعالى عليهم مكذبًا لما ادَّعَوْه؛ فقال: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
تشريعات خاصة بفريضة الحج
كما وضعوا تشريعات تخصُّ فريضة الحج التي كانوا يعظِّمونها؛ فقد زادوا في شعائر الحج التي جاء بها إبراهيم عليه السلام، ونقصوا فيها، وحرَّفوها عن مقاصدها؛ فكانت قريش تقول: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا -وكانوا يسمون أنفسهم الحُمْس [8]- فينبغي لنا ألا نخرج من الحرم إلى الحِلِّ، فكانوا لا يقفون بعرفة، ولا يفيضون منها، وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة؛ وذلك ما وضحه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: لاَ نُفِيضُ إِلاَّ مِنَ الْحَرَمِ" [9]. وهذا هو سبب نزول قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
ومن تشريعاتهم[10] أنهم قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأقِطوا الأقِط [11] ولا يسلئوا السمن [12] وهم حُرُم، ولا يدخلوا بيتًا من شَعر، ولا يستظلُّوا إن استظلُّوا إلا في بيوت الأدم ما داموا حُرُمًا.
ومنها أنهم قالوا: لا ينبغي لأهل الحِلِّ -أي الذين يعيشون خارج الحرم- أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحلِّ إلى الحرم، إذا جاءوا حجَّاجًا أو عُمَّارًا.
ومنها: أنهم أمروا أهل الحلِّ ألا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، وكانت الحمس يحتسبون على الناس، يعطى الرجلُ الرجلَ الثيابَ يطوف فيها، وتعطى المرأةُ المرأةَ الثيابَ تطوف فيها، فإن لم يجدوا شيئًا فكان الرجال يطوفون عراة، وكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعًا مفرجًا [13] ثم تطوف فيه. روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا ؟ [14]، تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ:
الْيَــــوْمَ يَبْـــدُو بَعْضُــــهُ أَوْ كُلُّـــهُ *** فَمَـــا بَــــدَا مِنْـــهُ فَـــــلاَ أُحِلُّــــهُ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]" [15]. وكان الذي يرفض من الرجال أو النساء أن يطوف عريانًا يطوف في ثيابه التي جاء بها من الحلِّ، ثم يلقيها بعد الطواف، ولا ينتفع بها هو ولا أحد غيره.
ومنها: أنهم كانوا لا يأتون بيوتهم من أبوابها في حال الإحرام؛ بل كانوا ينقبون في ظهور البيوت نقبًا يدخلون ويخرجون منه، وكانوا يحسبون ذلك الجفاء برًّا، وقد نهي عنه القرآن، قال الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]، فعن البراء بن عازب قال: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا، كَانَتِ الأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ"[16].
وهكذا لم يبقَ من دين إبراهيم عليه السلام إلاَّ القليل؛ مثل تعظيم البيت العتيق والطواف به، والحج والعمرة، مع ما فيهما من تحريف، والوقوف في عرفات والمزدلفة، وإهداء البدن، مع أنهم أدخلوا في كل هذا ما ليس منه. قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: "كان المشركون يقولون: لبَّيك لا شريك لك. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَيْلَكُمْ، قَدْ قَدْ [17]". فَيَقُولُونَ: إِلاَّ شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت"[18]. فهم يوحِّدون الله بالتلبية، في الوقت الذي يُدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده.
المكاء والتصدية في المسجد الحرام
ومما زادوه في عباداتهم المكاء والتصدية في المسجد الحرام وهو التصفيق والصفير؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، إضافة إلى ذبحهم على النصب تعظيمًا للأصنام، واستسقائهم بالأنواء، وقسمهم باللاَّت والعزى.
التلاعب بالأشهر الحرم
كما تلاعب العرب بالأشهر الحرم، وغيَّروا ترتيبها؛ لكي يستحلوا القتال فيها؛ فقد كان فيهم رجال ينسئون[19] الشهور على العرب في الجاهلية، فيحلون الشهر من الأشهر الحرم، ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل؛ ليواطئوا عدَّة ما حرم الله، ويؤخرون ذلك الشهر، وكان أوَّل مَنْ نسأ الشهور على العرب فأحلت منها ما أحل، وحرمت منها ما حرم، القلمس، وهو حذيفة بن عبد من خزيمة، ثم قام بعده على ذلك أولاده وأحفاده، وكان آخرهم أبو ثمامة جنادة بن عوف، وعليه قام الإسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجِّها اجتمعت إليه، فحرَّم الأشهر الحرم الأربعة رجبًا وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، فإذا أراد أن يحلَّ شيئًا أحلَّ المحرم فأحلُّوه، وحرَّم مكانه صفرًا فحرَّموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم [20]، وفيهم أنزل الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37].
وعن ابن عباس قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، قال: "النسيء"، هو أن جُنَادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كلَّ عام، وكان يُكنى أبا ثُمَامة، فينادي: "ألا إنَّ أبا ثمامة لا يُحَابُ ولا يُعَابُ، ألا وإن صَفَر العامِ الأوَّلِ العامَ حلالٌ". فيحله الناس، فيحرم صَفَر عامًا، ويحرِّم المحرم عامًا؛ فذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]. وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، يقول: يتركون المحرم عامًا، وعامًا يحرِّمونه[21].
حَجَّتْ مُصْمِتَةً
والعجيب أنهم كانوا أحيانًا يُشَرِّعون لأنفسهم تشريعات تجلب عليهم المشقة؛ فعن قيس بن أبي حازمٍ، قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه على امرأةٍ من أَحْمَسَ [22] يقال لها: زينب. فرآها لا تَكَلَّمُ، فقال: "مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ؟" قَالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً. قال لها: "تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ". فَتَكَلَّمَتْ[23].
يقدمون طعامهم لآلهتهم
وكانوا يقدمون طعامهم للآلهة التي يعبدونها من دون الله: {وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
انتشار التطير
كما انتشر بينهم التطير؛ فقد قال ابن حجر رحمه الله: "وأصل التَّطيُّر أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يعتمدون على الطَّير، فإذا خرج أحدهم لأمرٍ فإن رأى الطَّير طَارَ يَمْنَةً تَيَمَّنَ به واستمرَّ، وإن رآه طار يسرةً تشاءم به ورجع، وربَّما كان أحدهم يُهَيِّجُ الطَّير ليطير فيعتمدها، فجاء الشَّرع بالنَّهي عن ذلك، وقد كان بعض عقلاء الجاهليَّة يُنْكِرُ التَّطيُّر ويتمدَّح بتركه، قال شاعرٌ منهم:
وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لاَ أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِمِ *** فَإِذَا الأَشَائِمُ كَالأَيَامِنِ وَالأَيَامِنُ كَالأَشَائِمِ
وقال آخر:
الــزُّجَّـــــرُ وَالطُّيَّــــــرُ وَالْكُهَّـــــانُ كُلُّهُـــــمُ *** مُضَلِّلُــــونَ وَدُونَ الْغَيْـــبِ أَقْفَـــــــــالُ
وقال آخر:
لَعُمْـــرُكَ مَــا تَــدْرِي الطَّــــوَارِقُ بِالْحَصَــــى *** وَلاَ زاجـــرات الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانِعُ [24]
وعن أنس رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ"[25].
نسبوا لله البنات سبحانه
ونتيجة هذه الجرأة على الله تعالى بدأ تصوُّرهم عن الله نفسه ينحرف بشدَّة؛ فنسبوا له البنات {وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]. ثم جعلوا له شركاء آخرين بخلاف الأصنام؛ قال تعالى: {وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100].
يلحدون في أسماء الله
وأخذوا يُلحدون في أسمائه سبحانه: {وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]؛ قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "كان إلحادهم -أي المشركين- في أسماء الله أنهم عدلوا بها عمَّا هي عليه، فسمَّوْا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا ونقصوا منها، فسمَّوْا بعضها اللات اشتقاقًا منهم لها من اسم الله الذي هو الله، وسمَّوْا بعضها العزَّى اشتقاقًا لها من اسم الله العزيز"[26].
سفاهة في الفكر
وقد وصل الأمر بهم إلى درجة كبيرة من السفاهة في الفكر؛ فعن أبي رجاءٍ العطارديِّ رحمه الله قال: "كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً[27] مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ[28]، فَلاَ نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلاَ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ"[29].
وعن مجاهدٍ، قال: حدَّثني مولاي (السائب بن عبد الله): "أَنَّ أَهْلَهُ بَعَثُوا مَعَهُ بِقَدَحٍ فِيهِ زُبْدٌ وَلَبَنٌ إِلَى آلِهَتِهِمْ، قالَ: فَمَنَعَنِي أَنْ آكُلَ الزُّبْدَ لِمَخَافَتِهَا. قَالَ: فَجَاءَ كَلْبٌ فَأَكَلَ الزُّبْدَ وَشَرِبَ اللَّبَنَ، ثُمَّ بَالَ عَلَى الصَّنَمِ وَهُوَ: إِسَافٌ، وَنَائِلَةُ". قَالَ هَارُونُ: "كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا سَافَرَ، حَمَلَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ ثَلاَثَةٌ لِقِدْرِهِ وَالرَّابِعُ يَعْبُدُهُ، وَيُرَبِّي كَلْبَهُ، وَيَقْتُلُ وَلَدَهُ"[30].
[1] البخاري: كتاب التفسير، سورة المائدة، (4347)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، (2856).
[2] البخاري: كتاب التفسير، سورة المائدة، (4347).
[3] عتر الشاة والظَّبية ونحوهما: ذبحها، والعتيرة في رجب وذلك أن العرب في الجاهلية كانت إذا طلب أَحدُهم أمرًا نذر لئن ظفر به ليذبَحَنَّ من غنمه في رجب. ابن منظور: لسان العرب، 4/536.
[4] الفَرَعُ والفَرَعَةُ: أول نتاج الإبل والغنم، وكان أهل الجاهلية يذبحونه لآلهتهم يَتَبَرَّعُون بذلك. وهو ذِبْح كان يُذْبَحُ إِذا بلغت الإِبل ما يتمناه صاحبها أو إذا كان للإنسان مائة بعير نحر منها بعيرًا كل عام فأَطْعَمَ ولا يَذُوقُه ولا أَهلُه، وقيل: إنه كان إذا تمت له إبله مائة قدَّم بكرًا فنحره لصنمه وهو الفَرَع. ابن منظور: لسان العرب، 8/246.
[5] تغذوه ماشيتك؛ أي: ترضعه ماشيتك وهي أُمُّه لاحتياجه للرضاعة. انظر العراقي: طرح التثريب في شرح التقريب 5/224.
[6] استحمل؛ أي: إذا صلح للحمل عليه أي صار شابًّا قويًّا ذبحته. ومعنى الحديث أن تأخير ذبح الفرع إلى أن يكمل ويشبع من لبن أمه ويجيء وقت الحمل عليه أفضل من المبادرة لذبحه في أول ولادته. العراقي: طرح التثريب في شرح التقريب 5/224، وشرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره ص228.
[7] أبو داود (2830)، والنسائي (4555)، وابن ماجه (3167)، وأحمد (20746)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. والحاكم (7582)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصحح إسناده ابن الملقن؛ انظر: البدر المنير 9/349، وقال النووي: رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة قال ابن المنذر: هو حديث صحيح. انظر: شرح النووي على مسلم 13/136، وصححه الألباني، انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 4/412.
[8] الحُمْس قريش؛ لأنهم كانوا يتشددون في دينهم وشجاعتهم فلا يطاقون، وقيل: كانوا لا يستظلون أيام منى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون، ولا يطبخون السمن. ابن منظور: لسان العرب، 6/57.
[9] البخاري: كتاب التفسير، سورة البقرة، (4248)، ومسلم: كتاب الحج، باب في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، (1219) واللفظ له.
[10] ابن هشام: السيرة النبوية 1/202، وأبو جعفر البغدادي: المنمق في أخبار قريش ص128، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/411.
[11] الأقط: شيء يصنع من اللبن ويجفف فيؤكل. وأَقَطَ الرجلَ أَطْعَمه الأَقِط.
[12] سَلأَ السمنَ: طبخه وعالجه فأذاب زُبْدَه.
[13] المفرج: المشقوق من الأمام والخلف.
[14] التطواف: هو ثوب تلبسه المرأة تطوف به.
[15] مسلم: كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، (3028).
[16] البخاري: أبواب العمرة، باب قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، (1709)، ومسلم: كتاب التفسير، (3026).
[17] قدْ قدْ: روي بإسكان الدال وكسرها مع التنوين، ومعناه: كفاكم هذا الكلام، فاقتصروا عليه ولا تزيدوا.
[18] مسلم: كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، (1185).
[19] ينسئون: يؤخِّرون؛ وذلك أن العرب كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل منهم من كنانة فيقول: أنا الذي لا أعابُ ولا أُجابُ ولا يُرَدُّ لي قضاءٌ. فيقولون: صَدَقْتَ أَنْسِئْنا شهرًا؛ أي أَخِّرْ عنَّا حُرْمة المحرم واجعلها في صفر، وأحِلَّ المحرم. لأنهم كانوا يكرهون أَن يتوالى عليهم ثلاثة أَشهر حُرُمٍ لا يُغِيرُون فيها لأن معاشهم كان من الغارة، فيُحِلُّ لهم المحرَّم فذلك الإِنساءُ. ابن منظور: لسان العرب، 1/166.
[20] ابن هشام: السيرة النبوية 1/44 بتصرف، الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/286، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/644.
[21] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 14/245، وقال حكمت بن بشير بن ياسين: أخرج الطبري بسنده الحسن. انظر: الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور 2/450.
[22] أحمس: قبيلة من بجيلة وليست من الحمس الذين هم من قريش. القسطلاني: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 6/175.
[23] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب أيام الجاهلية، (3622).
[24] ابن حجر: فتح الباري 10/212، 213.
[25] البخاري: كتاب الطب، باب الفأل، (5424)، واللفظ له، ومسلم: كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم (2223).
[26] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 13/282.
[27] الجُثْوة والجَثْوَة والجِثْوَة ثلاث لغات: حجارة من تراب متجمع كالقبر، وقيل: هي الحجارة المجموعة، وقيل: هي الرِّبْوة الصغيرة، وقيل: هي الكومة من التراب.
[28] منصل الأسنة؛ أي: منزع الحديد من السلاح؛ والأسنة جمع سنان، وهو نصل الرمح.
[29] البخاري: كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، (4117).
[30] الدارمي (3)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن.
د.راغب السرجاني