- ص 13 - قال البخاري - رحمه الله تعالى ورضي الله عنه - : ( بسم الله الرحمن الرحيم . كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير " باب " وثبت في رواية غيرهما ، فحكى عياض ومن تبعه فيه التنوين وتركه ، وقال الكرماني : يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب . فلا يكون له إعراب. وقد اعترض على المصنف لكونه لم يفتتح الكتاب بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة امتثالا لقوله - صلى الله عليه وسلم - " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع والجواب عن الأول أن الخطبة لا يتحتم فيها سياق واحد يمتنع العدول عنه ، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود ، وقد صدر الكتاب بترجمة بدء الوحي وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية فكأنه يقول : قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فاكتفى بالتلويح عن التصريح . وقد سلك هذه الطريقة في معظم تراجم هذا الكتاب على ما سيظهر بالاستقراء . والجواب عن الثاني أن الحديثين ليسا على شرطه ، بل في كل منهما مقال . سلمنا صلاحيتهما للحجة لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معا ، فلعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصارا على البسملة لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها ، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن اقرأ باسم ربك فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها ، لا سيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب الأول ، بل هو المقصود بالذات من أحاديثه . ويؤيده أيضا - ص 14 - وقوع كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلة وغيرها كما سيأتي في حديث أبي سفيان في قصة هرقل في هذا الباب ، وكما سيأتي في حديث البراء في قصة سهيل بن عمرو في صلح الحديبية ، وغير ذلك من الأحاديث . وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق ، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا بما فيه تعلما وتعليما . وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخر فيها نظر ، منها أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة ، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة ، أو بالتسمية لم يعد مبتدئا بالحمدلة فاكتفى بالتسمية . وتعقب بأنه لو جمع بينهما لكان مبتدئا بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية ، وهذه هي النكتة في حذف العاطف فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز ، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمد وتلوها ، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار ، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة ، ومن لا يقول ذلك ، ومنها أنه راعى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئا واكتفى بها عن كلام نفسه ، وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى ، وأيضا فقد قدم الترجمة وهي من كلامه على الآية ، وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث ، والجواب عن ذلك بأن الترجمة والسند وإن كانا متقدمين لفظا لكنهما متأخران تقديرا فيه نظر . وأبعد من ذلك كله قول من ادعى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة ، فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب . وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك في الموطأ ، وعبد الرزاق في المصنف ، وأحمد في المسند ، وأبي داود في السنن إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة ، ولم يزد على التسمية ، وهم الأكثر ، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة ، أفيقال في كل من هؤلاء إن الرواة عنه حذفوا ذلك ؟ كلا ، بل يحمل ذلك من صنيعهم على أنهم حمدوا لفظا . ويؤيده ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب الحديث ولا يكتبها ، والحامل له على ذلك إسراع أو غيره ، أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب كما تقدم ; ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنع مسلم ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب . وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل ، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرا فجاء عن الشعبي منع ذلك ، وعن الزهري قال : مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم ، وعن سعيد بن جبير جواز ذلك وتابعه على ذلك الجمهور ، وقال الخطيب هو المختار . قوله : ( بدء الوحي ) قال عياض : روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء ، وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور . قلت : ولم أره مضبوطا في شيء من الروايات التي اتصلت لنا ، إلا أنه وقع في بعضها " كيف كان ابتداء الوحي " ، فهذا يرجح الأول ، وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ . وقد استعمل المصنف هذه العبارة كثيرا ، كبدء الحيض وبدء الأذان وبدء الخلق . والوحي لغة الإعلام في خفاء ، والوحي أيضا الكتابة والمكتوب والبعث والإلهام والأمر والإيماء والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء . وقيل : أصله التفهيم ، وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي . وشرعا الإعلام - ص 15 - بالشرع . وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى ، وهو كلام الله المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اعترض محمد بن إسماعيل التيمي على هذه الترجمة فقال : لو قال كيف كان الوحي لكان أحسن ; لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي ، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط . وتعقب بأن المراد من بدء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أي تعلق كان . والله أعلم . قوله : ( وقول الله ) هو بالرفع على حذف الباب عطفا على الجملة لأنها في محل رفع ، وكذا على تنوين باب . وبالجر عطفا على كيف وإثبات باب بغير تنوين ، والتقدير باب معنى قول الله كذا ، أو الاحتجاج بقول الله كذا ، ولا يصح تقدير كيفية قول الله لأن كلام الله لا يكيف قاله عياض ، ويجوز رفع " وقول الله " على القطع وغيره . قوله : ( إنا أوحينا إليك . . . الآية ) قيل قدم ذكر نوح فيها لأنه أول نبي أرسل ، أو أول نبي عوقب قومه ، فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقا ، كما سيأتي بسط القول في ذلك في الكلام على حديث الشفاعة . ومناسبة الآية للترجمة واضح من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين ، ومن جهة أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا ، كما رواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود قال : إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة . قوله : ( حدثنا الحميدي ) هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى ، منسوب إلى حميد بن أسامة بطن من بني أسد بن عبد العزى بن قصي رهط خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يجتمع معها في أسد ويجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي . وهو إمام كبير مصنف ، رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وطبقته وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر ، ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين . فكأن البخاري امتثل قوله - صلى الله عليه وسلم - " قدموا قريشا " فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي لكونه أفقه قرشي أخذ عنه . وله مناسبة أخرى لأنه مكي كشيخه فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي لأن ابتداءه كان بمكة ، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك لأنه شيخ أهل المدينة وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل ، ومالك وابن عيينة قرينان ، قال الشافعي : لولاهما لذهب العلم من الحجاز . قوله : ( حدثنا سفيان ) هو ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي ، أصله ومولده الكوفة ، - ص 16 - وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه وعاش بعده عشرين سنة ، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين . قوله : ( عن يحيى بن سعيد ) في رواية غير أبي ذر : حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري . اسم جده قيس بن عمرو وهو صحابي ، ويحيى من صغار التابعين ، وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين ، وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم ، ففي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق . وفي المعرفة لابن منده ما ظاهره أن علقمة صحابي ، فلو ثبت لكان فيه تابعيان وصحابيان ، وعلى رواية أبي ذر يكون قد اجتمع في هذا الإسناد أكثر الصيغ التي يستعملها المحدثون ، وهي التحديث والإخبار والسماع والعنعنة والله أعلم . وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي وأنه لا تعلق له به أصلا ، بحيث إن الخطابي في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه أخرجاه قبل الترجمة لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط ، واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك ، وقال ابن رشيد : لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف ، وقد تكلفت مناسبته للترجمة ، فقال : كل بحسب ما ظهر له . انتهى . وقد قيل : إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب ; لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة ، فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر صلح أن يكون في خطبة الكتب . وحكى المهلب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب به حين قدم المدينة مهاجرا ، فناسب إيراده في بدء الوحي - كان بمكة - ; لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين ، ويعقبه النصر والظفر والفتح انتهى . وهذا وجه حسن ، إلا أنني لم أر ما ذكره - من كونه - صلى الله عليه وسلم - خطب به أول ما هاجر - منقولا . وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " وقال أبو العالية في قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا قال وصاهم بالإخلاص في عبادته . وعن أبي عبد الملك البوني قال : مناسبة الحديث للترجمة أن بدء الوحي كان بالنية ; لأن الله تعالى فطر محمدا - ص 17 - على التوحيد وبغض إليه الأوثان ووهب له أول أسباب النبوة وهي الرؤيا الصالحة ، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة . وقال المهلب ما محصله : قصد البخاري الإخبار عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال منشئه وأن الله بغض إليه الأوثان وحبب إليه خلال الخير ولزوم الوحدة فرارا من قرناء السوء ، فلما لزم ذلك أعطاه الله على قدر نيته ووهب له النبوة كما يقال الفواتح عنوان الخواتم . ولخصه بنحو من هذا القاضي أبو بكر بن العربي . وقال ابن المنير في أول التراجم : كان مقدمة النبوة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء فناسب الافتتاح بحديث الهجرة . ومن المناسبات البديعة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه أن الكتاب لما كان موضوعا لجمع وحي السنة صدره ببدء الوحي ، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدره بحديث الأعمال ، ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمة أصلا . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث : قال أبو عبد الله : ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث . واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام ، ومنهم من قال ربعه ، واختلفوا في تعيين الباقي . وقال ابن مهدي أيضا : يدخل في ثلاثين بابا من العلم ، وقال الشافعي : يدخل في سبعين بابا ، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة . وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا : ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب . ووجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ; لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها ، ومن ثم ورد : أحدهما : الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما . ثانيهما : السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم 8 " يبعثون على نياتهم قوله : ( على المنبر ) بكسر الميم ، واللام للعهد ، أي منبر المسجد النبوي ، ووقع في رواية حماد بن زيد عن يحيى في ترك الحيل : سمعت عمر يخطب . قوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) كذا أورد هنا ، وهو من مقابلة الجمع بالجمع ، أي كل عمل بنيته . وقال الخوبي كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده . ووقع في معظم الروايات بإفراد النية ، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها . بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها ; ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له . ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ " الأعمال بالنيات " بحذف " إنما " وجمع الأعمال والنيات ، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي ووصله في مسنده كذلك ، وأنكره أبو موسى المديني كما نقله النووي وأقره ، وهو متعقب برواية ابن حبان ، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ " الأعمال بالنية " ، وكذا في العتق من رواية الثوري ، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد ، ووقع عنده في النكاح بلفظ " العمل بالنية " بإفراد كل منهما . والنية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور ، وفي بعض اللغات بتخفيفها . قال الكرماني قوله " إنما الأعمال بالنيات " هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين ، واختلف في وجه إفادته فقيل لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق ، وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية ، وقيل لأن إنما للحصر ، وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم ، أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف ، أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز ؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا ، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي ، وعلى العكس من ذلك أهل العربية ، واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو ، أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب ما قام إلا زيد وهي للحصر اتفاقا ، وقيل : لو كانت للحصر لاستوى إنما قام زيد مع ما قام إلا زيد ، ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول ، وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع كسوف والسين ، وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى إنما تجزون ما كنتم تعملون وكقوله : وما تجزون إلا ما كنتم تعملون وقوله : إنما على رسولنا البلاغ المبين وقوله : ما على الرسول إلا البلاغ ومن شواهده قول الأعشى : ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر - ص 19 - يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى . واختلفوا : هل هي بسيطة أو مركبة ، فرجحوا الأول ، وقد يرجح الثاني ، ويجاب عما أورد عليه من قولهم إن " إن " للإثبات و " ما " للنفي فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلا : أصلهما كان للإثبات والنفي ، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما بل أفادا شيئا آخر ، أشار إلى ذلك الكرماني قال : وأما قول من قال إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد وهو المستفاد من إنما ومن الجمع ، فتعقب بأنه من باب إيهام العكس ; لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر . وقال ابن دقيق العيد : استدل على إفادة إنما للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث " إنما الربا في النسيئة " ، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم ولم يخالفوه في فهمه فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر . وتعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا . وأما من قال : يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله " لا ربا إلا في النسيئة " لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور ، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر ، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد ، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه . وأوضح من هذا حديث " إنما الماء من الماء " فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه ، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث " إذا التقى الختانان " وقال ابن عطية : إنما لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع ، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه ، فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينة ، وكلام غيره على العكس من ذلك وأن أصل ورودها للحصر ، لكن قد يكون في شيء مخصوص كقوله تعالى إنما الله إله واحد فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية ، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة ، وكقوله تعالى ( تكميل ) : الأعمال تقتضي عاملين ، والتقدير : الأعمال الصادرة من المكلفين ، وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار ؟ الظاهر الإخراج ; لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها ولا يرد العتق والصدقة لأنهما بدليل آخر . قوله : ( بالنيات ) الباء للمصاحبة ، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده ، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله . قال النووي : النية القصد ، وهي عزيمة القلب . وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد . واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط - مصاحبة النية أثناء العمل - ؟ والمرجح أن إيجادها ذكرا في أول العمل ركن ، واستصحابها حكما بمعنى أن لا يأتي بمناف شرعا شرط . ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور ، فقيل تعتبر وقيل تكمل وقيل تصح وقيل تحصل وقيل تستقر . قال الطيبي : كلام الشارع محمول على بيان الشرع ; لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان ، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع ، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي . وقال البيضاوي : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا ، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه . والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر ، فإنه تفصيل لما أجمل ، والحديث متروك - ص 20 - الظاهر لأن الذوات غير منتفية ، إذ التقدير : لا عمل إلا بالنية ، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية ، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال ، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه ; ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع ، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة . وقال شيخنا شيخ الإسلام : الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية ، لقوله في الحديث " فمن كانت هجرته " إلى آخره . وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل . ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال . قال ابن دقيق العيد : وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد ، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها . وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل . وقد تعقب على من يسمي القول عملا لكونه عمل اللسان ، بأن من حلف لا يعمل عملا فقال قولا لا يحنث . وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف ، والقول لا يسمى عملا في العرف ولهذا يعطف عليه . والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا ، وكذا الفعل ، لقوله تعالى ولو شاء ربك ما فعلوه بعد قوله : زخرف القول . وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل ، والمعرفة : وفي تناولها نظر ، قال بعضهم : هو محال لأن النية قصد المنوي ، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة . وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله : إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم ، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا ; لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره ، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا . وقال ابن دقيق العيد : الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال ، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال ، ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى . وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية ، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل ، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها ، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء ، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا . نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات الفقه . ( تكميل ) : الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير ، والتقدير الأعمال بنياتها ، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها ، ومن كونها فرضا أو نفلا ، ظهرا مثلا أو عصرا ، مقصورة أو غير مقصورة وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد ؟ فيه بحث . والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين ، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر ، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم . قوله : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) قال القرطبي : فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال ، فجنح إلى أنها مؤكدة ، وقال غيره : بل تفيد غير ما أفادته الأولى ; لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها ، فيترتب الحكم على ذلك ، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه وقال ابن دقيق العيد : الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له - يعني إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله وكل ما لم ينوه لم يحصل له . ومراده بقوله " ما لم ينوه " أي لا خصوصا ولا عموما ، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء . ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى . وقد يحصل - ص 21 - غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها ; لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل ، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح ; لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه ، بخلاف تحية المسجد والله أعلم . وقال النووي : أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا ، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة . وقال ابن السمعاني في أماليه : أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة ، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة . وقال غيره : أفادت أن النيابة لا تدخل في النية ، فإن ذلك هو الأصل ، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره فإنها على خلاف الأصل . وقال ابن عبد السلام : الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال ، والثانية لبيان ما يترتب عليها . وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها ، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة . ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع ، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا ، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا ، ومن ثم قال الغزالي : حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب ; لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة ، بل هو خير من السكوت مطلقا ، أي المجرد عن التفكر . قال : وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب ، انتهى . ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - " في بضع أحدكم صدقة " ثم قال في الجواب عن قولهم " أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر ( تنبيه ) : قال الكرماني : إذا قلنا إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله " وإنما لكل امرئ ما نوى " نوعان من الحصر : قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه ، والتقديم المذكور . قوله : ( فمن كانت هجرته إلى دنيا ) كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله "
|