في تشخيص أحوال الأمة لا بد من الوقوف على الأسباب والعوامل
الداخلية المؤثرة في نهضتها وفي تقهقُرها، من أجل دراستها وبيان
نسب تأثيرها وآلية عملها، وهو ما تضمنه قول الله عز وجل: (قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)[آل عمران:165].
إن ما أصاب أمتنا من انكسار حضاري، وتخلُّف وتبعيَّة، وتراجع في
فاعلية المسلم، لم يكن بسبب عوامل خارجية بعيدة عن إرادتنا
وذاتيتنا، وذلك أن وراء كل ظاهرة خارجية عوامل داخلية تهيئ لها،
وتمنحها القابلية للوجود، وتحدد اتجاهاتها، وترسم أُطُر تفاعلاتها،
وهذا ما حدا بمفكر مسلم، هو مالك بن نبي أن يصف حال
المسلمين اليوم بـ"القابلية للاستعمار".
إن العامل الخارجي لا يكون ذا أثر ما لم يتمكن - من خلال الصراع مع
العوامل الداخلية - من إزاحة أحد هذه العوامل عن موقعه، أو أن يجد
بعض هذه العوامل وقد تعطل عن أداء دوره!
وهذا لا يجعلنا نغضُّ الطَّرْف عن أننا نعيش في عالم تنازُع البقاء، فكل
مصنع نقيمه في أرضنا يراه الآخرون منافسًا لمصنع عندهم، وكل
نبتة نزرعها ينظرون إليها على أنها خطوة على طريق التحرر من
هَيمنتهم، وكل سلعة نكفُّ عن شرائها من إنتاجهم، ستوجِدُ نوعًا
من الانحباس في أسواقهم..
والأهم من ذلك أن تمسكنا بأي شعيرة من شعائر ديننا، أو سُنَّة من
سُنن نبينا - صلى الله عليه وسلم - سيعدُّها الآخرون تحدِّيًا لهم،
ويصفونها بالرجعية والتخلف، وربما بالإرهاب!
وهذا ليس بعيدًا عن أصل الصراع القديم العميق الذي أشار إليه كتاب
الله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)
[البقرة:120].
إنهم لن يرضَوْا عن المسلم إلا أنْ يصبح جزءًا من رصيدهم، أو تابعًا
لملتهم، أو خادمًا لهم، فهم يتصيدون أيَّ موقف له ليصِفوه بالعدوانية
والإرهاب، إلا أن يستسلم لبَغْيهم.
إننا لا نستطيع أن نُقْنع الأعداء بالكفِّ عن أذانا، كما لا نستطيع منع
الثلوج من السقوط، ولكننا نستطيع أن نحصِّن أنفسنا من كيدهم،
كما نستطيع أن نمنع سقوط الثلوج فوق رؤوسنا!
إن أرقى أنواع الوعي هو الوعي بالذات، وإن أعظم أنواع الجهل هو
الجهل بها.