فَوقَ عَتبةِ منزلٍ مَهْجُورٍ جَلسَ الفَتىَ الصّغِيرُ
يَعِزفُ مُوسِيقَى حَيَاته ِلترسُمَها الشّوارِع
لا أَحَد يَهتَمُّ بِه ، ولا أحَد يَنْتِبهُ لَه
عِندَها وَقَفَتْ أمَامَه قِطّةُ الشّارِع الْهَارِبة
كَانَتْ مَعزُوفَتُه عَن الْحَياة ، عَن الأَطْفَال
عَن شَوارِعِ المَدِينَةِ الْخَلفِيّةِ
عَنْ قُلوبٍ مَنسِيّة وَأرواحٌ بلا هُويّة
عَن حَياةٍ فَارغَةٍ ، خَامِلَة ، مُخدّرَة
هل سبق وأن أمضيت السّاعات تَتجوّل فِي أزقّة المدينة مثلي ؟
هَل تُحَكى الأوَجاع على هيئةِ ألَحان ؟
هل ترتِصفُ الأترَاحُ كمَا الكلِمات وترُوي قصَّتي على وقعِ هذِه الأنغام ؟
هل يا ترُى ستطيُر أهزوُجَة " النَّايِ الحِزين" بـِكلَّ آلامِي بعيَداً ؟
حَافِي القَدمَينِ ، مُتَسَرِّب الأمَلِ ، أتحوّل بِبطْئٍ لِزَهرِة ذَابِلةٍ
تَأتِي البَهجَة وتَخْتفِي ، كَومْضِة مِن حُلم يَقظةٍ تُنعش صَباحِي
أَرغبُ فِي العَودَة لِمَنزلِي الّذي حَلمْت بِه ، وسَط عَائلَةٍ تَمنّيتُ وُجودَهَا
أبْحَثُ عَن أمّي الّتِي لَم أرهَا فِي حَياتِي أَبداً
أحْلُم بِأنّي سَأكُونُ سَعيداً وَ أمْحُو عَذابِي
و لا أعُودُ لأطْفالٍ يَنتَحِبونَ كُل لَيلَةٍ تَحتَ الْجُسورِ
كُلّ مَسَاء ، السُحب تغطّينَا وَتَبْكِي عَلينَا بِأمطَارِها
أتَسائَلُ ، هلْ نَسيُت الزَّمَان أمْ نَسيِني ؟
لفرِطِ مَا لازَم صمِتي هذِه الجمادات
لفرِط ما غرِقتُ فِي جُمود لا تعبَّر عنه الكلِمات
صَار الغُبارُ يمرَّ بِي ويقُع فُوق وجهَي ويُراكم ذاته بين ثنياتِ ملابِسي
نُصارع الحَياة مِن أجْلِ الهَرَب
ونَخْتَبِئُ مِن الْخَوفِ وَالوحْدَة
لكنَّ بُرودَة الشّتَاء لا يُمْكِن أنْ تُجمّدَنا
يَجِبُ عَلى أَرْواحِنَا الإِنْتِصَار فِي لُعبَةِ البَقَاء
رَغْبَتًنا تَزدادُ فِي الحُصولِ عَلى السّلامْ
نَبحَثُ عَن المَلجَأ ، دُون مَعرفَةِ الأَمَانْ
تَتمَلّكًنا أًمنِيةٌ بِأنْ نَصِل لِحُرّيتِنا فِي يُومٍ مّا
بِتِلْك الْمَشَاعِر نَستَيقِظُ كُل صَباح
فَقطْ مُوسِيقَى نَاي تَرغَبُ بِمُسَاعَدتِهمْ
لا أحَدَ يَرغَبُ بِالزّوَال ، لا أحَد يَرغبُ بِالحَركة
لا أحَد يَرغَب بِالمُحاولة ، ولا أحَد يَرغب بِالنّوم
إنّه أنَا وأَنت ، وبَعض الأطْفالِ المُشَرْدِّين
عمرٌ صغير ، وأرجٌل ضَئيلة حَافِية
وعلَى عَاتقِ هذا العازِف الكسِير مُهمّة البَحث عَن الطّعامْ
مَن أجل أطفالٍ أصَغرَ مِنه يتجوّلونَ فِي الشّوارِع
رَابطُهمُ التشرّد ، وَالكِفاحُ هرباً مِن المَوتْ
أرجُوَك أيّها الشُّرطِي، أسْتَطيِعُ شَرح كُل شَئ !
كانَ عليّ تُوفيُر لقُمةٍ تكفُل لهم العيْش لغدِ جديد
كلّ يوم عليَّ أن أحميهم من حياة الشَّارع القَاسِية
وقبل أن نتَخذَ القَرارَ ، كان الخُبزُ أمَامنا مُباشرةً
أعدُك بأنّ هَذا لَنْ يَحُدث مَرّة أخُرىَ
فقَطْ دَعنا نَضَع كِسرةَ الخبُز فِي أفْواهِنا
لا حاجَة لأن يكُون مذَاقهُا جيَّداً ، فقَط دَعنا نُسدّ بها جُوعَنا
لا تُخبر أحداً عن فعلِتنا وإن أخبرتُهم فقُل بأنَّك أنقذَتنا
مَعزوفُة أخَرىَ ، فِي طَرف الشّارع المُجاورْ
هنالك أمامَ صَديِق وحدِته ، وجارِ غُرِبته !
وكأنَّه الوحيُد الّذي يفهُم قصَّة هذا العازِف الضّئيل !
يُخاطبِه بعزفه ويرد عليه بأغنيةٍ ترُسم على إثَرها
كلَّ أوجاعهم مُلطَّخةً الرَّصيف بعارِ فقرٍ ألحَقَهم بقَطارِه العتيْق
يَعودُ الفتى الصغير ، بَعد مُضي السّنين
عتَبتهُ كَما هِي ، مُغبرّة صَامِدة لَم تتَحطّم
يرَى خَيالَهُ القَديِم ، يَسَمعُ عَزفُه للقطّةِ المُشْفِقَة
يُشَاهِد انْعِكاسَه بعدَ مُرور الَوقِت وتغيّر الأحَوال
يُخبرُ طيفهُ الصّغير ، كَأنّ الألحَان تُسافِر عَبر الأزْمانْ
أشُقّ طَريقَ الأَلمُ ، بِابتَسامةُ خَاوية مِن الإرهِاقِ
لأننّا لا نَعلمُ مَتى سَتكونُ النّهايَة ،
نَحن نُخْتَبر في هذهِ الأزقّة ، فلربما سقطَتْ عَلينا الرّحمَة
جَميُعنا نتَعلّم دُرُوسَنا بِطرَيقةٍ أو بِأخُرىَ
إذا سقَطنَا ننهَضُ وإذا نَهضْنَا نستَمِر
لا تُوجَد مُحاولة أخِيرَة ولا يُوجَد تعرِيفٌ لِلاسْتِسلام
أقُولُ لكَ الآنَ ، وهُنا ، علَينَا أنْ نتَغّير لنِنجَح ونَنْجُوا
مَع تصَرًّفَاتِ النّاسِ الفَارِغَة
كَأجسَادِ لا تَملِكُ قُلوباً ولا أرْواحَاً
فلنغيّر نظْرَتنا لِلأمُورِ بِشكْلٍ جَذريّ
وقَد نَستَطِيعُ رُؤَية الأرْواحِ الْهَائِمةَ
كُلَنا فِي هذا السّباقِ سَوياً
بعضُنا يَركضُ وبَعضنَا يَمشِي
والبعضُ باقٍ فِي الْخلفِ ينَتِظر دورَه
إنِ اسَتمرّيْنَا هكَذا ، فَلا نِهاية لِهذا الْمَطافْ
دعْنِي آخًذ لحَظة من الزَّمان
لأتَخطّى كَافة الْعَقباتِ بِقوّة
اَنْظٌر للخلْفِ ، وأتعجَّبُ لغرابةِ ما أرى
واتسائل لماذا لا ترغبُ أنْ تكونَ بِجوارِي ؟
اُنظر إلى عَينايَ وأخِبرنِي ماذا ترَى؟
عيونُ فَتى يُقبّل الموتَ كُل يوم
أنتَ أعمَى بسبَبِ اخْتِلافَاتِنا
فحياتِي لا تَعنِي لنَا شَيئاً
كُل يوم نستيقظ ونُحاول رَفع رايةِ الهزِيمة
والتيّار يجْرفُنا لإكمَالِ الحيَاة بصُعوبَة بَالغة
مع ذلك ، أشعُر بالإِمِتنَان لأنّنا حلّقنا فِي السّماء
تعلّمتُ العَزف عَلى النّاي فصَار مُلازماً لِي فِي كلِّ يُوم
معزُوفةٌ سَمعتُها ، تُخبرنِي بِألّا أقَلق بِشأنِ حَياتِي
ولا أحِمل همَّ البحِث عن طعامِي
بأن أجَعل هاجِسي كيف سأرى حياتي بنُورها وضياءَها
فأكبرُ خوفٍ لِي هو أن أتلاشَى ، ولا يذُكرِني أحد
ظنَّاً مِنهم أنَّني صرِتُ إلى النَّسيَان
ظَناً منهم بأنَّني لسُت إلَّا جُزءًا أثيَراً عتيقاً مِن هذَا المكَان !
على رصيفٍ التشرّد يرمُقهم عابرِون اعتادُوا
هزالَة أجسادِهم وَ جُوع تقاسِيمهم بقدِر ما اعتَادوا لا مُبالِتهم !
على طرقٍ تقشَّفت من فرِط المرُور بِها
على عتباتٍ كسّرتها أقدام الزَّمان انتُظروا مرُوراً ينتشُل هذا الصَّوت الحزِين
يلتُقط مَغزَىً تهتَزّ له بقَايا ذِكرياتهم ويِطوي تحتَه كثيراً من الكلِمات
وبهذه السهولة تمضي معزوفة أطفال المدينة بلا نهاية أو بدايَة