السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
يميل البشر إلى التصنيفات الجاهزة والأحكام العامة في وصف الأفراد
والجماعات والشعوب والأمم، ربما لأنّ هذه الطريقة تريحهم من عناء التحري
والتدقيق، وهي أقرب إلى الهوى الذي يميل إلى الحب بتطرف أو البغض بتطرف.
تصنيف الأفراد والجماعات بأنها كتلة من الخير أو كتلة من الشر، صديق أو
عدو، أبيض أو أسود أيسر على النفس من بذل جهد في التقييم الموضوعي القائم
على التوازن في رؤية الإيجابيات والسلبيات فلا يميل كل الميل في اتجاه دون
الآخر، لكن هذه الطريقة التعميمية مخالفة للواقع، فالواقع يقول إنّ الأمم
والأفراد ليسوا كتلةً مصمتةً من الخير أو الشر بل هم خليط من هذا وذاك،
حتى الشخص الواحد يتراوح في سلوكه بين حافتي الخير والشر فلا يثبت على
حالة واحدة..
المنهج القرآني لا يقر طريقة الأحكام التعميمية والقوالب الجاهزة التي
اعتاد الناس عليها، بل يؤسس لطريقة جديدة يجرد فيها الحق والباطل ويفصله
عن الأشخاص والأقوام والأمم، بينما يتذبذب الأفراد صعوداً وهبوطاً بين
أعلى درجة وأسفل دركة بحسب اقترابهم أو ابتعادهم من المعاني المجردة: "
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ " (آل
عمران/167)..
لا توجد أمة في القرآن التصقت بها صفة من الصفات حتى غدت سلوكاً إجبارياً
لا فكاك منه مثل الصفات الوراثية. صحيح أنه توجد حالات غلبت فيها صفة من
الصفات على أكثر أفراد الأمة لأسباب ثقافية واجتماعية لكن حتى في هذه
الحالة تظل هناك استثناءات يستدرك بها القرآن لينبه على ضرورة التحرر من
أسر التعميمات "منهم المؤمنون"، "إلا قليلاً منهم".
هذا
المنهج القرآني ينبهنا إلى الخطأ الذي نقع فيه حين نصف شعباً من الشعوب
أو أمةً من الأمم بأنهم سيئون كلهم، لا يوجد فيهم رجل صالح واحد، هذا
الشعب كله جبان، هذه القرية كل أفرادها بخلاء، هذه العائلة شريرة،....
القرآن يعلمنا منهجاً آخر وهو "ليسوا سواءً".
والمعاني التي يتحدث عنها القرآن سواءً كانت إيجابيةً مثل الإيمان
والتقوى والصلاح، أو سلبيةً مثل الكفر والشرك والنفاق هي معان مجردة
تتعالى عن الانحصار بثقافة دون غيرها بل تتوقف على الجهد الذاتي لكل إنسان
أياً كان جنسه وقومه، فلا توجد أمة من الأمم يصح أن توصف بأنها شعب الله
المختار ، أو أنهم أبناء الله وأحباؤه بحكم الوراثة الجينية، ولا توجد أمة
في المقابل مسجونة في سجن اسمه الكافرون لا تستطيع الفكاك منه، ليس كما
نسمع من يتحدث عن الغرب الكافر، وكأنه في المقابل يوجد الشرق المؤمن وأنّ
الفريق الأول سيدخل النار جملةً واحدةً بينما الفريق الآخر سيدخل الجنة
جملةً واحدةً.
حتى حين يصف القرآن أمة محمد بأنها خير أمة أخرجت للناس فإنه ينبه إلى
أنها خيرية مشروطة بالعمل لا بالوراثة، فهذه الخيرية مردها إلى الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فإن لم تأمر هذه الأمة
بالمعروف ولم تنه عن المنكر ولم تؤمن بالله لم تعد خير أمة أخرجت للناس..
القرآن ينسف القوالب الجاهزة ويترك الإنسان في تماس مباشر مع المعاني
الحية ليقرر الإنسان بنفسه أي قالب يختاره بجهده دون تصنيفات وأحكام
مسبقة..
يتضح هذا في كلمة "مسلم" والفرق بين استعمالنا لها واستعمال القرآن لها،
فنحن نتعامل مع كلمة مسلم وإسلام كقالب جاهز يدخل فيه المرء منذ ولادته
بحكم البيئة التي قدر له أن ينشأ فيها، فإن صدف أن ولد شخص في عائلة
أفرادها مسلمون وسمي بمحمد أو أحمد كان مسلماً حتى وإن اقترف كل الموبقات
والآثام، بل حتى إن لم يقم شيئاً من أركان الإسلام، وهكذا تقودنا عقلية
القوالب الجاهزة التي تحكمنا إلى القبول بتناقض مريع بين أن يكون شخص
مسلماً وفي ذات الوقت لا يفعل أي فعل من مقتضيات الإسلام.
يتعامل المسلمون مع كلمة مسلم تعاملاً استاتيكياً ساكناً فتصبح هذه
الكلمة وكأنها ميزة قومية، أو شهادة انتساب تمنح لطائفة من الناس بمجرد
أنهم ولدوا في منطقة جغرافية معينة، ولا تنزع منهم مهما كان سلوكهم
مخالفاً لدين الإسلام.
لكن القرآن يستعمل هذه الكلمة بطريقة مختلفة، فهي تأتي في القرآن فعلاً وليس اسماً، والفعل يفيد الحركة.
يقول الله عز وجل مثلاً: " بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ " (البقرة/112)، وكلمة الإسلام
ذاتها مشتقة من فعل "أسلم إسلاماً" فهي تعني التسليم والاستسلام لله،
وليست علماً كما هو شائع في استعمالنا، لذلك كان الإسلام هو دين الأنبياء
جميعاً مع أنّ شرائعهم مختلفة، ولكن ما يجمعهم أنهم كانوا جميعاً خاضعين
لحكم الله مستسلمين له وهذا هو الإسلام..
هذا التناول القرآني لكلمة إسلام يخرجه من حالة السكون والسلبية إلى حالة
الحركة والفعل، فالإسلام ليس إطاراً قومياً مغلقاً بل هو معان إنسانية
يملك أي إنسان في العالم أن يكتسبها بجهده الذاتي، وحتى يحافظ عليها لا بد
أن يواصل الجهد والعمل دائباً مدى الحياة فإذا تقاعس وتكاسل لم يعد
مسلماً: " وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " (آل عمران/102).
غياب هذه الرؤية عن "مسلمي اليوم" أوجد خللاً فادحاً، فهو قد وضع البشر
في قوالب جامدة من التصنيفات، فهناك المسلمون بحكم الانتساب وهؤلاء يمكن
لأحدهم أن يقترف كل الآثام والموبقات، وربما يصل إلى حالة الكفر القلبي
لأنّ هذه هي النتيجة النهائية لاتباع الهوى حتى لو ظل يشهد بلسانه أنه لا
إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فهو يرددها كجزء من تقاليد المجتمع
وطقوسه، ومع ذلك يظل تصنيفه الاجتماعي مسلماً..
وبهذا يصير تصنيف الناس إلى مسلم وكافر أقرب إلى الجبرية التي يمليها على
الإنسان مكان ولادته وظروف نشأته الاجتماعية التي لم يكن له يد في
تحديدها، ولا يظل هناك أي قيمة للسعي وبذل الجهد في موازين مفاضلة الناس
عند الله وحاش لله أن يكون كذلك..
لنرجع إلى القرآن ونتدبر في آياته لنفهم كيف يتعامل مع قضية الكفر
والإيمان، وهل يتناولها كما نفعل في ثقافتنا كتصنيفات جاهزة للناس بين
مسلم بحكم ولادته وكافر بحكم ولادته؟
مما يلفت النظر في القرآن الكريم الالتصاق الوثيق بين الإيمان والسلوك
العملي، فالقرآن لا يقر بحدود فاصلة بين العمل والإيمان، هذا بخلاف ما
نقبله من تناقض في ثقافتنا الشائعة.
في القرآن فإنّ الإيمان يجب أن ينتج عملاً بالضرورة، والعمل مؤشر على ما
في القلب من معتقدات، وغالباً ما تقترن صفة الإيمان بالعمل الصالح
"آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.." (النساء/57).
كثيراً ما يربط القرآن بين الكفر وبين السلوك الاجتماعي، وفائدة هذا
الربط أنه يبرز المعنى العملي للإيمان، ففي سورة الحاقة مثلاً يتحدث
القرآن عن صفات أهل الجحيم فيقول: "إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
الْعَظِيمِ *وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ " (الحاقة/33-34)،
هكذا يجعل غياب التكافل الاجتماعي في نفس منزلة الكفر بالله، لأنّ من كان
مؤمناً بالله العظيم بحق فإنه لا بد أن يحض على طعام المسكين.
وفي سورة الماعون كذلك: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ " (الماعون/1-3) ، وفي سورة المطففين: "وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ *أَلا
يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ " (المطففين/1-4).
في قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف نستفيد معنىً عميقاً وهو أنّ الهوية
الإسلامية بالوراثة "تصنيف مسلم" لا تحصن صاحبها من الوصول إلى حالة الكفر
إذا كان سلوكه الاجتماعي وميوله القلبية مخالفةً لما تتطلبه حالة الإسلام
من جهد وجهاد.
يقول الله تعالى:
"وَدَخَلَ
جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا *قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا " (الكهف/35-37)
لاحظوا في هذا المشهد أنّ صاحب الجنتين كان عنده أثر من إيمان ربما يشبه
الإيمان الوراثي، يظهر هذا في قوله "وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا "، كما تدل محاورة صاحبه له بأنّ
الكفر جاء مستحدثاً ولم يكن صفةً ملازمةً له قبل ذلك "أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ "، ويدل ندم الرجل بعد ذلك أيضاً على وجود بقية للإيمان
"وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا " (الكهف/42).
لكن الذي قاد هذا الرجل إلى حالة الكفر هو هواه وغروره، فمبدأ انحرافه
كان الإعجاب بجنته، فإذا أعجب إنسان بالنعيم وركن إليه تمنى لو توقف الزمن
عند تلك اللحظة حتى يخلد في ذلك النعيم، وهذه حالة نفسية تصيب كل البشر
بغض النظر عن تصنيفاتهم الأيديولوجية، لذلك قال الرجل في غمرة إعجابه
بجنته: "قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا " (الكهف/35)،
ولأنّ الاعتبارات الذاتية تتقدم على الاعتبارات الموضوعية فإنّ الإنسان
يلجأ إلى إلباس هواه لباس الحقائق العلمية، فتقدم الرجل خطوةً أخرى نحو
الكفر بالتشكيك فيما كان يعلم أنه حق لأنه لا يريد أن يخرج من حالة تلذذه
بالنعيم بتذكر منغصات الحساب "وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً "
(الكهف/36)، مع بقاء أثر الإيمان ممزوجاً بالهوى "وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى
رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا " (الكهف/36).
في هذه القصة يتضح أنّ الميول القلبية التي يتشارك فيها كل البشر هي التي
أوصلت صاحب الجنتين إلى حالة الكفر، وهذه الأمراض التي اعترته من إعجاب
وغرور واتباع للهوى متغلغلة في نفوس المسلمين مثل غيرهم إلا من رحم ربك،
مما يعني أنه لا حصانة لأحدهم من الوصول إلى ما وصل إليه صاحب الجنتين إن
لم ينقذ إسلامه بالجهد والجهاد الدائبين..
في استعراض القرآن لقصص الأنبياء، والعذاب الذي نزل بأقوامهم يبرز الجانب
السلوكي بقوة، فمحور دعوة شعيب (عليه السلام) كان الدعوة إلى الأمانة في
المعاملات التجارية "أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ *وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ *وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ "
(الشعراء/181-183)، ومحور دعوة لوط (عليه السلام) كان محاربة الفاحشة، وحين
يتحدث القرآن عن إهلاك قوم لوط يرجعه إلى عمل، وليس إلى معتقد مع أنّ
الأمرين متلازمان "وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ " (الأنبياء/74)
إنّ هذا الارتباط الوثيق بين الإيمان والسلوك العملي في القرآن يؤكد على
أنّ الإيمان أو الإسلام ليس ادعاءً نظرياً أو انتساباً قومياً، وأنّ مجرد
ادعاء الإسلام أو النشأة في بيئة مسلمة لا يعطي صاحبها حصانةً ما لم يتبعه
باستقامة قلبية وسلوك عملي يؤكده، وقد عرف العلماء الإيمان بأنه ما وقر
في القلب وصدقه العمل، فإن ركن المسلمون إلى إسلامهم الوراثي وأخذوا بمبدأ
بني إسرائيل "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ " (المائدة/18)،
أو أساءوا فهم "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (آل
عمران/110) فظنوا أنها تحميهم من العقاب الإلهي الذي يطال المقصرين، لم
يعفهم ذلك من أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم لأنّ الله لا يحابي أحداً من
خلقه، بل يحاسب كل الخلق وفق معيار واحد حسب أعمالهم "وَأَنْ لَيْسَ
لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى " (النجم/39)، "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا
أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ "
(النساء/123).
إنّ صورة الإيمان السلبي المنفك عن العمل والجهد لا وجود لها سوى في
التصورات المنحرفة، أما في الحقيقة فإنّ الإيمان بدون عمل هو إدعاء كاذب.
لقد أهلك الله أقواماً سابقين بسوء عملهم، وحين نقترف نفس الأفعال التي
اقترفوها فإنّ العدالة الإلهية تقتضي أن يعاملنا كما عاملهم لأنّ نفس
المقدمات تقود إلى نفس النتائج ما دامت القوانين ثابتة، وسنة الله لا تتغير
ولا تتحول "فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا " (فاطر/43)، لذلك فلنحذر ولنتحرر من حالة
الانفصام بين الإيمان القلبي والسلوك العملي..
يميل البشر إلى التصنيفات الجاهزة والأحكام العامة في وصف الأفراد
والجماعات والشعوب والأمم، ربما لأنّ هذه الطريقة تريحهم من عناء التحري
والتدقيق، وهي أقرب إلى الهوى الذي يميل إلى الحب بتطرف أو البغض بتطرف.
تصنيف الأفراد والجماعات بأنها كتلة من الخير أو كتلة من الشر، صديق أو
عدو، أبيض أو أسود أيسر على النفس من بذل جهد في التقييم الموضوعي القائم
على التوازن في رؤية الإيجابيات والسلبيات فلا يميل كل الميل في اتجاه دون
الآخر، لكن هذه الطريقة التعميمية مخالفة للواقع، فالواقع يقول إنّ الأمم
والأفراد ليسوا كتلةً مصمتةً من الخير أو الشر بل هم خليط من هذا وذاك،
حتى الشخص الواحد يتراوح في سلوكه بين حافتي الخير والشر فلا يثبت على
حالة واحدة..
المنهج القرآني لا يقر طريقة الأحكام التعميمية والقوالب الجاهزة التي
اعتاد الناس عليها، بل يؤسس لطريقة جديدة يجرد فيها الحق والباطل ويفصله
عن الأشخاص والأقوام والأمم، بينما يتذبذب الأفراد صعوداً وهبوطاً بين
أعلى درجة وأسفل دركة بحسب اقترابهم أو ابتعادهم من المعاني المجردة: "
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ " (آل
عمران/167)..
لا توجد أمة في القرآن التصقت بها صفة من الصفات حتى غدت سلوكاً إجبارياً
لا فكاك منه مثل الصفات الوراثية. صحيح أنه توجد حالات غلبت فيها صفة من
الصفات على أكثر أفراد الأمة لأسباب ثقافية واجتماعية لكن حتى في هذه
الحالة تظل هناك استثناءات يستدرك بها القرآن لينبه على ضرورة التحرر من
أسر التعميمات "منهم المؤمنون"، "إلا قليلاً منهم".
هذا
المنهج القرآني ينبهنا إلى الخطأ الذي نقع فيه حين نصف شعباً من الشعوب
أو أمةً من الأمم بأنهم سيئون كلهم، لا يوجد فيهم رجل صالح واحد، هذا
الشعب كله جبان، هذه القرية كل أفرادها بخلاء، هذه العائلة شريرة،....
القرآن يعلمنا منهجاً آخر وهو "ليسوا سواءً".
والمعاني التي يتحدث عنها القرآن سواءً كانت إيجابيةً مثل الإيمان
والتقوى والصلاح، أو سلبيةً مثل الكفر والشرك والنفاق هي معان مجردة
تتعالى عن الانحصار بثقافة دون غيرها بل تتوقف على الجهد الذاتي لكل إنسان
أياً كان جنسه وقومه، فلا توجد أمة من الأمم يصح أن توصف بأنها شعب الله
المختار ، أو أنهم أبناء الله وأحباؤه بحكم الوراثة الجينية، ولا توجد أمة
في المقابل مسجونة في سجن اسمه الكافرون لا تستطيع الفكاك منه، ليس كما
نسمع من يتحدث عن الغرب الكافر، وكأنه في المقابل يوجد الشرق المؤمن وأنّ
الفريق الأول سيدخل النار جملةً واحدةً بينما الفريق الآخر سيدخل الجنة
جملةً واحدةً.
حتى حين يصف القرآن أمة محمد بأنها خير أمة أخرجت للناس فإنه ينبه إلى
أنها خيرية مشروطة بالعمل لا بالوراثة، فهذه الخيرية مردها إلى الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فإن لم تأمر هذه الأمة
بالمعروف ولم تنه عن المنكر ولم تؤمن بالله لم تعد خير أمة أخرجت للناس..
القرآن ينسف القوالب الجاهزة ويترك الإنسان في تماس مباشر مع المعاني
الحية ليقرر الإنسان بنفسه أي قالب يختاره بجهده دون تصنيفات وأحكام
مسبقة..
يتضح هذا في كلمة "مسلم" والفرق بين استعمالنا لها واستعمال القرآن لها،
فنحن نتعامل مع كلمة مسلم وإسلام كقالب جاهز يدخل فيه المرء منذ ولادته
بحكم البيئة التي قدر له أن ينشأ فيها، فإن صدف أن ولد شخص في عائلة
أفرادها مسلمون وسمي بمحمد أو أحمد كان مسلماً حتى وإن اقترف كل الموبقات
والآثام، بل حتى إن لم يقم شيئاً من أركان الإسلام، وهكذا تقودنا عقلية
القوالب الجاهزة التي تحكمنا إلى القبول بتناقض مريع بين أن يكون شخص
مسلماً وفي ذات الوقت لا يفعل أي فعل من مقتضيات الإسلام.
يتعامل المسلمون مع كلمة مسلم تعاملاً استاتيكياً ساكناً فتصبح هذه
الكلمة وكأنها ميزة قومية، أو شهادة انتساب تمنح لطائفة من الناس بمجرد
أنهم ولدوا في منطقة جغرافية معينة، ولا تنزع منهم مهما كان سلوكهم
مخالفاً لدين الإسلام.
لكن القرآن يستعمل هذه الكلمة بطريقة مختلفة، فهي تأتي في القرآن فعلاً وليس اسماً، والفعل يفيد الحركة.
يقول الله عز وجل مثلاً: " بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ " (البقرة/112)، وكلمة الإسلام
ذاتها مشتقة من فعل "أسلم إسلاماً" فهي تعني التسليم والاستسلام لله،
وليست علماً كما هو شائع في استعمالنا، لذلك كان الإسلام هو دين الأنبياء
جميعاً مع أنّ شرائعهم مختلفة، ولكن ما يجمعهم أنهم كانوا جميعاً خاضعين
لحكم الله مستسلمين له وهذا هو الإسلام..
هذا التناول القرآني لكلمة إسلام يخرجه من حالة السكون والسلبية إلى حالة
الحركة والفعل، فالإسلام ليس إطاراً قومياً مغلقاً بل هو معان إنسانية
يملك أي إنسان في العالم أن يكتسبها بجهده الذاتي، وحتى يحافظ عليها لا بد
أن يواصل الجهد والعمل دائباً مدى الحياة فإذا تقاعس وتكاسل لم يعد
مسلماً: " وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " (آل عمران/102).
غياب هذه الرؤية عن "مسلمي اليوم" أوجد خللاً فادحاً، فهو قد وضع البشر
في قوالب جامدة من التصنيفات، فهناك المسلمون بحكم الانتساب وهؤلاء يمكن
لأحدهم أن يقترف كل الآثام والموبقات، وربما يصل إلى حالة الكفر القلبي
لأنّ هذه هي النتيجة النهائية لاتباع الهوى حتى لو ظل يشهد بلسانه أنه لا
إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فهو يرددها كجزء من تقاليد المجتمع
وطقوسه، ومع ذلك يظل تصنيفه الاجتماعي مسلماً..
وبهذا يصير تصنيف الناس إلى مسلم وكافر أقرب إلى الجبرية التي يمليها على
الإنسان مكان ولادته وظروف نشأته الاجتماعية التي لم يكن له يد في
تحديدها، ولا يظل هناك أي قيمة للسعي وبذل الجهد في موازين مفاضلة الناس
عند الله وحاش لله أن يكون كذلك..
لنرجع إلى القرآن ونتدبر في آياته لنفهم كيف يتعامل مع قضية الكفر
والإيمان، وهل يتناولها كما نفعل في ثقافتنا كتصنيفات جاهزة للناس بين
مسلم بحكم ولادته وكافر بحكم ولادته؟
مما يلفت النظر في القرآن الكريم الالتصاق الوثيق بين الإيمان والسلوك
العملي، فالقرآن لا يقر بحدود فاصلة بين العمل والإيمان، هذا بخلاف ما
نقبله من تناقض في ثقافتنا الشائعة.
في القرآن فإنّ الإيمان يجب أن ينتج عملاً بالضرورة، والعمل مؤشر على ما
في القلب من معتقدات، وغالباً ما تقترن صفة الإيمان بالعمل الصالح
"آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.." (النساء/57).
كثيراً ما يربط القرآن بين الكفر وبين السلوك الاجتماعي، وفائدة هذا
الربط أنه يبرز المعنى العملي للإيمان، ففي سورة الحاقة مثلاً يتحدث
القرآن عن صفات أهل الجحيم فيقول: "إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
الْعَظِيمِ *وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ " (الحاقة/33-34)،
هكذا يجعل غياب التكافل الاجتماعي في نفس منزلة الكفر بالله، لأنّ من كان
مؤمناً بالله العظيم بحق فإنه لا بد أن يحض على طعام المسكين.
وفي سورة الماعون كذلك: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ " (الماعون/1-3) ، وفي سورة المطففين: "وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ *أَلا
يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ " (المطففين/1-4).
في قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف نستفيد معنىً عميقاً وهو أنّ الهوية
الإسلامية بالوراثة "تصنيف مسلم" لا تحصن صاحبها من الوصول إلى حالة الكفر
إذا كان سلوكه الاجتماعي وميوله القلبية مخالفةً لما تتطلبه حالة الإسلام
من جهد وجهاد.
يقول الله تعالى:
"وَدَخَلَ
جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا *قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا " (الكهف/35-37)
لاحظوا في هذا المشهد أنّ صاحب الجنتين كان عنده أثر من إيمان ربما يشبه
الإيمان الوراثي، يظهر هذا في قوله "وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا "، كما تدل محاورة صاحبه له بأنّ
الكفر جاء مستحدثاً ولم يكن صفةً ملازمةً له قبل ذلك "أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ "، ويدل ندم الرجل بعد ذلك أيضاً على وجود بقية للإيمان
"وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا " (الكهف/42).
لكن الذي قاد هذا الرجل إلى حالة الكفر هو هواه وغروره، فمبدأ انحرافه
كان الإعجاب بجنته، فإذا أعجب إنسان بالنعيم وركن إليه تمنى لو توقف الزمن
عند تلك اللحظة حتى يخلد في ذلك النعيم، وهذه حالة نفسية تصيب كل البشر
بغض النظر عن تصنيفاتهم الأيديولوجية، لذلك قال الرجل في غمرة إعجابه
بجنته: "قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا " (الكهف/35)،
ولأنّ الاعتبارات الذاتية تتقدم على الاعتبارات الموضوعية فإنّ الإنسان
يلجأ إلى إلباس هواه لباس الحقائق العلمية، فتقدم الرجل خطوةً أخرى نحو
الكفر بالتشكيك فيما كان يعلم أنه حق لأنه لا يريد أن يخرج من حالة تلذذه
بالنعيم بتذكر منغصات الحساب "وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً "
(الكهف/36)، مع بقاء أثر الإيمان ممزوجاً بالهوى "وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى
رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا " (الكهف/36).
في هذه القصة يتضح أنّ الميول القلبية التي يتشارك فيها كل البشر هي التي
أوصلت صاحب الجنتين إلى حالة الكفر، وهذه الأمراض التي اعترته من إعجاب
وغرور واتباع للهوى متغلغلة في نفوس المسلمين مثل غيرهم إلا من رحم ربك،
مما يعني أنه لا حصانة لأحدهم من الوصول إلى ما وصل إليه صاحب الجنتين إن
لم ينقذ إسلامه بالجهد والجهاد الدائبين..
في استعراض القرآن لقصص الأنبياء، والعذاب الذي نزل بأقوامهم يبرز الجانب
السلوكي بقوة، فمحور دعوة شعيب (عليه السلام) كان الدعوة إلى الأمانة في
المعاملات التجارية "أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ *وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ *وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ "
(الشعراء/181-183)، ومحور دعوة لوط (عليه السلام) كان محاربة الفاحشة، وحين
يتحدث القرآن عن إهلاك قوم لوط يرجعه إلى عمل، وليس إلى معتقد مع أنّ
الأمرين متلازمان "وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ " (الأنبياء/74)
إنّ هذا الارتباط الوثيق بين الإيمان والسلوك العملي في القرآن يؤكد على
أنّ الإيمان أو الإسلام ليس ادعاءً نظرياً أو انتساباً قومياً، وأنّ مجرد
ادعاء الإسلام أو النشأة في بيئة مسلمة لا يعطي صاحبها حصانةً ما لم يتبعه
باستقامة قلبية وسلوك عملي يؤكده، وقد عرف العلماء الإيمان بأنه ما وقر
في القلب وصدقه العمل، فإن ركن المسلمون إلى إسلامهم الوراثي وأخذوا بمبدأ
بني إسرائيل "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ " (المائدة/18)،
أو أساءوا فهم "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (آل
عمران/110) فظنوا أنها تحميهم من العقاب الإلهي الذي يطال المقصرين، لم
يعفهم ذلك من أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم لأنّ الله لا يحابي أحداً من
خلقه، بل يحاسب كل الخلق وفق معيار واحد حسب أعمالهم "وَأَنْ لَيْسَ
لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى " (النجم/39)، "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا
أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ "
(النساء/123).
إنّ صورة الإيمان السلبي المنفك عن العمل والجهد لا وجود لها سوى في
التصورات المنحرفة، أما في الحقيقة فإنّ الإيمان بدون عمل هو إدعاء كاذب.
لقد أهلك الله أقواماً سابقين بسوء عملهم، وحين نقترف نفس الأفعال التي
اقترفوها فإنّ العدالة الإلهية تقتضي أن يعاملنا كما عاملهم لأنّ نفس
المقدمات تقود إلى نفس النتائج ما دامت القوانين ثابتة، وسنة الله لا تتغير
ولا تتحول "فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا " (فاطر/43)، لذلك فلنحذر ولنتحرر من حالة
الانفصام بين الإيمان القلبي والسلوك العملي..