::: وقفات قرآنية: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً :::
[rtl]
:::الكـاتب : خالد سعد النجار:::
قال - تعالى -: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً) [الجن: 14-17].
(وأنا منَّا المسلمون ومنَّا القاسطون) أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإِسلام. فمن أسلم أي انقاد لله - تعالى - بطاعته وخلص من الشرك به فهؤلاء تحروا الرشد وفازوا به، (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) توقد بهم وتستعر عليهم وعلى الكافرين الجائرين أمثالهم[1].
قال مجاهد وقتادة: والبأس القاسط: الظالم، ومنه قول الشاعر:
قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً *** عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ [2]
(وأنَّا منا المسلمون)؛ المؤمنون، (ومنّا القاسِطون)؛ الجائرون عن طريق الحق، الذي هو الإيمان والطاعة، وهم الكفرة (فمَن أسلم فأولئك تَحَروا رَشَداً)؛ طلبوا هدى. والتحرّي: طلب الأحرى، أي الأَولى، وجمع الإشارة باعتبار معنى «مَن»، (وأمَّا القاسطون)؛ الحائدون عن الإسلام، (فكانوا) في علم الله (لِجهنم حَطَباً)؛ وقوداً، وفيه دليل على أنَّ الجنِّي الكافر يُعذّب في النار وإن كان منها، والله أعلم بكيفية عذابه، وقد تقدّم أنّ المشهور أنهم يُثابون على طاعتهم بالجنة[3].
(وَمِنَّا القاسطون) يعني الظالمين، يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط بالألف إذا عدل[4] والقاسطون: هم الجائرون الظالمون، جمع قاسط، وهو الذي ترك الحق واتبع الباطل، اسم فاعل من قسط الثلاثي بمعنى جار، بخلاف المقسط فهو الذي ترك الباطل واتبع الحق مأخوذ من أقسط الرباعي بمعنى عدل[5].
القاسطون غير المقسطين، فالمقسطون على منابر من نور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا))، أما القاسطون فهم: الجائرون الظالمون[6].
والقاسط: اسم فاعل قسط من باب ضرب قسطا بفتح القاف وقسوطا بضمها، أي جار فهو كالظلم يراد به ظلم المرء نفسه بالإشراك. وفي الكشاف: أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول في؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم ما أحسن ما قال حسبوا أنه وصفه بالقسط بكسر القاف والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا وتلا لهم قوله - تعالى -: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) وقوله - تعالى -: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1] [7].
(وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً) وهذا التقرير من الجن بأن منهم صالحين وغير صالحين، مسلمين وقاسطين، يفيد ازدواج طبيعة الجن، واستعدادهم للخير والشر كالإنسان إلا من تمحض للشر منهم وهو إبليس وقبيله وهو تقرير ذو أهمية بالغة في تصحيح تصورنا العام عن هذا الخلق. فأغلبنا حتى الدارسين الفاقهين على اعتقاد أن الجن يمثلون الشر، وقد خلصت طبيعتهم له.
وأن الإنسان وحده بين الخلائق هو ذو الطبيعة المزدوجة. وهذا ناشئ من مقررات سابقة في تصوراتنا عن حقائق هذا الوجود كما أسلفنا وقد آن أن نراجعها على مقررات القرآن الصحيحة![8].
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين:
أحدهما: وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها، (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) أي: كثيرًا. والمراد بذلك سَعَة الرزق. كقوله - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة: 66] وكقوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) [الأعراف: 96] وعلى هذا يكون معنى قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي: لنختبرهم، كما قال مالك، عن زيد بن أسلم: (لِنَفْتِنَهُمْ) لنبتليهم، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية؟.
ذكر من قال بهذا القول: قال العوفي، عن ابن عباس: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) يعني بالاستقامة: الطاعة. وقال مجاهد: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال: الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والسدي، ومحمد بن كعب القرظي.
وقال قتادة: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) يقول: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا.
وقال مجاهد: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي: طريقة الحق. وكذا قال الضحاك، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنبتليهم به.
وقال مقاتل: فنزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.
والقول الثاني: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) الضلالة (لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) أي: لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا، كما قال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44] وكقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون: 55-56] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد؛ فإنه في قوله: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي: طريقة الضلالة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، والكلبي، وابن كيسان. وله اتجاه، وتيأيد بقوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)
وقوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) أي: عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما[9].
قال ابن قتيبة: المعنى لو آمنوا جميعاً لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق مثلاً؛ لأن الخير كله والرزق بالمطر، وهذا كقوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ واتقوا) [المائدة: 65] الآية، وقوله: (وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2 /3] وقوله: (فقلت استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ) [نوح: 10/12] الآية.
وقيل: المعنى: وأن لو استقام أبوهم على عبادته، وسجد لآدم ولم يكفر، وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، واختار هذا الزجاج. والماء الغدق: هو الكثير في لغة العرب.
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي: لنختبرهم، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم. وقال الكلبي: المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر، فكانوا كلهم كفاراً، لأوسعنا أرزاقهم مكراً بهم واستدراجاً حتى يفتنوا بها، فنعذبهم في الدنيا والآخرة. وبه قال الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن، والثمالي، ويمان بن زيان، وابن كيسان، وأبو مجلز، واستدلوا بقوله: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء) [الأنعام: 44]، وقوله: (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ) [الزخرف: 33] الآية، والأوّل أولى.
(وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً) أي: ومن يعرض عن القرآن، أو عن العبادة، أو عن الموعظة، أو عن جميع ذلك يسلكه أي: يدخله عذاباً صعداً أي: شاقاً صعباً[10].
(وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقاً لنفتنهم فيه، ومن يُعرِض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً).. يقول الله - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا: ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماء موفوراً نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء.. (لنفتنهم فيه) ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون.
وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة، يزيد مدلولها توكيداً بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله - سبحانه -. ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها.
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن، وتصوره عن جريان الأمور وارتباطاتها.
والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية.. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة.
وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلاباً. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله.
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة الله، ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء. وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته..
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأنذر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى.. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان!
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة.. نعمة المال والرزق كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة.. ونعمة القوة كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله.. ونعمة الجمال كثيراً ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية.. ونعمة الذكاء كثيراً ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين.. وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله..
والحقيقة الثالثة أن الإعراض عن ذكر الله، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء، مؤد إلى عذاب الله. والنص يذكر صفة للعذاب (يسلكه عذاباً صعداً).. توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السمآء) وجاء في موضع: (سأرهقه صعوداً) وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء! [11].
-------------------
الهوامش:
[1] أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري: 4/321
[2] تفسير البحر المحيط: 10/368
[3] البحر المديد: 6/432
[4] التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي: 1/2489
[5] التفسير الوسيط لسيد طنطاوي: 1/4346
[6] سلسلة التفسير لمصطفى العدوي: 76/8
[7] التحرير والتنوير: 29/220
[8] في ظلال القرآن، سيد قطب: 7/367
[9] تفسير ابن كثير: 8/243
[10] فتح القدير للشوكاني: 7/326
[11] في ظلال القرآن، سيد قطب: 7/370
[/rtl]