بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد :
المسألة الأولى : حكم الكلام المحرم في المسجد :
لا خلاف بين أهل العلم في تحريم الغيبة ، والنميمة ، والكلام البذيء في داخل المسجد ، ويزداد التحريم إذا كان هناك رفع للصوت وتشويش على المتعبدين ، ويستدل لذلك بما يلي :
1 – قال تعالى : " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ... " [ آية 36 من سورة النور ] .
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره ( 6/62 ) [ أي أمر لله – تعالى – برفعها ، أي : بتطهيرها من الدنس ، واللغو ، والأفعال ، والأقوال التي لا تليق فيها ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : " في بيوت أذن الله أن ترفع " قال : نهى الله – سبحانه – عن اللغو فيها ، وكذا قال عكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، ونافع بن جبير ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، وسفيان بن حسين ، وغيرهم من علماء التفسير ] .
ونقل البغوي – رحمه الله – في تفسيره ( 6/50 ) عن الحسن ، قولَه : أي تعظَّم ( 1 ) ، أي : لا يذكر فيه الخنا من القول .
2 – عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بنى رحبةً في ناحية المسجد ، تسمى : ( البطيحاء ) ، وقال : من كان يريد أن يَلْغَطَ ، أو ينشد شعراً ، أو يرفع صوته ، فليخرج إلى هذه الرحبة ( 2 ) .
وجه الاستدلال : أن عمر – رضي الله عنه – أمر من أراد أن يلغط ، بالخروج من المسجد ، وما ذاك إلا لعلمه – رضي الله عنه – بالنهي عن ذلك .
قال الباجي في المنتقى ( 1/312 ) : [ ولما رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كثرة جلوس الناس في المسجد ، وتحدثهم فيه ، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط ، وهو : المختلط من القول، وارتفاع الأصوات ، وربما جرى أثناء ذلك إنشاد شعر ، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد ، وجعلها كذلك ، ليتخلَّص المسجد لذكر الله – تعالى – وما يحسن من القول ، و يتنزَّهَ من اللغط ، وإنشاد الشعر ، ورفع الصوت فيه ، ولم يُرِدْ أن ذلك محرمٌ فيه ، وإنما ذلك على معنى الكراهية ، وتنزيه المساجد ، لا سيما مسجدُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فيجب له من التعظيم ، والتنزيه ما لا يجب لغيره ] .
3 – قياس الأولى : فإذا كانت مثل هذه الأشياء منهيٌ عنها خارج المسجد ، ففيه أولى ، وذلك لحرمة المكان .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في مجموع الفتاوى ( 22/200 ) : [ وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسنٌ ، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً ، وكذلك المكروه ، ويكره فيه فضول المباح ] .
4 – قياس الكلام المحرَّم على أكل البصل ، والثوم ، والكراث ، قال القرطبي : [ قال العلماء : وإذا كانت العلَّة في إخراجه من المسجد أنَّه يُتَأَذَّى به ، ففي القياس : أنَّ كلَّ من تأذى به جيرانه في المسجد ، بأن يكون ذَرِبَ اللسان سفيهاً عليهم ... وكلُّ مايتأذى به الناس كان لهم إخراجه ، ماكانت العلة موجودةً فيه حتى تزول ] .
وقال أيضاً : [ قال أبو عمر بن عبد البر : وقد شاهدتُ شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام – رحمه الله – أفتى في رجلٍ شكاه جيرانه ، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ، ويده ، فَشُوُوِرَ فيه ؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه ، وألا يشهد معهم الصلاة ! إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه .
فذاكرته يوماً أمره ، وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك ، وراجعته فيه القول ، فاستدل بحديث الثوم ، وقال : هو عندي أكثرُ أذىً من أكل الثوم ، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد ] .( 3 )
الحواشي :
1 - إلى هنا انتهى كلام الحسن ، وما بعده من كلام البغوي – رحمهما الله - ، وانظر تفسير عبد الرزاق ( 2/442 ) .
2- أخرجه مالك بلاغاً ( 1/175 ) ، ووصله البيهقي في سننه ( 10/103 ) من طريق الإمام مالك ، قال الألباني – رحمه الله – في تعليقه على إصلاح المساجد ( 112 ) : رجاله ثقات ، ولكنه منقطع بين سالم ، وجده عمر . ا هـ .
قلت : وقد ذكر ابن عبد البر في الإستذكار ( 6/355 ) أن هذا الحديث في رواية القعنبي ، ومطرف ، وأبي مصعب موصولاً ، هكذا : مالك ، عن أبي النضر ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر بن الخطاب ... ، ثم ذكر أن طائفةً رووه كما رواه يحيى ، والله أعلم .
3 - الجامع لأحكام القرآن ( 12/267 ) وما بعدها .
المسألة الثانية : حكم الكلام المشروع في المسجد :
وهذا شامل لقراءة القرآن ، والصلاة ، وتعليم العلم ، والمواعظ ، ونحو ذلك .
فيمكن أن نجعل هذه المسألة في مبحثين :
المبحث الأول : إذا كان الكلام المشروع بدون رفعٍ للصوت ، ولا إزعاجٍ للآخرين ، فهذا مما لا خلاف في جوازه ؛ حيث إن المساجد لم تبن إلا لعمارتها بالذكر ، وقراءة القرآن ، والصلاة ، كما جاء في حديث الأعرابي2 .
المبحث الثاني : أن يكون برفع الصوت ، وقد يحصل منه إزعاجٌ للآخرين ، فلا يخلو من حالتين :
الأولى : أن يكون مما أمر الله – سبحانه - ، وحثَّ رسوله – صلى الله عليه وسلم – على رفع الصوت فيه ، كالقراءة في الصلاة الجهرية ، والخطب ... فلم أجد – حسب بحثي – مَنْ مَنَعَ رفع الصوت ، ولو وجد لكانت ظاهر النصوص تدفع كلامه 3 .
الثانية : وهي ماعدا الحالة الأولى ، كالمواعظ ، والذكر ، وقراءة القرآن ، ونحوها ؛ فللعلماء في ذلك قولان :
الأول : المنع منه ، سواءً منعَ كراهةٍ ، أو تحريم 1 .
ومما يمكن أن يستدل لهم به :
1 – عن عبد الله بن عمر ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتكف ، وخطب الناس ، فقال : " أمَا إنَّ أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه ، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه ، ولا يجهر بعضكم على بعضٍ بالقراءة في الصلاة " 2.
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم – نهى الصحابة من جهر بعضهم على بعضٍ بالقراءة ، مع أن قراءة القرآن من الأمور المشروعة في المسجد .
* يرد عليه : أن هذا خاص بالجهر في الصلاة .
2 – عن واثلة بن الأسقع ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " جنبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وشراركم ، وبَيْعكم ، وخصوماتكم ، ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم ، وسلَّ سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجَمِّرُوْهَا في الجمع " 3 .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث ، نهى عن رفع الصوت .
* يرد عليه : أن الحديث ضعيف .
3 – قال صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " 4 .
وجه الاستدلال : أن في رفع الصوت سواءً بالقراءة ، أو بالعلم ضرراً على من بجواره ، والضرر مدفوعٌ كما بيَّن ذلك هذا الحديث ، وما رأيك بمسجدٍ كلُّ من فيه يجهر بصوته ، فماذا عساه أن يكون ؟! .
4 – عن السائب بن يزيد قال : كنت قائماً في المسجد ، فحصبني رجلٌ ، فنظرتُ ، فإذا عمر بن الخطاب، فقال اذهب ، فأتني بهذين ، فجئته بهما ، فقال : من أنتما ، أو من أين أنتما ؟ قالا : من الطائف قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم ! 1.
وجه الاستدلال : أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – زجر هذين الرجلين ؛ بل هَمَّ أن يوجعهما ضرباً ، مما يدل على أنهما فعلا مخالفةً شرعية .
قال ابن حجر في الفتح ( 1/668 ) [ قوله " لأوجعتكما " زاد الإسماعيلي " جلداً " ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع ؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي ] .
* يرد عليه : أن قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : ( ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) يظهر منه أن ذلك خاصٌ بمسجدِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لوجوده – صلى الله عليه وسلم - ، وحرمته ميتاً ، كحرمته حياً ، وقد قال بهذا بعض أهل العلم2 ؛
ومما يؤكد هذا – أيضاً – ما ورد في مصنف عبد الرزاق ( 1711 ) عن نافعٍ قال : كان عمر بن الخطاب يقول : لا تكثروا اللغط ، يعني في المسجد ، قال : فدخل المسجد ذات يوم فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما ، فبادراه ، فأدرك أحدهما ، فضربه ، وقال : ممن أنت ؟ قال : من ثقيف ، قال : إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت .
* يجاب عنه : بما قاله الحافظ ابن حجر ( 1/668 ) [ أن هذا الأثر فيه انقطاع ، لأن نافعاً لم يدرك ذلك الزمن ] .
* يجاب عنه : بأنَّ نافعاً أخذه من ابن عمر ، بدليل ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ( ) ، وأيضاً بالرواية الأخرى عند الصنعاني ( 1712 ) .
وحتى لو لم ترد هذه الروايات ، فأثر السائب الذي في البخاري كافٍ في الاستدلال .
5 – أثر عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه أنكر على جماعةٍ في المسجد ، يهللون ، ويكبرون ، ويسبحون جهراً ، وقال لهم : ما أراكم إلا مبتدعين3 .
* يرد عليه : أن إنكار بن مسعود – رضي الله عنه – عليهم ، لم يكن على جهرهم ، وإنما على الصفة التي كانوا يتعبدون بها ، بدليل : أنه ذكر أن فعلهم هذا بدعة ، ثم ليس هناك ما يدل على كون ذلك جهراً .
القول الثاني : جواز ذلك ، ويستدل لهم بالآتي :
1 – حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدْ ديناً كان له عليه في المسجد ، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وهو في بيته ؛ حتى كشف سِجْفَ حجرته ، فنادى : " ياكعب " قال : لبيك ، يارسول الله . قال : " ضع من دينك هذا " وأومأ إليه ، أي الشطر . قال : قد فعلت يارسول الله . قال : " قم فاقضه " 1 .
وجه الاستدلال : قال ابن حجر في الفتح ( 1/658 ) : [ قال المهلب : لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ولبيَّن لهما ] .
* يرد عليه : قال ابن حجر ( 1/658 ) : [ قلت : ولمن منع أن يقول : لعله تقدَّم نهيه عن ذلك ، فاكتفى به ، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك ، بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت ] .
* يجاب عنه : ينبغي أولاً : إثبات أن النهي عن رفع الصوت كان قبل هذه الحادثة .
* ثم ثانياً : ما الدليل على النهي عن رفع الصوت ؟ .
فإن قيل : قد تقدمت أحاديث النهي عن رفع الصوت .
قلنا : لا تخلو أدلتكم من ثلاث حالات :
1 – إما حديثٌ ضعيف ، لا يصلح الاحتجاج به .
2 – وإما مالا دلالة فيه ، أو فيه دلالةُ عامة ، يمكن أن تخص .
3 – وإما دليلٌ صحيحٌ ، معارضُ بأدلةٍ أخرى مثله ، فَيُجْمَعُ بينها.
* يرد عليه أيضاً : أن قصة كعب ليست في الأمور الشرعية .
يجاب عنه : أنَّ هذا إذا كان جائزاً في الأمور الدنيوية ، فالأمور الشرعية أولى بالجواز .
2 – حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ما كنَّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا بالتكبير2 .
وجه الاستدلال : أنَّ هذا ذكر مشروعٌ ورد رفع الصوت به في المسجد ، مع أنَّ المسجد بعد انقضاء الفريضة لا يخلوا ممن يقضي ما فاته ، ففيه تشويش عليهم .
* يرد عليه :
1 – أن الخلاف قائمٌ في جواز رفع الصوت بالذكر ، فلا يصح الاستدلال في موضعِ نزاعٍ أصلاً .
2 – حَمَلَه بعضهم على أنَّ هذا كان في أول الأمر ، لأجل تعليم صفة الذكر ، ولم يداوموا عليه .
* ويجاب عن ذلك :
1 – أن الذي ترجح عندنا هو مشروعية الجهر بالذكر ، فالحق واحد1.
2 – أما الاعتراض الثاني ، فيقلب عليهم ، بأن يقال : إذا كان هذا الفعل مشروعاً في مدَّةٍ معينةٍ ، مع أن فيه منكراً آخر – على حدِّ زعمهم – وهو رفع الصوت في المسجد ، والتشويش على المصلين ، دلَّ على أنَّ ما فيه مصلحةٌ راجحةٌ – مما هو مشروع – يجوز فيه رفع الصوت ، وهذا هو الراجح .
الراجح : التفريق بين ماله مصلحةٌ راجحة ، وبين ما مفسدته راجحة ، فالجواز في الأول ، وتتوجه الكراهة في الثاني ، إن لم يصل إلى التحريم ، وبهذا تجتمع الأدلة ، والله أعلم2 .
قال ابن حجر في الفتح ( 1/668 ) : [ أشار بالترجمة 3 إلى الخلاف في ذلك ... وساق البخاري في الباب حديث عمر الدال على المنع ، وحديث كعب الدال على عدمه ، إشارةً منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه، وعدمه فيما تلجئ الضرورة إليه ] .
قال ابن عَلَّان في الفتوحات ( 2/59 ) :[ نقل ابن العماد عن المصنفلمصنف4 أنه أفتى في قوم يجهرون بالقراءة ، وعندهم قومٌ يصلون ، ويتشوشون بذلك . بأن المستمعين إذا كانوا أكثر من المصلين لم يحرم ، أو بالعكس حرم ؛ نظراً لكثرة المصلحة ، وقِلَّتها .
ثم نَظَّرَ 1فيه ، وبحث المنع من الجهر بحضرة المصلي مطلقاً ، قال : لأن المسجد وقفٌ على المصلين ، أي أصالةً ، لا على الوعّاظ ، والقراء . ا هـ .
قال في شرح العُباب : والذي في فتاوى النووي : ( كُرِهَ ) بدل ( حَرُمَ ) ، وهو ما صرَّح به في المجموع وغيره ، وقد يحمل بعد القول بالكراهة على ما إذا خفَّ الضرر ، وبالحرمة على ما إذا اشتدَّ ، كما هو معلومٌ من تحريم الإضرار ، وإن أمكن توجيه إطلاق الكراهة بأن لنحو المصلي مندوحةٌ من الصلاة في ذلك المحل ، أو في ذلك الزمن ] 2 .
الحواشي سأضعها في وقتٍ لاحق - إن شاء الله - .
المسألة الثالثة : حكم الكلام المباح في المسجد :
وذلك كالكلام في أمور الدنيا ، وإنشاد الشعر ، ونحو ذلك .
ويمكن أن نقسم هذه المسألة إلى مبحثين :
المبحث الأول : إذا كان الكلام المباح بدون تشويش على المتعبدين ، فاختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أن الكلام في أمور الدنيا ممنوع ، إما كراهةً ، أو تحريماً ، واستدلوا بما يلي :
1 – عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حِلَقَاً حلقاً ، إمامهم الدنيا ، فلا تجالسوهم ، فإنه ليس لله فيهم حاجة " أخرجه الطبراني ، وحسنه الألباني – رحمه الله – كما في السلسلة الصحيحة ( 1163 ) .
وجه الاستدلال : أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذم هؤلاء ، وأخبر أن سبب ذمهم جعل الدنيا حديثهم .
* يرد عليه : أنَّ الحديث ضعيفٌ ، لا يصح .
فهذا الحديث جاء عن : عبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك – رضي الله عنهما – مرفوعاً ،
وروي نحوه موقوفاً عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - ،
وروي نحوه عن الحسن البصري مرسلاً .
فأما رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – : فأخرجها الطبراني في الكبير ( 10 / 198 برقم 10452 ) ، وأبو إسحاق المزكي في الفوائد المنتخبة ( 1 / 49 / 2 ) – أفاده الألباني – ، وابن عدي في الكامل ( 2 / 59 ) ، والداني في السنن الواردة في الفتن ( 3 / 665 ) ، وابن أبي عاصم في الزهد ( 1 / 142 ) ، وأخرجه بنحوه أبو نعيم في الحلية ( 4 / 116 ) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية ( 1 / 412 ) كلهم من طريق بزيع أبي الخليل الخصاف ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً .
قلت :
بزيع أبي الخليل الخصاف :
قال أبو حاتم ( الجرح والتعديل 2 / 421 ) : ذاهب الحديث .
قال ابن حبان في " المجروحين " ( 1 / 227 ) : ... يأتي عن الثقات بأشياء موضوعات ، كأنه المتعمد لها .
وقال الدار قطني في الضعفاء المتروكين ( ص 69 ) : بزيع بن حسان أبو الخليل : متروك ، كوفي عن الأعمش وهشام بن عروة ، بواطيل .
وقال الحاكم في المدخل إلى الصحيح ( 1 / 172 ) : روى عن هشام بن عروة ومحمد بن واسع والأعمش أحاديث موضوعة ، يرويها عنه الثقات مثل / عبد الرحمن بن المبارك وغيره .
وقال الذهبي في الميزان ( 1 / 306 ) : متهم ، وقال في المغني ( 1 / 157 ) : ترك حديثه ، واتهم .
والخلاصة : أنه متروك ؛ بل متهم بالوضع .
الأعمش : سليمان بن مهران الأسدي ، أبو محمد الكوفي ، الإمام الحافظ .
وثقته وإمامته معروفة ؛ لكن ذكر الأئمة عنه أنه كان يدلس ، وقد لخص الذهبي في الميزان ( 2 / 224 ) كيفية التعامل مع رواياته ، فقال : أحد الأئمة الثقات ... مانقموا عليه إلا التدليس ، وقال : وهو يدلس ، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به ؛ فمتى قال : ( حدثنا ) فلا كلام ، ومتى قال : ( عن ) تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم : كإبراهيم ، و ابن أبي وائل ، وأبي صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال .
شقيق بن سلمة : أبو وائل الأسدي ( أسد خزيمة ) ، ثقة مخضرم .
وقال عمرو بن مرة : قلت لأبي عبيدة : مَنْ أعلم أهل الكوفة بحديث عبد الله ؟ قال : أبو وائل .
ورواية الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود خرج لها الجماعة .
قلت : هذا إسناد ضعيف جداً ، وذلك : لحال يزيد بن حسان الخصاف ، فهو متروك ؛ بل ومتهم .
قال أبو نعيم في الحلية : غريب من حديث الأعمش ، تفرد به ابن صدران عن بزيغ ، وبزيغ الخصاف البصري ، واهي الحديث .
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية : هذا حديث لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمتهم به بزيع .
وقال الدارقطني – كما نقل ذلك ابن الجوزي – : لم يحدث به غيره ، قال : وبزيع متروك .
قال الهيثمي في المجمع ( 2 / 24 ) : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه بزيع أبو الخليل ، ونسب إلى الوضع .
قال الألباني في السلسلة الصحيحة ( 3 / 152 / ح 1163 ) : قلت : بزيع متروك ... .
وقد تقدم نقل ما قيل فيه ، وفي روايته عن الثقات ؛ بل نص بعض الأئمة على بطلان روايته عن الأعمش .
ولكن بزيعاً هذا قد توبع ، فقد تابعه عيسى بن يونس ، أخرجها ابن حبان في صحيحه ( 15 / 162 / ح 6761 ) قال : أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوهاب النصري ، حدثنا أبو التقى ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش به .
قلت :
الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان : أبو علي .
وقال الدار قطني عنه – كما في سؤالات السهمي – ( 276 ) ثقة .
قال عنه الذهبي في السير ( 14 / 286 ) : الحافظ المسند الثقة ... رحَّال مصنِّف .
عبد الصمد بن عبد الوهاب : هو الحضرمي ، النصري ، الحمصي .
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 6 / 52 ) : صدوق .
قال النسائي – كما في تهذيب الكمال 18 / 103 – : لا بأس به .
قال ابن حجر في التهذيب ( 6 / 328 ) : و ذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج حديثه في صحيحه .
قال ابن حجر في التقريب ( 4109 ) : صدوق .
أبو التقي : هو عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي ، الحمصي ؛ كما بين ذلك ابن حبان في صحيحه بعد روايته للحديث .
قال ابن أبي حاتم ( 6 / 8 ) : سألت محمد بن عوف حمصي عنه ، فقال : كان شيخاً ضريراً لا يحفظ ، وكنا نكتب نسخة عند إسحاق ( ابن زبريق ) لابن سالم ، فنحمله إليه ، ونلقنه فكان لا يحفظ الإسناد ، ويحفظ بعض المتن ، فيحدثنا ، وإنما حملنا الكتاب عنه شهوة الحديث .
وكان إذا حدث عنه محمد بن عوف قال : وجدت في كتاب ابن سالم ، حدثنا به أبو تقي .
وقال ابن أبي حاتم – أيضاً – : سمعت أبي ذكر أبو تقي عبد الحميد بن إبراهيم ، فقال : كان في بعض قرى حمص ، فلم أخرج إليه ، وكان ذكر أنه سمع كتب عبدالله بن سالم عن الزبيدي إلا أنه ذهبت كتبه ، فقال : لا أحفظها ، فأرادوا أن يعرضوا عليه ، فقال : لا أحفظ ، فلم يزالوا به حتى لان ، ثم قدمت حمص بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة ، فإذا قوم يروون عنه هذا الكتاب وقالوا : اعرض عليه كتاب ابن زبريق ولقنوه ، فحدثهم بهذا ، وليس هذا عندي بشيء ، رجل لا يحفظ ، وليس عنده كتب .
قال عنه النسائي : ليس بشيء ، وقال مرة : ليس بثقة ( تهذيب الكمال ( 16 / 408 ) .
ولم أجد أحداً وثقه إلا ابن حبان في صحيحه ( 15 / 164 ) ، فقد وثقه في صحيحه بعد روايته لهذا الحديث ، وذكره في الثقات ( 8 / 400 ) .
وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء ( 1 / 587 ) رقم ( 3480 ) .
وقال ابن حجر في التقريب ( 3775 ) : صدوق ، إلا أنه ذهبت كتبه فساء حفظه .
والخلاصة : أنه لا يحتج به ، فإنه لم يوثقه – حسب إطلاعي – إلا ابن حبان ، والأئمة على تضعيفه ، وهذا محمد بن عوف وهو بلديه وأعرف الناس به ، قال ما تقدم .
عيسى بن يونس : هو ابن أبي إسحاق السبيعي ، أبو عمر ، ويقال : أبو محمد الكوفي ، ثقة بالاتفاق ، وقد أطال المزي في تهذيب الكمال في ترجمته ( 23 / 62 ) .
وقال محمود بن غيلان ، عن محمد بن عبيد الطنافسي : رأيت أصحاب الأعمش الذين لا يفارقونه : عيسى بن يونس ... .
وليس هو المقدم بإطلاق فيه ، لكنه من خاصة تلاميذه ، وقد أخرج له الجماعة .
وأما حديث أنس بن مالك ؛ فقد جاء عنه من طريقين :
الأول : ما رواه أبو عبد الله الفلاكي في " الفوائد " ( 88 / 1 ) – أفاده الألباني – قال : أخبرنا أحمد بن صالح المقري ، ثنا محمد بن عبيد ، ثنا عصام ، ثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أنس مرفوعاً بلفظ : " يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم " .
قلت :
أحمد بن صالح المقري : لم أعرفه ، ولعله : أحمد بن صالح بن عمر ، أبو بكر المقرئ ، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد ( 4 / 426 دار الكتب العلمية ) قال : انتقل إلى الشام ، ونزل طرابلس ، وحدَّث بها ، وبالرملة عن جعفر بن عيسى الناقد ، ومحمد بن الحكم العتكي ، وروى عن الغرباء ، وذكر ابن الثلاج أنه سمع منه ، ثم روى له حديثاً من طريقه .
محمد بن عبد : هو ابن عامر السمرقندي ، أبو بكر التميمي .
قال الخطيب في تاريخ بغداد ( 3 / 190 دار الكتب العلمية ) : قدم بغداد ، وحدَّث بها وبغيرها عن يحيى بن يحيى النيسابوري ... وعصام ... أحاديث منكرة وباطلة .
وقد روى له الخطيب بعض الأحاديث المستنكرة ، وكان يتهمه بوضع أسانيدها ، وقال في أحدها : وله أحاديث كثيرة تشابه ماذكرناه ، وكلها تدل على سوء حاله وسقوط رواياته .
وروى الخطيب ( 3 / 193 ) عن أبي سعيد بن يونس أنه قال : محمد بن عبد بن عامر بن مرداس بن هارون بن موسى السفدي ، يكنى أبا بكر من أهل سمرقند ، لم يكن بالمحمود في الحديث .
وروى ( 3 / 194 ) عن أبي بكر محمد بن عمر الجعابي أنه قال : كانوا يذمونه في سماعه .
وقال قرأت في كتاب أبي بكر البرقاني بخطه ، قال علي بن عمر الدار قطني :لم يكن مرضياً في الحديث .
وقال محمد بن أبي الفوارس : قرأت على أبي الحسن الدارقطني ، قال : محمد بن عبد بن عامر السمرقندي يكذب ويضع .
وروى الخطيب ( 3 / 194 ) عن أبي سعيد عبدالرحمن بن محمد الإدريسي أنه قال : ولم أر لأهل بلده عنه شيئاً ، يحدث بالمناكير على الثقات ، يتهم بالكذب ، وكأنه كان يسرق الأحاديث والإفرادات ويحدث بها ، ويتابع الضعفاء والكذابين في رواياتهم عن الثقات بالأباطيل .
وقال الذهبي في الميزان ( 3 / 633 ) : معروف بوضع الحديث ، وضعفه في المغني ( 2/343 ) بالوضع أيضاً .
عصام : هو ابن يوسف البلخي ، يروي عن محمد بن عبد ، نبه على ذلك الخطيب في ترجمة محمد بن عبد .
قال ابن حبان في الثقات ( 8 / 521 ) : وكان صاحب حديث ، ثبتاً في الرواية ، ربما أخطأ .
وقال الخليلي في الإرشاد ( 3 / 937 ) : صدوق .
وقال ابن عدي في الكامل ( 5 / 371 ) : روى أحاديث لا يتابع عليها .
و ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 7 / 26 ) ولم يذكر فيه شيئاً .
ونقل ابن حجر في لسان الميزان ( 5 / 436 ) أن ابن سعد قال : كان عندهم ضعيفاً في الحديث .
قال ابن عدي في الكامل ( 5 / 371 ) : وقد روى عصام هذا عن الثوري ، وعن غيره أحاديث لا يتابع عليها .
سفيان : هو ابن سعيد بن مسروق الثوري ، أبو عبد الله الكوفي ، ثقة حافظ فقيه عابد ، إمام حجة .
أبو حازم : سلمة بن دينار ، فإني لم أجد من روى عنه الثوري ممن يكنى أبا حازم إلا سلمة بن دينار ، وقد أخرج حديث سفيان عن أبي حازم الجماعة ، وهو ثقة عابد ؛ كما في التقريب ( 2502 ) .
قال الألباني : وهذا إسنادٌ واهٍ جداً ...
قلت : وهو كما قال – رحمه الله – ، وذلك لما يلي :
1 – أحمد بن صالح المقري ، إن كان هو من ذكرت ، فإنني لم أجد فيه جرحاً ولا تعديلاً فهو مجهول الحال ، و إلا فمجهول العين .
2 – محمد بن عبد ، وقد تقدم ما فيه ، وأنه وضاع كذاب .
3 – عصام بن يوسف البلخي ، وفيه مقال ، وقد ذكر ابن عدي أنه يروي عن الثوري وغيره أحاديث لا يتابع عليها ؛ وهذا منها وذلك لأن المتابعة المذكورة بعد قليل لا تصح .
الثانية : ما أخرجه الحاكم في مستدركه ( 5 / 461 رقم 7986 ط . دار المعرفة : عبد السلام علوش ) ، قال : حدثني : علي بن بندار الزاهد ، حدثنا محمد بن المسيب ، حدثني أحمد بن بكر البالسي ، ثنا زيد بن الحباب ، ثنا سفيان الثوري ، عن عون بن أبي ححيفة ، عن الحسن بن أبي الحسن ، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً : " يأتي الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم " .
وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه !
وسكت عنه الذهبي .
قلت :
علي بن بندار الزاهد : هو الصيرفي ، وهو صوفي عابد ؛ كما قال الذهبي في السير ( 16 / 109 ) ، ولم يذكر فيه سوى قوله : روى عنه الحاكم ، ووثقه .
محمد بن المسيب : هو النيسابوري ، ثم الأرغياني ، الإسفنجي ، العابد .
قال الذهبي في السير ( 14 / 422 ) : الحافظ ، الإمام ، شيخ الإسلام ، أبو عبد الله .
وقال أيضاً : وصنف التصانيف الكبار ، وكان ممن برز في العلم والعمل .
وقد روى عنه ابن خزيمة ، والحاكم .
أحمد بن بكر البالسي : أبو سعيد .
قال الدار قطني كما في اللسان ( 1 / 411 ) : غيره أثبت منه ، قال ابن حجر : وأورد له في غرائب حديثاً في سنده خطأ ، وقال : أحمد بن بكر ضعيف .
وقال ابن حبان ( 8 / 51 ) : كان يخطئ .
وقال ابن عدي في الكامل ( 1 / 188 ) : روى مناكير عن الثقات .
وقال أبو الفتح الأزدي – كما في اللسان ( 1 / 411 ) – : كان يضع الحديث .
وذكره الذهبي في المغني ( 1 / 60 ) .
زيد بن الحباب : أبو الحسن الكوفي : ثقة ، مكثر ، لكن في روايته عن الثوري بعض الشيء .
فقد قال ابن معين : كان يقلب حديث الثوري ، ولم يكن به بأس.
وقد سبر ابن عدي رواياته ، ثم قال : وزيد بن الحباب له حديث كثير ، وهو من أثبات مشايخ الكوفة ، ممن لايشك في صدقه ، والذي قاله ابن معين : أن أحاديثه عن الثوري مقلوبة ، إنما له عن الثوري أحاديث تشبه بعض تلك الأحاديث ، يستغرب بذلك الإسناد ، وبعضه يرفعه ولا يرفعه غيره ، والباقي عن الثوري أحاديث تشبه بعض تلك الأحاديث يستغرب بذلك الإسناد وبعض يرفعه ولايرفعه غيره ، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها ( 3/210 ) .
فلذلك قال ابن حجر في التقريب ( 2136 ) : وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري .
سفيان : تقدم .
عون بن أبي جحيفة : وهو وهب بن عبد الله السُّوائي الكوفي .
قال المزي في التهذيب ( 22 / 448 ) قال : إسحاق بن منصور : عن يحيى بن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي : ثقة .
أخرج له الجماعة ، وذكره ابن حبان في ثقاته ( 5 / 263 ) .
وقال ابن حجر في التقريب ( 5254 ) : ثقة .
الحسن بن أبي الحسن : هو البصري .
و قد سمع من أنس ، وقد خرج روايته عن أنس الجماعة – كما في تهذيب الكمال ( 6 / 90 ) – .
قلت : هذا الإسناد تالف ، وذلك لما يلي :
1 – أحمد بن بكر البالسي : ضعيف ، يروي المناكير .
2 – زيد بن الحباب : ثقة ، يخطئ في روايته عن الثوري ، وهو هنا يروي عنه .
وأما أثر عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – موقوفاً عليه : فقد ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 3 / 379 ) ، ولم أجده مسنداً .
وأما ما جاء عن الحسن البصري ، فقد جاء عنه من وجهين :
الوجه الأول : مرسلاً : أخرجه البيهقي في الشعب ( 4 / 387 / رقم 2701ط الجديدة ) ( 6 / 220 / رقم 2701 ط القديمة ) قال : أخبرنا أبو طاهر الفقيه ، حدثنا أبو بكر القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن يوسف ، قال : أخبرنا سفيان عن بعض أصحابه عن الحسن قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " يأتي على الناس زمان يكون حديثه في مساجدهم في أمر دنياهم ، فلا تجالسوهم ، فليس لله فيهم حاجة " .
قال البيهقي : هكذا جاء مرسلاً .
قال المحقق : إسناده فيه رجل مبهم لم يسمَّ ، والحديث مرسل .
قلت :
وفيه – أيضاً – محمد بن يوسف ، هو : الضبي مولاهم ، الفريابي ،
وقال ابن أبي حاتم ( الجرح 8 / 119 ) : سألت عن الفريابي ، فقال : صدوق ثقة .
قال عنه النسائي – كما في تهذيب الكمال 27 / 57 – ثقة .
قال العجلي في الثقات له ( 2 / 257 ) : الفريابي ثقة ... كانت سنته كوفية .
وقال – أيضاً – : وقال لي بعض البغداديين : أخطأ محمد بن يوسف في خمسين ومائة حديث من حديث سفيان .
وقال ابن عدي في الكامل ( 6 / 232 ) : والفريابي له عن الثوري أفرادات ، وله حديث كثير عن الثوري ، وقد قُدِّم الفريابي في سفيان الثوري على جماعة مثل : عبد الرزاق ونظرائه ، وقالوا : الفريابي أعلم بالثوري منهم ... .
ثم قال : الفريابي فيما يتبين هو : صدوق ، لا بأس به .
قال ابن حجر في التقريب ( 6455 ) : ثقة فاضل ، يقال : أخطأ في شيءٍ من حديث سفيان ، وهو مقدم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزاق .
الوجه الثاني : من كلامه : أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 13 / 528 / 17159 ) قال : حدثنا معاوية بن هشام ، قال حدثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن الحسن قال : يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم أمر دنياهم ، ليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم .
وأخرجه أبو بكر المروزي في الورع ( ص 62 ) قال : عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قال : يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم ، فليس لله فيهم حاجة ، فلا تجالسوهم .
قلت :
معاوية بن هشام : هو القصَّار ، أبو الحسن الكوفي .
قال أبو حاتم ( الجرح 8 / 385 ) : قلت لعلي بن المديني : فمعاوية بن هشام ، وقبيصة ، والفريابي ؟ قال : متقاربين .
وقال الإمام أحمد – كما في تهذيب التهذيب 10 / 218 – : هو كثير الخطأ .
وقال ابن عدي في الكامل ( 6 / 408 ) : وقد أغرب عن الثوري بأشياء ، وأرجو أنه لا بأس به .
وقال ابن حجر في التقريب ( 6819 ) : صدوق ، له أوهام .
وباقي رجال الإسناد : تقدمت ترجمتهم .
الحكم على الحديث :
هذا الحديث صححه ابن حبان ، والألباني ، والحاكم ،
وضعفه الدارقطني ، وأبو نعيم ، وابن الجوزي ، والهيثمي ،
وقد سألت شيخنا الشيخ صالح العصيمي – حفظه الله – عن هذا الحديث : فضعفه .
وقد سألت الشيخ عبد الله العبيد – حفظه الله – : فذكر لي أنه أخرجه ابن حبان ، وقال : لعل إسناده نظيف .
وقد سألت الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد – حفظه الله – فقال : لا يصح .
قلت : فالحديث ضعيفٌ مرفوعاً ، والله أعلم .
* ويرد عليه أيضاً : أنَّ هذا الحديث مُعارَضٌ بأحاديث أصحَّ منه ؛ بل وفي الصحيحين ، وسيأتي ذكرها .
* ويرد عليه أيضاً : أنه قال : " إمامهم الدنيا " ، فالحديث العارِض ، أو غير الكثير ، ليس داخلاً في النهي .
2 – ما جاء من الأحاديث في النهي عن إنشاد الشعر في المسجد ، ومن هذه الأحاديث :
أ – عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد . 3
ب – عن حكيم بن حزام ، بنحو حديث عمرو بن شعيب.4
ج – روى أبو القاسم البغوي في (( معجمه )) من طريق ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عقبة ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام ، عن أبيه ، قال : أتى ابن الحُمَامة السلمي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في المسجد ، فقال : إني أثنيت على ربي – تعالى - ، ومدحتك قال : أمسك عليه ، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فخرج به من المسجد ، فقال : ما أثنيت على ربك فهاته ، وأمَّا مدحي فدعه عنك ، فأنشد حتى إذا فرغ دعا بلالاً ، فأمره أن يعطيه شيئاً ، ثم أقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الناس ، فوضع يده على حائط المسجد ، فمسح به وجهه وذراعيه ، ثم دخل1 .
د – عن ثوبان – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد ، فقولوا : فضَّ الله فاك ، ثلاث مرات " . 2
هـ - ما جاء عن بعض الصحابة من كراهة ذلك ، انظر فتح الباري لابن رجب ( 2/513 ) ، وقصة عمر مع حسَّان ستأتي – إن شاء الله - .
* يرد عليه : أن هذه الأحاديث والآثار ، معارضة بما ثبت في الصحيحين من إنشاد حسان للشعر ، بل وبأمرٍ من الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك إنشاد كعب بن زهير3 ؛ فإما أن نعطل بعض النصوص ، أو نجمع بينها ، ولا شك أن الثاني هو الذي عليه المحققين من الأئمة ، فنقول :
أن الذي نهى عنه – صلى الله عليه وسلم - ، وكرهه السلف ما كان من الشعر الباطل والماجن ، وما سوى ذلك ، فلا بأس به .
أو يقال : المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالباً على المسجد ، حتى يتشاغل به من فيه.
قال القرطبي في الجامع ( 12/271 ) : [ أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك ،
فمن مانع مطلقاً ،
ومن ميجز مطلقاً ؛
والأولى التفصيل ، وهو : أن يُنْظَرَ إلى الشعر فإنْ كان مما يقتضي الثناء على الله – عز وجل - أو على رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، أو الذب عنهما كما كان شعر حسان ، أو يتضمن الحضَّ على الخير ، والوعظ ، والزهد في الدنيا ، والتقلل منها ، فهو حسنٌ في المساجد وغيرها ...
وما لم يكن كذلك لم يجز ؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش ، والكذب ، والتزين بالباطل ، ولو سلم من ذلك ، فأقل ما فيه اللغو والهَذّر ، والمساجد منزهةٌ عن ذلك ، لقوله تعالى : " في بيوتٍ أذن الله أن ترفع " ، وقد يجوز إنشاده في المساجد ( !! ) كقول القائل : ... ، وقول الآخر :
إذا سقط السماء بأرض قومٍ * رعيناه ، وإن كانوا غِضَابا .
فهذا النوع ، وإن لم يكن فيه حَمْدٌ ، ولا ثناء يجوز ( ؟! ) ، لأنه خالٍ من الفواحش والكذب ] .2
وقد رجح ابن رجب في شرح البخاري ، أحاديث الجواز ؛ حيث قال ( 2/513 ) : [ وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد ... والصحيح في الجواب : أن أحاديث الرخصة صحيحة كثيرة ، فلا تقاوم أحاديث الكراهة في أسانيدها ، وصحتها ] . ا هـ ، وانظر الفتح لابن حجر ( 1/653 ) .
3 – أن المساجد لم تبنَ لأحاديث الدنيا ، وإنما هي لقراءة القرآن ، والذكر ، والصلاة ، كما جاء في حديث الأعرابي .3
* يرد عليه : ما جاء في أحاديث كثيرة ، من – مثلاً – إنشاد الشعر ، والتحدث في أمور الجاهلية ، والنوم فيه ، ولعب الحبشة ، وقضاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين كعب ، وابن أبي حَدْرَدْ ، وربط الأسير المشرك فيه ، ونوم أهل الصفَّة فيه ؛ بل وأجاز بعض أهل العلم الحدث في المسجد إذا لم يكن هناك تلويثٌ ، ولا إضرارٌ بمن حوله 4 فهل هذه الأشياء ، وغيرها مما بنيت له المساجد ؟!
فالأولى : حمل كلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث ، على التوجيه والإرشاد إلى أصل الحكمة التي بنيت من أجلها المساجد ، لا على قصرها على ما ذكر .
القول الثاني : أن الكلام المباح في المسجد ، لا بأس به ، إذا لم يكن هناك تشويشٌ على المتعبدين ، وذلك لما يلي :
1 – حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يقوم من مصلاه الذي صلَّى فيه الصبح ، حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام ، قال : وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم 1.
* يرد عليه : أن كلامهم في أمور الجاهلية كان لتذكر نعمة الإسلام ، وما امتن الله عليهم به .
* يجاب عنه : أن هذا غير مسلم ، لأمور :
1 – أن هذا مخالفٌ لفهم أهل العلم ، قال القاضي عياض في إكمال المعلم ( 2/646 ) : [ قوله : (( وكانوا يتحدثون ، فيأخذون في أمر الجاهلية )) دليل على جواز التحدث بأخبار الزمان ، وأمور الأمم ... 2 ] .
قال النووي – رحمه الله – في المجموع ( 2/204 ) : [ يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد ، وبأمور الدنيا ، وغيرها من المباحات ، وإن حصل فيه ضحكٌ ونحوه ، ما دام مباحاً ، لحديث جابر بن سمرة ... ].
2 – أنَّ هذا لو كان صحيحاً ، لقال : فيحمدون الله على ما هداهم ، ويشكرونه ، لا أنهم يتضاحكون .
3 – إنشاد حسان بن ثابت – رضي الله عنه – الشعر في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وإقراره – صلى الله عليه وسلم – له 3 .
* يرد عليه : أن هذا ليس من أمور الدنيا ، أو المباحات ؛ بل مما يتقرب به إلى الله ، لما فيه من الذب عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، والرد على المشركين ، والمنافقين .
* يجاب عنه : بأن كعب بن زهير – رضي الله عنه – كما تقدم ، أنشد شعراً عند الرسول – صلى الله عليه وسلم –وفيه ذبٌ عنه ، وراجع كلام السفاريني في غذاء الألباب ( 1/184 ) .
4 – عن أنس – رضي الله عنه – قال : وجدت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد معه ناس ، فقمت ، فقال لي : " أرسلك أبو طلحة " ؟ قلت : نعم فقال : " لطعام " ؟ فقلت : نعم ، فقال لمن معه : " قوموا " ، فانطلق ، وانطلقت بين أيديهم4.
وجه الاستدلال : قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 1/616 ) : [ والغرض منه : أنَّ مثل ذلك من الأمور المباحة ، ليس مما يمنع في المساجد ] .
5 – تفسير الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد صلاة الصبح ، للرؤى5.
وجه الاستدلال : أن تفسير الرؤى ليس من الأمور الدينية ، أو التعبدية ؛ بل هو إلى الأمور العادية الدنيوية ألصق .
6 – معلومٌ أن المسجد هو مكان اجتماع المسلمين ، وملتقاهم ، وكان مأوى أهل الصفة ، وغير ذلك من الأمور التي ليست من قبيل العبادات ؛ بل من الأمور الدنيوية البحتة .
الراجح : أن الكلام في الأمور المباحة ، جائزٌ ، لا بأس به ، إلا أن الأولى تـنـزيه المسجد عنه ، وعدم الإكثار منه ، بحيث يكون مقراً للجلسات ، والاجتماعات ، وعلى هذا يحمل ما تقدم من أدلة المانعين ، وبه تجتمع الأدلة – إن شاء الله - ، والله أعلم 1.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 3/376 ) : [ ويسن أن يصان عن لغطٍ ، وكثرةِ حديثٍ لاغٍ ، ورفع صوتٍ بمكروه ، وظاهر هذا : أنه لا يكره إذا كان مباحاً ، أو مستحباً ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، والشافعي – رحمهما الله - ... ]2 .
القسم الثاني : حكم الكلام المباح ، وذلك برفع الصوت :
القول الأول : المنع من رفع الصوت في المسجد بالكلام المباح ، ويستدل لهم بجميع الأدلة التي ذكرت في مبحث : حكم رفع الصوت بالكلام المشروع ، ويزاد هنا :
1 – حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد ، فليقل : لا ردَّها الله عليك ، فإن المساجد لم تبن لهذا " .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بالدعاء على ناشد الضالة بعدم وجدانها ، وذلك لأنه رفع صوته ، على ما سيأتي تحريره .
2 – أن الكلام المشروع إذا كان منهياً عنه ، فغيره من الكلام أولى .
3 – بناء عمر – رضي الله عنه – للرحبة ، وقال : " من أراد أن يلغط ، أو ينشد شعراً ، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة " .
4 – أن ترك رفع الصوت بالكلام المباح ، أبرأ للذمَّة ، وهو الذي عليه أكثر العلماء .
القول الثاني : أن رفع الصوت في المسجد ، لا بأس به ، ويستندون إلى حديث كعب بن مالك مع ابن أبي حَدْرَدْ المتقدم ، وهو مما يَرِد على الأدلة السابقة ، وتأويل بعض العلماء له ، يحتاج إلى نظرٍ وتأمل .
الراجح : أن رفع الصوت بالكلام المباح ، أقل أحواله الكراهة1 ، وقد يصل إلى التحريم في بعض المسائل ، مثل : إذا كان فيه تشويش على المتعبدين ، وكإنشاد الضالة ، ونحوهما والله – تعالى – أعلم 2.
مسألة : حكم إنشاد الضالة :
ورد في النهي عن إنشاد الضالة عِدَّةُ أحاديث ، منها :
1 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد ، فليقل : لا ردَّها الله عليك ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا " 3 .
وورد نحوه عن بريدة 4 ، وعن جابر 5.
2 – وعن عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " نهى عن إنشاد الضالة في المسجد "6 .
3 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " إذا رأيتم من يبيع ، أو يبتاع في المسجد ، فقولوا : لا أربح الله تجارتك ، وإذا رأيتم من ينشد ضالةً ، فقولوا : لا ردها الله عليك " 7 .
4 – عن أبي عثمان قال : سمع ابن مسعود رجلاً ينشد ضالةً في المسجد ، فغضب ، وسبَّه ، فقال له رجلُ : ما كنت فحَّاشاً يا ابن مسعود ! قال : إنَّا كنَّا نؤمر بذلك .8
5 – عن عمرو بن دينار ، أنه سمع طاووساً ، يقول : نشد رجلٌ ضالته في المسجد ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " لا وجد ضالته "1 .
هذا ما استطعت جمعه من الأحاديث ، والآثار الواردة في النهي عن إنشاد الضالة2 .
وقد نص الأبي في شرح مسلم ( 2/246 ) على أن النهي للكراهة ، وكذلك البغوي في شرح السنة ( 2/374 ) ، وأبو داود في سننه .
ولعل هذا النهي للتحريم أقرب منه للكراهة فقط ، وذلك لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا على هذا الرجل ، وأمر من سمعه بالدعاء عليه .
والنهي هاهنا ، والدعاء عليه بسبب رفع صوته ، وتشويشه ، لا لأن نشدان الضالة في المسجد لا يجوز ، وذلك لما يلي :
1 – أن في بعض روايات مسلم : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – " لما صلَّى ، قام رجلٌ ، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر " .
وجه الاستدلال : أن هذا الرجل قام بعد انقضاء الصلاة ، والناس مشغولين بالأذكار ، وبعضهم يقضي ما فاته من الصلاة ، فقام هذا الرجل : ونادى على مَن وجد جمله .
2 – أن في بعض روايات مسلم : جاء أعرابي بعدما صلَّى النبي – صلى الله عليه وسلم – صلاة الفجر ، فأدخل رأسه من باب المسجد ...
وجه الاستدلال : أن هذا الرجل على هذه الصفة لا يمكن له أن يسأل بعيره إلا برفع صوته ، من أجل أن يُخبِر من في المسجد عن فقدانه جَمَلَه .
3 – نص بعض أهل العلم على ذلك :
أ – قال السهارنفوري في بذل المجهود ( 3/315 ) : قال أبو داود : ( باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد ) أي : طلبها برفع الصوت .
ب – وقال أيضاً ( 3/316 ) " من سمع رجلاً ينشد ضالةً " أي : يطلبها برفع الصوت .
ج – قال القرطبي في المفهم ( 2/174 ) قوله : " فليقل : لا ردَّها الله عليك " دعاءٌ على الناشد في المسجد بعدم الوجدان ، فهو معاقبةٌ له في ماله على نقيض مقصوده ، فَلْيُلْحَق به ما في معناه ، فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحةً ترجع إلى الرافع صوته ، دعيَ عليه على نقيض مقصوده ، ذلك بسبب جريمة رفع الصوت في المسجد ، وإليه ذهب مالك ... .
د - قال في عون المعبود ( 2/97 ) ، وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة ، ومافي معناه من البيع ، والشراء ، والإجارة ، والعقود .
هـ - بوَّب ابن حبان في صحيحه على هذا الحديث : ( ذكر الزجر عن رفع الأصوات في المساجد ؛ لأجل شيء من أسباب هذه الدنيا الفانية ) .
و - قال الأصمعي : في كل شيءٍ رفعت به صوتك ، فقد أنشدتَ ضالةً كانت أو غيرها ، انظر شرح سنن ابن ماجة لمغلطاي ( 4/1300 ) .
* يَرِدُ على ما تقدم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم – علَّل دعائه على ناشد الضالة ، بأن المساجد لم تُبْنَ لهذا ، أي لم تبن لنشد الضالة ، ونحوها ، ولم يعلل سبب نهيه ودعائه بأنَّ هذا من أجل رفع صوته .
يجاب عنه :
1 – أنه ينبغي عند استنباط الحكم من النص ، أن يُنْظَرَ إلى الحالة التي حَكم عليها النبي – صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة ملابسات الحادثة ، ونحو ذلك من أجل أن يكون حكمنا صواباً .
2 – أن عندنا أصلٌ ، وهو جواز الكلام بحديث الدنيا إذا كان مباحاً .
3 – أنا لو طردنا هذه العلَّة التي ذكروها ، لعارضنا الأحاديث الأخرى ، وذلك لأنَّـا سننهى عن مناشدة الأشعار ، وعن كلام الدنيا المباح ، وعن النوم في المسجد ، وعن المقاضاة في المسجد ... إلخ ، والتي هي في بادئ الرأي ليس مما بنيت المساجد له .
فيتلخص لنا : أن نشدان الضالة – بدون إزعاج ، ولا رفع للصوت – أنه دائرٌ بين الكراهة ، والتحريم ، أما إذا كان برفعٍ للصوت فهو للتحريم أقرب – والله أعلم - .
قال الباجي في المنتقى ( 1/312 ) : [ مسألة : قال مالك في المبسوط ، في الذي ينشد الضالة في المسجد، لا يقوم رافعاً صوته ، وأما أن يسأل عن ذلك جلساءه غير رافعٍ لصوته ، فلا بأس بذلك .
ووجه ذلك : أن رفع الصوت ممنوعٌ في المساجد ، لما ذكرناه1 ، فأمَّا سؤاله جليسه فمن جنس المحادثة ، وذلك غير ممنوعٍ ، مالم يبلغ ذلك اللغط من الإكثار ] .
مسألة : حكم السؤال في المسجد :
الصحيح في المسألة : ما قاله شيخ الإسلام ، كما في مجموع الفتاوى ( 22/206 ) : [ ... فإن كان به ضرورة ، وسأل في المسجد ، ولم يؤذِ أحداً بتخطيه رقاب الناس ، ولا غير تخطيه ، ولم يكذب فيما يرويه ، ويَذْكر من حاله ، ولم يجهر جهراً يضر الناس ، مثل أن يسأل والخطيب يخطب ، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ، ونحو ذلك جاز ، والله أعلم ] .
وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنه – أصلٌ في المسألة – لو صحَّ – ، حيث قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً ؟ " قال أبو بكر : دخلت المسجد ، فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة بين يدي عبد الرحمن ، فأخذتها ، فدفعتها إليه2 .
وجه الاستدلال : أن النبي – صلى الله عليه وسلم - ، لم يتعرض أو ينكر على أبي بكر فعله ، أو ينهَ عن السؤال في المسجد ، ولو كان السؤال غير جائزٍ لم يؤخر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بيانَ حكمه ، فدل ذلك على جوازه ، والله أعلم .
وانظر لهذه المسألة : مجموع الفتاوى ( 22/206 ) ، وبذل العسجد لسؤال المسجد للسيوطي وهي ضمن فتاواه ( 1/88 ) ، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ( 353 ) ، وفتاوى اللجنة ( 6/284 ) ، وأحكام المساجد في الشريعة الإسلامية للشيخ إبراهيم بن صالح الخضيري ( 154 ) ، وأحكام المساجد في الإسلام للدكتور محمود بن حسين الحريري ( 269 ) ، والآداب الشرعية (3/385) وغذاء الألباب ( 2/323 ) .
مسألة : حكم تعريف اللقطة في المسجد :
ينبغي قبل الخوض في بيان الحكم الشرعي للمسألة ، التنبيه على أمور :
1 – أن بعض الفقهاء لم يتعرض للكلام عن مكان تعريف اللقطة .
2 – أن بعض من أشار إلى هذه المسألة ، يقول : ( وتعرف على أبواب المساجد .. ) ، ولم يتعرض لخصوص مسألتنا ، ولا شك أنَّ تعريفها على أبواب المساجد أولى ، خروجاً من الخلاف2.
3 – أن من تكلم عن مسألتنا تجده يقول : ( تعريف اللقطة : هو المناداة .. ) ثم يجمعون بين ( المساجد ، والأسواق ، ومجامع الناس ) مما يجعل المرء قد يتوقف في طرد الحكم على تعريفها بكتابة ورقة ، أو سؤال آحاد الناس .
فأقدم بمقدمة تبين مقصود الفقهاء من قولهم : ( تعريف اللقطة ) ، فأقول – مستعيناً بالله – 3 .
1 – قال في غمز عيون البصائر ( 2/211 ) : [ تعريف اللقطة : هو المناداة في الأسواق ، والمساجد ، والشوارع : مَنْ ضاع له شيء ، فليطلبه عندي .. ] .
2 – قال في درر الحكَّام شرح