معاشر المؤمنين..
وصية الله جل وعلا لكم في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
إخوة الإسلام..
يضطر المرء لذكر بعض أوجه المقارنة ليظهر البون شاسعاً والفرق كبيراً، ولندرك مدى الهوة السحيقة والشقة الكبيرة، التي تدل على تقصير كبير وتفريط كثير لا يخص الحكومات والمسؤولين بل يعم سائر المسلمين، وأنتقل بكم مباشرة إلى الحدث الذي أظنه لامس جميع الآذان، وشاهدته كل العيون، وسمع به وعن خبره كل من على هذه البسيطة في الغالب، وكذلك اعتنت به دول الأرض شرقاً وغرباً، وتحدثت عنه المؤسسات والمنظمات طولاً وعرضاً، وهو حادث مقتل عدد من الصحفيين في مقر صحيفة فرنسية في باريس، ولستُ معنياً بهذا الخبر، ولا بكل ما يدور حوله، لكني أردت أن أقول أنه قد غطى الأفق طولاً وعرضاً وسد كل مجال، أذكره لأنتقل إلى ومضات من أخبار أخرى أكاد أجزم أن الكثيرين بل ربما الغالبية العظمى لم تسمع بها وقد لا تعرف عنها.
الأمم المتحدة التي وقف أعضاء مجلس أمنها دقائق حزناً على من قُتلوا في هذه الحادثة تعلن نائبة المسؤول عن برنامج الغذاء العالمي عن تخفيض مقداره 40% في المساعدات المخصصة للاجئين السوريين، في الوقت الذي أظن أنكم تعلمون ما يقولونه أو ما تقوله هي -أي الأمم المتحدة- وهي تذكر لنا أنها تساعد أربعة ملايين ومئتي ألف داخل سورية، ومليونين بحد أدنى من اللاجئين خارجها، وتقول إنها لنقص التمويل ستضطر إلى هذا التخفيض، مع الأخبار التي سمعتموها ولا أدري كيف يمكن أن يصف المرء عالماً يقول إنه عالم حقوق الإنسان، عالم التقدم والتقنية، عالم فيه سبعة مليار إنسان وتريليونات لا تحصى من الدولارات، وفيه دول تزيد أو تقرب من المئتين ويسجل فيه أن أطفالاً يموتون برداً وجوعاً، وهذا العالم كله موجود وشاهد ومشهود في هذه المآسي التي أحسب أن المقارنة الآن تجلدنا ونستحق هذا الجلد جميعاً بلا استثناء كبيراً وصغيراً حاكماً ومحكوماً، قادراً غنياً وفقيراً لا يملك شيئاً، لأنني لا أتحدث هنا عن تجمد النفقات بالأموال، ولكنني أتحدث أيضاً عن تجمد القلوب فلا رحمة، وعن تجمد العيون فلا دمعة، وعن تجمد الاهتمام فلا خبر، وعن تجمد كل ما يمكن أن نقول إنه تجمد أكثر مما تجمدت به الأجساد الغضة الطرية من أولئك الأطفال الأبرياء.
وأعود بكم مرة أخرى إلى الأمم المتحدة ولها منظمة خاصة بالطفولة تسمى "اليونيسيف" قالت في عنوانها الرئيس عن العام المنصرم: "كانت سنة مدمرة للطفولة"، وادخلوا لتروا مشاهد في دقائق معدودات لا أحسب أن إنساناً فوق هذه الأرض أو دولة أو حضارة أو شيئاً إلا وينبغي أن يمرغ في التراب وهو يقرأ ويسمع هذه الإحصاءات والأرقام، ويكفي أن نقول في وقفتنا هذه مع أهلنا في بلاد الشام وفلسطين كم قُتل من هؤلاء الأطفال بالسلاح الكيمياوي؟، هل سمعتم الاعلام يغطي كما سمعتموه؟ هل وقف أحد أو قعد؟ هل سمعتم مناشدة كمناشدة الأمين العام لجامعة الدول العربية بالأمس وهو يناشد لكي تقوم الدول بواجبها نحو اللاجئين في هذه الظروف العصيبة والبرد القارس؟ هل سمعتم عن حصار حمص وحصار مخيم اليرموك بالقرب من دمشق؟ وكيف كان الناس يأكلون القطط وأكلوا بعد ذلك الحشائش ومات منهم كباراً وصغاراً جوعاً وبرداً، هل سمعتم -وكلكم سمع قطعاً- عن الأطفال الذين قتلوا في غزة في الحرب الأخيرة والحروب التي سبقتها؟، هل رأيتم أحداً عاقب أولئك القاتلين أو قال إنهم إرهابيين أو ملأ الدنيا ضجيجاً بالاستنكار من شرق الأرض إلى غربها دون أن يكون هناك أدنى شعور لا نقول إلا بالإنسانية فحسب، بل حتى بالحيوانية، لأنني أستطيع أن أقول لكم إن دولة أوروبية واحدة تنفق أكثر من خمسة مليار يورو لأطعمة القطط والكلاب، والأمم المتحدة في العام المنصرم كانت تحتاج لجميع اللاجئين أربعة مليار ونصف المليار من الدولارات، وتحتاج في هذا العام ثمانية مليار ونصف لهذه المآسي كلها.
أظن أن بعض هذه المقارنات لابد أن نذكرها وحتى وإن كانت قلوبنا لا تحس ولا تتأثر، لابد أن نذكرها لنجعلها عنواناً لا أقل من أن تخرس ألسنتنا وتطأطأ رؤوسنا إذا لم نتحرك ولم نعمل شيئاً، ولم نتندم ولم نتحسر ولم نغتم ولم نهتم ولم نفعل شيئاً، هل نحن من بني آدم؟، أم أن هؤلاء ليسوا من بني آدم، أين هي الإنسانية التي يدعونها والتي نزعم نحن أننا أهلها؟، أين نحن القائلون بأن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو كذلك مستحق لذلك نبي الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
أين نحن ونحن نعرف ونحفظ ونردد ما صح عند الشيخين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، أين رحمتنا إنسانية وإسلامية واقتفاءً لأثر سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم؟، أين نحن من حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "بينما رجل يمشي فاشتد به العطش" -يخبر بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم- "فوجد بئراً فنزل وملأ خفه ثم شرب" لما طلع وخرج إذا بكلب يلهث يلعق الثرى من شدة العطش فقال: "قد أصاب هذا من العطش ما أصابني فنزل البئر وملأ الخف وسقى الكلب فشكر الله له فغفر له"، ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل هل كان مسلماً أو كان من أهل كتاب لكنه أخبرنا عن هذه الرحمة لهذا الحيوان في هذه الحال، فأين الرحمة من هؤلاء الناس وهم مسلمون في هذه الأحوال التي بلغت أشدها وأقساها فيما لا يمكن أن يكون ونحن نرى ونسمع كل يوم ويتردد علينا ذلك.
أين نحن مما روى أبو داود في سننه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومروا على طائر لها فرختان فمضى الرسول لحاجته، قال: فأخذنا فراخها فأقبلت الحمّرة ترعش فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم برحمته وقال: "من فجع هذه بولديها؟ ردوا عليها ولديها"، هكذا هي الرحمة في أعلى وأسمى صورها، هكذا هو معلم الرحمة صلى الله عليه وسلم، فأين أمته وهي تزيد على مليار ونصف، أين قلوبها الرحيمة؟ وأين أخوتها الإسلامية؟ وأين نخوتها العربية؟ وأين قيمتها الإنسانية؟ وأين هي من الفضل لو تقدمت ومن الأجر لو بادرت ومن الخير يُصب عليها صباً لو حققت أخوة إسلامها ونجدت ونصرت وأعانت، فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابغوني في ضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم"، انصروهم وارزقوهم ينصركم الله ويرزقكم، قال ذلك رسولكم صلى الله عليه وسلم، كلنا يردد: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، أعطوني نصاً في كل ما هو موجود في الكتب السماوية يضاهي هذا النص، يضاهي أن كافل اليتيم يصل إلى أعلى مرتبة لأنه لا يكون مع المصطفى إلا وهو في أعلى مراتب الجنة والأجر والفضل، ألا نتأمل في أعظم أو ما هو من أعظم الآيات التي خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم خطاباً عظيماً جليلاً فيه ما فيه من رفع ذكره وفيه ما فيه من فضل ربه والله يخاطبه بقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 9)، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقهر، لكنها آيات القرآن تسمو بنا إلى المقام الأرفع إنسانياً، وإلى المقام الأنفع إسلامياً، وإلى أن نكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يخبرنا كما ورد في الحديث عن أبي هريرة عند الإمام أحمد في مسنده: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه، فهل ترون العلاج الذي وصفه أن يكثر صلاته أو أن يزيد تلاوته؟ تأملوا ماذا قال له، وإلام أرشده؟ فقال: "إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم"، ذلك العمل الإنساني هو الذي يفجر ينابيع الرحمة، أعرف بعضاً من أصدقائي الذين يعملون الآن في هذه اللحظة في تلك الظروف في شدة البرد ليكونوا مع إخوانهم في مناطق اللجوء يراسلونني بصورٍ أتحاشى النظر إليها، لأنني أشعر بالعجز وأشعر بالضيم وعدم القدرة على أن نقوم بالواجب، واجب إنساني ليس فيه دعوة ولا تربية ولا تعليم ولا أي شيء مما يوصم به المسلمون إذا فعلوه بأنهم إرهابيون، يطعمون طعاماً لأطفال جياع أو يرسلون ما يدفئ تلك الأجساد العارية الهزيلة التي هجرت وطردت وجوعت ومع ذلك لا يُسمح بالوصول إليها ولا تقوم الدنيا ولا تقعد لأجلها، والأمر في هذا كثير.
وحسبي أن أشير إلى أن لدينا من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم بل ومن آيات القرآن ما هو نموذج للبشرية كلها، ولكننا في الأسف لم نرق إلى مستواه وفي الوقت نفسه لا نستطيع أو لسنا في المقام المؤهل أن نقيمه حجة على الناس ولا أن ننصبه قدوة بين الخلائق لأننا نحن مقصرون فيه.
وأختم مقامي هذا بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" قال الراوي والحديث في الصحيحين وأحسبه قال: "كالقائم الذي لا يفتر والصائم الذي لا يفطر"، أيُّ شيء بقي؟ أجر المجاهد أجر الصائم أجر القائم، للقائم على الأرملة والمسكين.
نسأل الله عز وجل أن يغرس الرحمة في قلوبنا وأن يخرج منا لإخواننا كل ما تقر به أعينهم من خير نقدمه ومن واجب مالي نبذله، ومن دعاء نرفعه، ومن حزن يقض مضاجعنا ويؤرق ليلنا، عسى الله أن يتداركنا برحمته.
الخطبة الثانية:
معاشر المؤمنين..
أخوة الإسلام من ركائز الإيمان، ليست أمراً اختيارياً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
وأقف وقفة أخيرة لأقول إننا بحاجة إلى أن نعود إلى مدرسة الرحمة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم من سنته وأحاديثه ومن سيرته ومواقفه، روى مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إليها ومعها ابنتان لها تسألها حاجة فلم يكن عندها إلا تمرات ثلاث أعطتها إياها فأعطت واحدة لابنتها، وأعطت الثانية لابنتها الثانية وأرادت أن تأكل تمرة فاستطعمتها إياها ابنتها فأعادتها وقسمتها نصفين وأعطتها لابنتيها ولم تأكل شيئاً، قالت أم المؤمنين فعجبتُ من حالها وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله أوجب لها بهما الجنة ومنعها من النار"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
كثيرة هي الأبواب والأحاديث والمواقف التي نحتاج أن نعود إليها بدلاً من أن نسوّد الصحائف ونملأ وسائل الإعلام لحادثة هنا وهناك ولا نرى ذلك، ولستُ هنا أتحدث عن بلاد الشام في سورية وفلسطين فحسب، كلنا سمع وعلم ما جرى وما زال يجري إلى يومنا هذا لإخواننا المسلمين في بورما، وما جرى من أمر فظيع في إفريقيا الوسطى وذبح كذبح النعاج والذابحون نصارى ولم يكن هناك قول عن طائفية ولا عنصرية، إنها أمور لا نريد أن نكيل بمكيالين كغيرنا، ولسنا نحن المسلمون يظلمون لمجرد أن ظالماً ظلمهم بل نحن نعدل حتى من ظلم لكننا لا نريد أن نساق كقطيع مع موجات الإعلام فلا نرى ما هو واجب علينا ونرى ما هو ربما يكون من النوافل ومن الأمور الجانبية التي لسنا مسؤولين عنها، ولسنا القائمين بها، وليس فاعلوها من أهلنا ولا من ديننا ولا بغير ذلك من الأمور التي تحتاج منا كل هذا الذي رأيناه.
وأخيراً وليس آخرا فإننا لا نتحدث هنا عن أمر -كما قلت- اختياري، إنها واجبات شرعية قد تتجاوز الواجب في الزكاة إلى غيره عندما تقتضي الحاجة لأمة الإسلام ذلك، وهذا ظاهر ومعلوم.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين إخواننا وأن يرحمهم وأن يلطف بهم وأن يغيثهم وأن يعينهم وأن يجعل ما قضى عليهم زيادة في الإيمان واليقين ولا يجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم يا رب يا رحمن يا رحيم نسألك اللهم أن تعجل فرجك لعبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ارحمهم والطف بهم وعجّل فرجهم يا رب العالمين.
اللهم إنهم لا حول ولا قوة لهم إلا بك فأمدهم اللهم بحولك وقوتك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا وإياهم أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا لإخواننا ناصرين ولهم بالإنفاق والدعاء باذلين، اللهم واجعلنا سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، واجعلنا اللهم من أهل الإسلام الذين ينصرون المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
وصية الله جل وعلا لكم في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
إخوة الإسلام..
يضطر المرء لذكر بعض أوجه المقارنة ليظهر البون شاسعاً والفرق كبيراً، ولندرك مدى الهوة السحيقة والشقة الكبيرة، التي تدل على تقصير كبير وتفريط كثير لا يخص الحكومات والمسؤولين بل يعم سائر المسلمين، وأنتقل بكم مباشرة إلى الحدث الذي أظنه لامس جميع الآذان، وشاهدته كل العيون، وسمع به وعن خبره كل من على هذه البسيطة في الغالب، وكذلك اعتنت به دول الأرض شرقاً وغرباً، وتحدثت عنه المؤسسات والمنظمات طولاً وعرضاً، وهو حادث مقتل عدد من الصحفيين في مقر صحيفة فرنسية في باريس، ولستُ معنياً بهذا الخبر، ولا بكل ما يدور حوله، لكني أردت أن أقول أنه قد غطى الأفق طولاً وعرضاً وسد كل مجال، أذكره لأنتقل إلى ومضات من أخبار أخرى أكاد أجزم أن الكثيرين بل ربما الغالبية العظمى لم تسمع بها وقد لا تعرف عنها.
الأمم المتحدة التي وقف أعضاء مجلس أمنها دقائق حزناً على من قُتلوا في هذه الحادثة تعلن نائبة المسؤول عن برنامج الغذاء العالمي عن تخفيض مقداره 40% في المساعدات المخصصة للاجئين السوريين، في الوقت الذي أظن أنكم تعلمون ما يقولونه أو ما تقوله هي -أي الأمم المتحدة- وهي تذكر لنا أنها تساعد أربعة ملايين ومئتي ألف داخل سورية، ومليونين بحد أدنى من اللاجئين خارجها، وتقول إنها لنقص التمويل ستضطر إلى هذا التخفيض، مع الأخبار التي سمعتموها ولا أدري كيف يمكن أن يصف المرء عالماً يقول إنه عالم حقوق الإنسان، عالم التقدم والتقنية، عالم فيه سبعة مليار إنسان وتريليونات لا تحصى من الدولارات، وفيه دول تزيد أو تقرب من المئتين ويسجل فيه أن أطفالاً يموتون برداً وجوعاً، وهذا العالم كله موجود وشاهد ومشهود في هذه المآسي التي أحسب أن المقارنة الآن تجلدنا ونستحق هذا الجلد جميعاً بلا استثناء كبيراً وصغيراً حاكماً ومحكوماً، قادراً غنياً وفقيراً لا يملك شيئاً، لأنني لا أتحدث هنا عن تجمد النفقات بالأموال، ولكنني أتحدث أيضاً عن تجمد القلوب فلا رحمة، وعن تجمد العيون فلا دمعة، وعن تجمد الاهتمام فلا خبر، وعن تجمد كل ما يمكن أن نقول إنه تجمد أكثر مما تجمدت به الأجساد الغضة الطرية من أولئك الأطفال الأبرياء.
وأعود بكم مرة أخرى إلى الأمم المتحدة ولها منظمة خاصة بالطفولة تسمى "اليونيسيف" قالت في عنوانها الرئيس عن العام المنصرم: "كانت سنة مدمرة للطفولة"، وادخلوا لتروا مشاهد في دقائق معدودات لا أحسب أن إنساناً فوق هذه الأرض أو دولة أو حضارة أو شيئاً إلا وينبغي أن يمرغ في التراب وهو يقرأ ويسمع هذه الإحصاءات والأرقام، ويكفي أن نقول في وقفتنا هذه مع أهلنا في بلاد الشام وفلسطين كم قُتل من هؤلاء الأطفال بالسلاح الكيمياوي؟، هل سمعتم الاعلام يغطي كما سمعتموه؟ هل وقف أحد أو قعد؟ هل سمعتم مناشدة كمناشدة الأمين العام لجامعة الدول العربية بالأمس وهو يناشد لكي تقوم الدول بواجبها نحو اللاجئين في هذه الظروف العصيبة والبرد القارس؟ هل سمعتم عن حصار حمص وحصار مخيم اليرموك بالقرب من دمشق؟ وكيف كان الناس يأكلون القطط وأكلوا بعد ذلك الحشائش ومات منهم كباراً وصغاراً جوعاً وبرداً، هل سمعتم -وكلكم سمع قطعاً- عن الأطفال الذين قتلوا في غزة في الحرب الأخيرة والحروب التي سبقتها؟، هل رأيتم أحداً عاقب أولئك القاتلين أو قال إنهم إرهابيين أو ملأ الدنيا ضجيجاً بالاستنكار من شرق الأرض إلى غربها دون أن يكون هناك أدنى شعور لا نقول إلا بالإنسانية فحسب، بل حتى بالحيوانية، لأنني أستطيع أن أقول لكم إن دولة أوروبية واحدة تنفق أكثر من خمسة مليار يورو لأطعمة القطط والكلاب، والأمم المتحدة في العام المنصرم كانت تحتاج لجميع اللاجئين أربعة مليار ونصف المليار من الدولارات، وتحتاج في هذا العام ثمانية مليار ونصف لهذه المآسي كلها.
أظن أن بعض هذه المقارنات لابد أن نذكرها وحتى وإن كانت قلوبنا لا تحس ولا تتأثر، لابد أن نذكرها لنجعلها عنواناً لا أقل من أن تخرس ألسنتنا وتطأطأ رؤوسنا إذا لم نتحرك ولم نعمل شيئاً، ولم نتندم ولم نتحسر ولم نغتم ولم نهتم ولم نفعل شيئاً، هل نحن من بني آدم؟، أم أن هؤلاء ليسوا من بني آدم، أين هي الإنسانية التي يدعونها والتي نزعم نحن أننا أهلها؟، أين نحن القائلون بأن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو كذلك مستحق لذلك نبي الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
أين نحن ونحن نعرف ونحفظ ونردد ما صح عند الشيخين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، أين رحمتنا إنسانية وإسلامية واقتفاءً لأثر سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم؟، أين نحن من حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "بينما رجل يمشي فاشتد به العطش" -يخبر بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم- "فوجد بئراً فنزل وملأ خفه ثم شرب" لما طلع وخرج إذا بكلب يلهث يلعق الثرى من شدة العطش فقال: "قد أصاب هذا من العطش ما أصابني فنزل البئر وملأ الخف وسقى الكلب فشكر الله له فغفر له"، ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل هل كان مسلماً أو كان من أهل كتاب لكنه أخبرنا عن هذه الرحمة لهذا الحيوان في هذه الحال، فأين الرحمة من هؤلاء الناس وهم مسلمون في هذه الأحوال التي بلغت أشدها وأقساها فيما لا يمكن أن يكون ونحن نرى ونسمع كل يوم ويتردد علينا ذلك.
أين نحن مما روى أبو داود في سننه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومروا على طائر لها فرختان فمضى الرسول لحاجته، قال: فأخذنا فراخها فأقبلت الحمّرة ترعش فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم برحمته وقال: "من فجع هذه بولديها؟ ردوا عليها ولديها"، هكذا هي الرحمة في أعلى وأسمى صورها، هكذا هو معلم الرحمة صلى الله عليه وسلم، فأين أمته وهي تزيد على مليار ونصف، أين قلوبها الرحيمة؟ وأين أخوتها الإسلامية؟ وأين نخوتها العربية؟ وأين قيمتها الإنسانية؟ وأين هي من الفضل لو تقدمت ومن الأجر لو بادرت ومن الخير يُصب عليها صباً لو حققت أخوة إسلامها ونجدت ونصرت وأعانت، فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابغوني في ضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم"، انصروهم وارزقوهم ينصركم الله ويرزقكم، قال ذلك رسولكم صلى الله عليه وسلم، كلنا يردد: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، أعطوني نصاً في كل ما هو موجود في الكتب السماوية يضاهي هذا النص، يضاهي أن كافل اليتيم يصل إلى أعلى مرتبة لأنه لا يكون مع المصطفى إلا وهو في أعلى مراتب الجنة والأجر والفضل، ألا نتأمل في أعظم أو ما هو من أعظم الآيات التي خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم خطاباً عظيماً جليلاً فيه ما فيه من رفع ذكره وفيه ما فيه من فضل ربه والله يخاطبه بقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 9)، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقهر، لكنها آيات القرآن تسمو بنا إلى المقام الأرفع إنسانياً، وإلى المقام الأنفع إسلامياً، وإلى أن نكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يخبرنا كما ورد في الحديث عن أبي هريرة عند الإمام أحمد في مسنده: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه، فهل ترون العلاج الذي وصفه أن يكثر صلاته أو أن يزيد تلاوته؟ تأملوا ماذا قال له، وإلام أرشده؟ فقال: "إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم"، ذلك العمل الإنساني هو الذي يفجر ينابيع الرحمة، أعرف بعضاً من أصدقائي الذين يعملون الآن في هذه اللحظة في تلك الظروف في شدة البرد ليكونوا مع إخوانهم في مناطق اللجوء يراسلونني بصورٍ أتحاشى النظر إليها، لأنني أشعر بالعجز وأشعر بالضيم وعدم القدرة على أن نقوم بالواجب، واجب إنساني ليس فيه دعوة ولا تربية ولا تعليم ولا أي شيء مما يوصم به المسلمون إذا فعلوه بأنهم إرهابيون، يطعمون طعاماً لأطفال جياع أو يرسلون ما يدفئ تلك الأجساد العارية الهزيلة التي هجرت وطردت وجوعت ومع ذلك لا يُسمح بالوصول إليها ولا تقوم الدنيا ولا تقعد لأجلها، والأمر في هذا كثير.
وحسبي أن أشير إلى أن لدينا من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم بل ومن آيات القرآن ما هو نموذج للبشرية كلها، ولكننا في الأسف لم نرق إلى مستواه وفي الوقت نفسه لا نستطيع أو لسنا في المقام المؤهل أن نقيمه حجة على الناس ولا أن ننصبه قدوة بين الخلائق لأننا نحن مقصرون فيه.
وأختم مقامي هذا بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" قال الراوي والحديث في الصحيحين وأحسبه قال: "كالقائم الذي لا يفتر والصائم الذي لا يفطر"، أيُّ شيء بقي؟ أجر المجاهد أجر الصائم أجر القائم، للقائم على الأرملة والمسكين.
نسأل الله عز وجل أن يغرس الرحمة في قلوبنا وأن يخرج منا لإخواننا كل ما تقر به أعينهم من خير نقدمه ومن واجب مالي نبذله، ومن دعاء نرفعه، ومن حزن يقض مضاجعنا ويؤرق ليلنا، عسى الله أن يتداركنا برحمته.
الخطبة الثانية:
معاشر المؤمنين..
أخوة الإسلام من ركائز الإيمان، ليست أمراً اختيارياً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
وأقف وقفة أخيرة لأقول إننا بحاجة إلى أن نعود إلى مدرسة الرحمة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم من سنته وأحاديثه ومن سيرته ومواقفه، روى مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إليها ومعها ابنتان لها تسألها حاجة فلم يكن عندها إلا تمرات ثلاث أعطتها إياها فأعطت واحدة لابنتها، وأعطت الثانية لابنتها الثانية وأرادت أن تأكل تمرة فاستطعمتها إياها ابنتها فأعادتها وقسمتها نصفين وأعطتها لابنتيها ولم تأكل شيئاً، قالت أم المؤمنين فعجبتُ من حالها وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله أوجب لها بهما الجنة ومنعها من النار"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
كثيرة هي الأبواب والأحاديث والمواقف التي نحتاج أن نعود إليها بدلاً من أن نسوّد الصحائف ونملأ وسائل الإعلام لحادثة هنا وهناك ولا نرى ذلك، ولستُ هنا أتحدث عن بلاد الشام في سورية وفلسطين فحسب، كلنا سمع وعلم ما جرى وما زال يجري إلى يومنا هذا لإخواننا المسلمين في بورما، وما جرى من أمر فظيع في إفريقيا الوسطى وذبح كذبح النعاج والذابحون نصارى ولم يكن هناك قول عن طائفية ولا عنصرية، إنها أمور لا نريد أن نكيل بمكيالين كغيرنا، ولسنا نحن المسلمون يظلمون لمجرد أن ظالماً ظلمهم بل نحن نعدل حتى من ظلم لكننا لا نريد أن نساق كقطيع مع موجات الإعلام فلا نرى ما هو واجب علينا ونرى ما هو ربما يكون من النوافل ومن الأمور الجانبية التي لسنا مسؤولين عنها، ولسنا القائمين بها، وليس فاعلوها من أهلنا ولا من ديننا ولا بغير ذلك من الأمور التي تحتاج منا كل هذا الذي رأيناه.
وأخيراً وليس آخرا فإننا لا نتحدث هنا عن أمر -كما قلت- اختياري، إنها واجبات شرعية قد تتجاوز الواجب في الزكاة إلى غيره عندما تقتضي الحاجة لأمة الإسلام ذلك، وهذا ظاهر ومعلوم.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين إخواننا وأن يرحمهم وأن يلطف بهم وأن يغيثهم وأن يعينهم وأن يجعل ما قضى عليهم زيادة في الإيمان واليقين ولا يجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم يا رب يا رحمن يا رحيم نسألك اللهم أن تعجل فرجك لعبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ارحمهم والطف بهم وعجّل فرجهم يا رب العالمين.
اللهم إنهم لا حول ولا قوة لهم إلا بك فأمدهم اللهم بحولك وقوتك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا وإياهم أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا لإخواننا ناصرين ولهم بالإنفاق والدعاء باذلين، اللهم واجعلنا سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، واجعلنا اللهم من أهل الإسلام الذين ينصرون المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.