"فيرجس" ليس فرنسيا و قد اعتنق "الإسلام" قبل زواجه
"جميلة بوحيرد":" لم أقم إلا بواجبي.. وأنا أحمل عقدة الذنب تجاه الذين قدموا دماءهم"
" إن الدعاية التي أثيرت من أجلي و اثارت الضمير العام العالمي، أعطتني حجما أكبر من حجمي،لقد أخذت أكثر من حقي و لو تكلموا عني كثيرا فأنا لم أقم إلا بواجبي، هكذا قالت جميلة بوحيرد في إحدى لقاءاتها الصحفية مع مجلة الحدث العربي، و لا يظن قارئ هذه العبارات أنه ياتي يوم على هذه المرأة الرمز و تطالب الحكومة الجزائرية مقابل لنضالها، لأن المناضل و المجاهد الحقيقي دائما يتعفف و يترفع عن المطالبة بحقوقه"
"جميلة بوحيرد":" لم أقم إلا بواجبي.. وأنا أحمل عقدة الذنب تجاه الذين قدموا دماءهم"
" إن الدعاية التي أثيرت من أجلي و اثارت الضمير العام العالمي، أعطتني حجما أكبر من حجمي،لقد أخذت أكثر من حقي و لو تكلموا عني كثيرا فأنا لم أقم إلا بواجبي، هكذا قالت جميلة بوحيرد في إحدى لقاءاتها الصحفية مع مجلة الحدث العربي، و لا يظن قارئ هذه العبارات أنه ياتي يوم على هذه المرأة الرمز و تطالب الحكومة الجزائرية مقابل لنضالها، لأن المناضل و المجاهد الحقيقي دائما يتعفف و يترفع عن المطالبة بحقوقه"
اعتادت "جميلة بوحيرد" "الصمت" و رفض الحديث بعدما خيبت الصحافة المصرية آمالها عام 1963 عندما قالت أمام الصحافيين في "مصر" شيئا فنشروا في اليوم التالي أشياء أخرى، و منذ ذلك الوقت لزمت جميلة بوحيرد الصمت و لم تتحدث الى الصحافة في اي شيئ يخصها، خاصة بعد زواجها من محاميها و انصرافها الى حياتها اليومية تعيشها بهدوؤ تام في شقة من إحدى البنايات القديمة مثل ملايين الجزائريين يتناقضاتها و مشاكلها..
و لكن تشاء الأقداء ان تخرج جميلة بوحيرد عن صمتها و تقول في حوار اجرته معها مجلة الحدث العربي و الدولي عدد 24 لسنة 2002 : " قد لا أكون راضية، فأنا لست غائبة و أنا لم ألتزم الصمت و لكنني أعبر عن نفسي يوميا حيث يجب التعبير، تضيف بالقول: لقد أخذت أكثر من حقي و لو تكلموا عني كثيرا فأنا لم أقم إلا بواجبي، أما الدعاية التي أثيرت من أجلي و أثارت الضمير العام العالمي، أعطتني حجما أكبر من حجمي، و هذا يجعلني عقدة ذنب تجاه آلاف الإخوان و الأخوات الذين أعطوا دماءهم، لقد أجبرتها ظروف الإستعمار أن تستجمع أنفاسها و تكتب ذكرياتها و رفاق الأمس باللغة الفرنسية و طلبت من أحد الصحافيين و هو قصي صالح الدرويش رئيس تحرير مجلة "الحدث العربي" و أن تنشر هذه الذكريات كاملة..
تذكر "جميلة بوحيرد" أيام كانت عائدة من المدرسة و عمرها آنذاك 12 سنة و رسخ في ذهن هذه الطفلة درس التاريخ بعنوان" أسلافنا هم الغالوا" ( أي شعب غال الذي ينتمي اليه الفرنسيون) ، لم تتحمل والدة جميلة بوحيرد و هي تسمع ابنتها تردد هذه العبارات فقالت لها غاضبة: (هذا كلام الإستعمار) و أنتِ تقرئينه لأنه مفروض عليكِ، و لكن يجب أن تعلمي أن الجزائر هي وطنك و الإسلام هو دينك، و هكذا كبرت جميلة بوحيرد مع الأفكار الوطنية لاسيما و هي من عائلة ثورية تنتمي الى الحركة الوطنية و إخوتها و ابناء عمومتها ينتمون الى مختلف الأحزاب الوطنية..
لم تكن جميلة بوحيرد شخصا "وسطيا" بل الأشياء عندها إما بيضاء أو سوداء، و كانت بطبعها تسعى للوصول الى العمق، و كانت هذه المبادئ هي التي حددت لها سمات شخصيتها و تجعلها تلعب دورها تجاه الوطن، فقد بدأت جميلة بوحيرد العمل مع الثوار عام 1965 و عمرها 20 عاما، عندما كانت طالبة في معهد الخياطة و التفصيل، و في فيفري 1957 أصبحت ملاحقَةً من قبل الفرنسيين بعدما اكتشفوا في بيت أهلها مصنعا للقنابل و عمها الذي يقيم معهم التحق بالجبل..
أوقفت جميلة بوحيرد و حـُكـِمَ عليها بالإعدام في 13 جويلية 1957 مع زميلتها جميلة بوعزة، تقول عن يوم صدور الحكم عليها أنه كان أجمل يوم في حياتها لأنها كانت مقتنعة بأنها ستموت من أجل أروع قصة في الدنيا، و تذكر عندما عادت هي و جميلة بوعزة و ثلاث نسوة من قاعة المحكمة الى السجن وشرع الإخوة المساجين يسألونها عن مضمون الحكم، كانت الإجابة بالنشيد الذي كان ينشده المحكومون بالإعدام و مطلعه: ( الله أكبر.. تضحيتنا للوطن..) ، و أثار الحكم بالإعدام عاصفة في الرأي العام، مما اضطر السلطات الفرنسية إلى تخفيف الحكم، و بقيت جميلة بوحيرد في السجن الى غاية الإستقلال..
رغم ما عانته هذه المرأة الرمز فهي لم تتوقف عن رغبتها في العطاء النضالي من أجل تحرر المجتمع الإنساني، إذ رغبت في الذهاب الى "الفيتنام" أثناء الثورة، و طلبت ذلك من الرئيس هواري بومدين ، حينها اتصل الرئيس هواري بومدين بقيادة الثورة الفيتنامية و لكن المبادرة استحيل تحقيقها، و في حرب أكتوبر 1973 أرسلت جميلة بوحيرد مع زميلتها "زهرة ظريف" برقية الى الرئيس حافظ الأسد للتطوع في الجيش السوري دفاعا عن الأرض العربية و لكن ما حز في نفس جميلة بوحيرد هو أنها لم تتلق جوابا من الرئيس..
مناهضتها لحكم "الإعدام" و سجن "الرأي"
من الصدمات القوية التي واجهتها جميلة بوحيرد عندما شهدت تناقضات بداية الإستقلال و دخول من صنعوا الثورة وأمجادها في اصطدامات و هي ترى مواطنين و قيادات تاريخية يساقون الى الإعدام و منه الشخصية الوطنية و إحدى قيادات الثورة "حسين آيت أحمد" ، و رغم خلافاتها مع "بن بلة" تتدخل جميلة بوحيرد في الأمر بقولها : "هذا لا يجوز" و لكن الصدمة كانت أقوى من كل الصدمات و هي تستمع الى جواب أحمد بن بلة و هو يردد: ( آيت أحمد يستحق الإعدام)، فذهبت الى بومدين للتدخل، كان موقفا وطنيا من امرأة كانت سجينة سياسية و محكومة بالإعدام و لكونها عاشت هذا الشعور فهي اليوم تقف ضد حكم الإعدام و ضد سجن الرأي و لكن.. !، تضيف جميلة بوحيرد: "الديمقراطية في عالمنا العربي بعيدة ، لأن الإقطاعية لا تزال تسكن رؤوسنا"..
"فيرجس" ليس فرنسيا و قد اعتنق الإسلام قبل زواجه
و ربما هي صدمة أقوى بل أمَرّ من التي سبقتها ، عندما اتـُهـِمَتْ جميلة بوحيرد بالخيانة لوطنها الذي كادت أن تصل من أجله الى "المقصلة" بزواجها من محاميها (جاك فيرجس) لتكشف أن زوجها ليس بفرنسي و إنما هو من جزيرة (رينيون) المستعمرة هي الأخرى من قبل فرنسا، و هي جزيرة في المحيط الهندي تقع على بعد حوالى 640 كيلو مترا شرقى جزيرة مدغشقر، عاصمتها "سان دينيس"، ويتكون سكان الجزيرة البالغ عددهم 564 ألف نسمة، من الكريوليين الفرنسيين، أى السلالات الناتجة عن التزاوج بين الفرنسيين وأبناء الجزيرة الأصليين، إلى جانب عدد محدود من الهنود والصينيين، و ظلت غير مأهولة بالسكان حتى استولى عليها الفرنسيون فى سنة 1642، وقد أطلقوا عليها أولا اسم "بوربون"، تضيف جميلة بوحيرد أن زوجها مناضل وهب حياته لقضايا التحرر و منها القضايا العربية (الجزائر و فلسطين) و اعتنق الإسلام قبل زواجه منها ، وتقول جميلة بوحيرد في هذا الشأن : " ما كنت لأتزوجه أبدا لو لم يسلم"..
و تشير الكتابات التاريخية هنا أن الحُبْ الذي جمع بين جميلة بوحيرد و جاك وفيرجيس كان بطولياً،على رغم حكم الإعدام الذي صدربحقها، إلا أن خروجها من السجن عام 1965 كان انتصاراً توّجاه بالزواج، وبقي فيرجيسمحامياً للمقاومة الجزائرية طوال فترة نضالها ، و بقيت معه رفقة ولديها في الجزائر إلى غاية عام 1970، كان فيها جاك فيرجس محاميا للقضية الفلسطينية ، وقيل أنه سافر في رحلة عمل إلى اسبانيا، و منها اختفىلمدة 08 سنوات ، و قيل أنه قدم إلى سورية سرًّا ليعمل مع الجبهة الشعبيةلتحرير فلسطين، و لا أحد يعرف تواجده، و أثناء غيابه طلقته جميلة بوحيرد وعـاد إلىباريـس لممارسة مهنة المحاماة كعادته..، عندما سألها رئيس تحرير مجلة الحدث العربي و الدولي بأنها مهضومة الحق في بلادها الجزائر ، بينما في كثير من الدول العربية لا توجد مدينة أو مدرسة إلا و سميت باسمها ترد جميلة بوحيرد بالقول: "أنا ما زلت حيـّة.. للأسف و التكريم للشهداء"، و تنتقد جميلة بوحيرد بعض الأفلام التي أنجزت حولها و تصفها بالمتناقضة و الشيئ نفسه بالنسبة لفيلم (معركة الجزائر) للمنتج ياسين سعدي بقولها : (لم يحدث هكذا..).
ربما من يقرأ قصة هذه المرأة المناضلة و المجاهدة و تصريحاتها يؤمن أن ما قدمته هذه المرأة ليس بالهين و من العيب نكرانه و كما يقول المثل العربي: ( الأصيل يعترف بالجميل)، كما أن مواقف هذه المرأة لا يمكن أن يضعها يوما موقع "شفقة" مثلما روجت له بعض الصحف الإعلامية حتى لو كان ذلك صحيحا، لأن "المناضل و المجاهد الحقيقي دائما يتعفف و يترفع عن المطالبة بحقوقه"
المصدر/مجلة الحدث العربي و الدولي عدد 24 لسنة 2002
عدد خاص (حول الثورة الجزائرية: الجذور، التفاصيل، الأبطال و الآفاق التي لم تنغلق)