حكم نقل الأعضاء وبيعها في ضوء الشريعة الإسلامية
الدكتور محمد محمود كالو
يتردد الحديث بكثرة في موضوع نقل الأعضاء وحكم الشرع في بيعها، أولاً : ما هو مفهوم نقل الأعضاء ؟
المراد بنقل الأعضاء : هو عملية جراحية لاستئصال عضو تالف من جسم انسان ووضع عضو سليم مكانه سواء أكان الشخص الذي اخذ منه العضو السليم هو المريض نفسه ام انسانا آخر.
وغاية هذا البحث هي التوصل إلى معرفة الحكم الشرعي للبيع الذي يرد على عضو من أعضاء الإنسان .
وشروط البيع كثيرة وليس هنا مجال البحث في هذه الشروط ، فإن جميع هذه الشروط يمكن تحققها في بيع الأعضاء الآدمية بلا خلاف ، غير أن الشرط الذي ينبغي أن يدور معظم البحث حوله ، هو ما اشترطه الفقهاء في المعقود عليه (المبيع) من أن يكون مالاً متقوماً .
وعرف صاحب الدر البيع بقوله ( البيع هو مبادلة شيء مرغوب فيه بمثله ) ، وفسره ابن عابدين : بأن الشيء المرغوب فيه هو ما من شأنه أن ترغب إليه النفس وهو المال .
ومن تعريفاتهم للمال قول بعضهم :
( هو ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة )
والمال عند الفقهاء كل شيء منتفع به حقيقة ، ومباح الانتفاع به شرعاً في غير حالات الضرورة ، فلا يسمى مالاً ما ليس فيه نفع للإنسان ولا يسمى مالاً ما فيه نفع حرمه الشارع ، وإن أباحه في حالة الضرورة .
(يقول القليوبي ) :
ولا يخفى أن نفع كل شيء بحسبه ، فنفع العلق بامتصاص الدم ، ونفع الطاووس بالاستمتاع برؤية لونه ونفع العندليب باستماع صوته ، ونفع الهرة بصيد الفأر ، والقرد بالتعليم).
وبعضهم اشترط في المبيع أن يكون شيئاً طاهراً منتفعاً به انتفاعاً شرعياً حالاً أو مآلاً.
ولقد أجمع الفقهاء على حرمة بيع الإنسان الحر وبطلانه ، ولم يعتبروه مالاً لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله عز وجل : ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حراً وأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره ) رواه البخاري.
وأما أجزاء الآدمي : فقد أجمع الفقهاء على أنها ليست بمال من حيث الأصل ، ولا يصح أن تكون محلاً للبيع ، ولم يختلفوا إلا في لبن المرأة إذا حلب ، فأجاز جمهورهم بيعه ومنهم الحنفية .
سبب اختلاف الفقهاء في بيع أجزاء الإنسان :
1 ـ ذهب فقهاء الحنفية إلى أن علة تحريم بيع أجزاء الآدمي يرجع إلى معنى التكريم الذي خص الله تعالى به الإنسان ، وقاسوا كل جزء من أجزائه علـى ذاته
قال المرغيناني في العناية شرح الهداية ( البيع الفاسد ) :
( ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها ، لأن الآدمي مكرم لا مبتذل ، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً ومبتذلاً ).
2 ـ وذهب جمهور الفقهاء إلى أن علة تحريم بيع الأعضاء الآدمية هي عدم الانتفاع بها بأسلوب يبيحه الشرع ؛ فلا يمكن اعتبارها مالاً .
ولما وجدوا جزءا من الآدمي يمكن الانتفاع به إذا فصل عن صاحبه في وجه من الوجوه المباحة ، قالوا بجواز بيعه ، خلافاً للحنفية ، ألا وهو لبن الآدمية إذا جلب منها ، فقد أجاز بيعه المالكية والشافعية والحنابلة في القول الراجح عندهم : وحجتهم أنه طاهر ومنتفع به ، وقد أباح الشارع شريه لغير ضرورة.
قال ابن قدامة المقدسي :
( فصل :
فأما بيع لبن الآدميات ، فقال أحمد : أكرهه ، واختلف أصحابنا في جوازه ، فظاهر كلام الخرقي جوازه ؛ لقوله : " وكل ما فيه المنفعة " ، وهذا قول ابن حامد ، ومذهب الشافعي ، وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ؛ لأنه مائع خارج من آدمية ، فلم يجز بيعه ، كالعرق ، ولأنه من آدمي ، فأشبه سائر أجزائه .
والأول أصح ؛ لأنه لبن طاهر منتفع به ، فجاز بيعه ، كلبن الشاه ، ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر فأشبه المنافع ، ويفارق العرق ، فإنه لا نفع فيه ، ولذلك لا يباع عرق الشاة ، ويباع لبنها .
وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها ، فإنه يجوز بيع العبد ، والأمة ، وإنما حرم بيع الحر ؛ لأنه ليس بمملوك ، وحرم بيع العضو المقطوع ؛ لأنه لا نفع فيه ) .اهـ
إن الانتفاع بأحد أجزاء الآدمي بمثل الوظيفة التي خلقها الله لها ، بحيث يمكن نقلها لتكون في خدمة نفس جديدة غير النفس التي خلقت لخدمتها ، وليكون ذلك سبباً في إنقاذ هذه النفس الجديدة من الهلاك، إن مثل هذا الأسلوب في الانتفاع بالأعضاء الآدمية لم يكن وارداً في حسبان علمائنا القدامى ، ولو تخيلوه لافترضوا وقوعه ، ولأدلوا بدلوهم في استنباط حكمه.
وجملة ما تعرضوا للبحث في حكم بيعه من أجزاء الإنسان شعره وعظمه وجلده ، ولبن المرأة.
فأما شعره : فمع تصورهم لإمكان الاستفادة منه في التزين ، إلا أنهم نصوا على حرمة بيعه ، لورود نص شرعي خاص يمنع من ذلك ، وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام ( لعن الله الواصلة والمستوصلة) متفق عليه.
أما عظمه وجلده : فقد أجمعوا على تحريم بيعهما لعدم إمكان الانتفاع بهما إلا بأساليب تتعارض مع ما جعل لابن آدم من التكريم والاحترام.
وأما لبن المرأة : فقد تقدم أن جمهور الفقهاء أجازوا بيعه ؛ لأنه طاهر منتفع به ولم يروا في ذلك أي تعارض مع الكرامة الإنسانية .
أما اليوم فتشهد البشرية والعالم بأجمعه تقدماً سريعاً ومطّرداً ، فقد نجح الإنسان في الواقع العملي فأجرى عمليات نقل الأعضاء وزرعها وأنقذ كثيراً من الناس من هلاك محقق .
هذا الأمر يلقى بتبعة كبيرة على علماء الفقه والشريعة الإسلامية بأن يخرجوا للناس بفقه معاصر يلبي هذه الاحتياجات، يتماشى مع العصر والواقع.
من فضل الله تبارك وتعالى علينا أنه مَنَّ علينا بدين عظيم، وبشريعة رحبة، تتسع لكل زمان ولكل مكان، هذه الشريعة بمقاصدها ومبادئها وقواعدها وأحكامها فيها الحل لكل مشكلة والعلاج لكل داء، من صيدلية الإسلام نفسها، ومن فضائل هذه الشريعة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنها لم تنص على الأشياء في كثير من الأحيان بنصوص جزئية تفصيلية، إنما نصت أو جاءت بنصوص كلية وقواعد عامة.
ومن ناحية أخرى حتى الأمور التي فيها نصوص تفصيلية تتسع لأكثر من فهم وأكثر من تفسير.
ومن ناحية ثالثة فهي راعت الظروف الطارئة والضرورات العارضة للإنسان وقدرت لها قدرها .
ومن ناحية رابعة فقد قرر علماؤها أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، من أجل هذا لم تضق الشريعة بأي حادثة من الحوادث في أي بلد دخلت فيها.
حالات زراعة الأعضاء :إن لعمليات زراعة الأعضاء صورتان:
الصورة الأولى: أن ينقل الشخص عضواً أو جزءاً منه من مكان من جسمه إلى مكان آخر منه، والنقل في هذه الصورة جائز بقيود:
أن تكون هنالك حاجة ماسة ولا خطر على الحياة خلال نزع العضو أو تركيبه ، ويغلب على الظن نجاح زراعة الأعضاء هذه.
الصورة الثانية: أن ينقل العضو من شخص إلى آخر، ولها حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الشخص الذي أخذ منه العضو ميتاً ، فلا يجوز نقل الأعضاء أو التصرف في جسد من قيل إنه مات موتاً دماغياً، ما لم ينقطع نفسه، ويتوقف قلبه، وتظهر عليه علامات الوفاة الشرعية ، وجواز النقل هنا مقيد بغلبة الظن على نجاح العملية، وأن يوصي الميت بذلك أو يأذن الورثة في نقل العضو المراد زراعته.
الحالة الثانية: أن يتبرع الإنسان الحي - بغير عوض - بعضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك وهذا جائز، بشرط غلبة الظن بنجاح عملية الزرع وعدم حصول ضرر على الشخص المنقول منه العضو، لأنه في ذلك كله إنقاذ معصوم وإزالة ضرر واقع، وهذه من المقاصد الشرعية ، وليس له أن يتبرع بعضو تتوقف عليه الحياة كالقلب، أو عضو يترتب على فقدانه زوال وظيفة أساسية في حياته كنقل قرنية العين، ومن القواعد: أن الضرر لا يزال بمثله.
ولْينوِ المسلم بذلك التبرع الإحسان لأخيه، وتنفيس الكرب عنه، وابتغاء الثواب بذلك من الله تعالى، وإذا جاءه بعد ذلك شيء من المال مكافأة من غير تطلع نفسه إليه، فلا حرج عليه في أخذه.
ويشترط في المتبرع أن يكون أهلاً للتبرع، وذلك ببلوغه ورشده.
والتبرع بما ذكر في الحالتين مشروط بأن يكون المتبرَّع له معصوم الدم ، أي أن يكون مسلماً أو ذمياً، بخلاف الكافر المحارب.
والمريض إذا اضطر إلى زرع كلية ولم يجدها إلا بدفع عوض عنها جاز له ذلك، ولا إثم عليه هو، لقوله تعالى:
( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه ) الأنعام: ١١٩ .
ولا يجوز نقل الأعضاء التناسلية كالخصيتين أو المبيضين من إنسان إلى آخر، كما قرره أهل الاختصاص من أن ذلك يوجب انتقال الصفات الوراثية الموجودة في الشخص المتبرع إلى أبناء الشخص المنقولة إليه الخصية، كما يوجب انتقال الحيوانات المنوية المتبقية في خصية المتبرع إلى المتلقي.
يعترض بعضهم بأن الإنسان لا يجوز له أن يتبرع بأعضائه لأنها ليست ملكاً له، ويرد على هذا بأن كل ما في الكون ملك لله عز وجل قال الله تعالى :
( لله ما في السموات وما في الأرض ) البقرة: ٢٨٤
فالمال لا يملكه الإنسان في الحقيقة، الله هو منشئ المال وخالق المال والمال ماله قال الله تعالى :
( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) الحديد: ٧
ومع هذا ربنا جل جلاله مكن الإنسان عن طريق الملكية الشرعية من التصرف في المال والجسد كالمال.
كما اعترض بعضهم بأنه يشترط أن يكون الشخص المنقول منه العضو مسلماً ، وللرد على ذلك أيضاً :
الأعضاء في الإنسان لا تسلم ولا تكفر ، كل أعضاء الإنسان مسلمة، لأن الأعضاء داخل الإنسان هي مسبحة لله تسبح بحمد الله يعني داخلة في دائرة السنن الإلهية في السجود والتسبيح وهذه الأشياء، فالإنسان يجوز أن يأخذ من غير المسلم ويجوز أن يعطي أيضاً غير المسلم، كما يجوز الصدقة على غير المسلم، فقد ذكر القرآن :
( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) الإنسان: ٨
في وصف الأبرار، والأسير كان من الوثنيين المشركين في ذلك الوقت ، ومع هذا مدح الله الذين يطعمون الطعام على حبه، فهو يحب الطعام ومحتاج إليه، يطعم الأسير ويقول :
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً ) الإنسان: ٩
والنبي عليه الصلاة والسلام وبعض الصحابة كانوا يتصدقون على أقاربهم المشركين
مصدر الموضوع
الدكتور محمد محمود كالو
يتردد الحديث بكثرة في موضوع نقل الأعضاء وحكم الشرع في بيعها، أولاً : ما هو مفهوم نقل الأعضاء ؟
المراد بنقل الأعضاء : هو عملية جراحية لاستئصال عضو تالف من جسم انسان ووضع عضو سليم مكانه سواء أكان الشخص الذي اخذ منه العضو السليم هو المريض نفسه ام انسانا آخر.
وغاية هذا البحث هي التوصل إلى معرفة الحكم الشرعي للبيع الذي يرد على عضو من أعضاء الإنسان .
وشروط البيع كثيرة وليس هنا مجال البحث في هذه الشروط ، فإن جميع هذه الشروط يمكن تحققها في بيع الأعضاء الآدمية بلا خلاف ، غير أن الشرط الذي ينبغي أن يدور معظم البحث حوله ، هو ما اشترطه الفقهاء في المعقود عليه (المبيع) من أن يكون مالاً متقوماً .
وعرف صاحب الدر البيع بقوله ( البيع هو مبادلة شيء مرغوب فيه بمثله ) ، وفسره ابن عابدين : بأن الشيء المرغوب فيه هو ما من شأنه أن ترغب إليه النفس وهو المال .
ومن تعريفاتهم للمال قول بعضهم :
( هو ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة )
والمال عند الفقهاء كل شيء منتفع به حقيقة ، ومباح الانتفاع به شرعاً في غير حالات الضرورة ، فلا يسمى مالاً ما ليس فيه نفع للإنسان ولا يسمى مالاً ما فيه نفع حرمه الشارع ، وإن أباحه في حالة الضرورة .
(يقول القليوبي ) :
ولا يخفى أن نفع كل شيء بحسبه ، فنفع العلق بامتصاص الدم ، ونفع الطاووس بالاستمتاع برؤية لونه ونفع العندليب باستماع صوته ، ونفع الهرة بصيد الفأر ، والقرد بالتعليم).
وبعضهم اشترط في المبيع أن يكون شيئاً طاهراً منتفعاً به انتفاعاً شرعياً حالاً أو مآلاً.
ولقد أجمع الفقهاء على حرمة بيع الإنسان الحر وبطلانه ، ولم يعتبروه مالاً لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله عز وجل : ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حراً وأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره ) رواه البخاري.
وأما أجزاء الآدمي : فقد أجمع الفقهاء على أنها ليست بمال من حيث الأصل ، ولا يصح أن تكون محلاً للبيع ، ولم يختلفوا إلا في لبن المرأة إذا حلب ، فأجاز جمهورهم بيعه ومنهم الحنفية .
سبب اختلاف الفقهاء في بيع أجزاء الإنسان :
1 ـ ذهب فقهاء الحنفية إلى أن علة تحريم بيع أجزاء الآدمي يرجع إلى معنى التكريم الذي خص الله تعالى به الإنسان ، وقاسوا كل جزء من أجزائه علـى ذاته
قال المرغيناني في العناية شرح الهداية ( البيع الفاسد ) :
( ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها ، لأن الآدمي مكرم لا مبتذل ، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً ومبتذلاً ).
2 ـ وذهب جمهور الفقهاء إلى أن علة تحريم بيع الأعضاء الآدمية هي عدم الانتفاع بها بأسلوب يبيحه الشرع ؛ فلا يمكن اعتبارها مالاً .
ولما وجدوا جزءا من الآدمي يمكن الانتفاع به إذا فصل عن صاحبه في وجه من الوجوه المباحة ، قالوا بجواز بيعه ، خلافاً للحنفية ، ألا وهو لبن الآدمية إذا جلب منها ، فقد أجاز بيعه المالكية والشافعية والحنابلة في القول الراجح عندهم : وحجتهم أنه طاهر ومنتفع به ، وقد أباح الشارع شريه لغير ضرورة.
قال ابن قدامة المقدسي :
( فصل :
فأما بيع لبن الآدميات ، فقال أحمد : أكرهه ، واختلف أصحابنا في جوازه ، فظاهر كلام الخرقي جوازه ؛ لقوله : " وكل ما فيه المنفعة " ، وهذا قول ابن حامد ، ومذهب الشافعي ، وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ؛ لأنه مائع خارج من آدمية ، فلم يجز بيعه ، كالعرق ، ولأنه من آدمي ، فأشبه سائر أجزائه .
والأول أصح ؛ لأنه لبن طاهر منتفع به ، فجاز بيعه ، كلبن الشاه ، ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر فأشبه المنافع ، ويفارق العرق ، فإنه لا نفع فيه ، ولذلك لا يباع عرق الشاة ، ويباع لبنها .
وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها ، فإنه يجوز بيع العبد ، والأمة ، وإنما حرم بيع الحر ؛ لأنه ليس بمملوك ، وحرم بيع العضو المقطوع ؛ لأنه لا نفع فيه ) .اهـ
إن الانتفاع بأحد أجزاء الآدمي بمثل الوظيفة التي خلقها الله لها ، بحيث يمكن نقلها لتكون في خدمة نفس جديدة غير النفس التي خلقت لخدمتها ، وليكون ذلك سبباً في إنقاذ هذه النفس الجديدة من الهلاك، إن مثل هذا الأسلوب في الانتفاع بالأعضاء الآدمية لم يكن وارداً في حسبان علمائنا القدامى ، ولو تخيلوه لافترضوا وقوعه ، ولأدلوا بدلوهم في استنباط حكمه.
وجملة ما تعرضوا للبحث في حكم بيعه من أجزاء الإنسان شعره وعظمه وجلده ، ولبن المرأة.
فأما شعره : فمع تصورهم لإمكان الاستفادة منه في التزين ، إلا أنهم نصوا على حرمة بيعه ، لورود نص شرعي خاص يمنع من ذلك ، وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام ( لعن الله الواصلة والمستوصلة) متفق عليه.
أما عظمه وجلده : فقد أجمعوا على تحريم بيعهما لعدم إمكان الانتفاع بهما إلا بأساليب تتعارض مع ما جعل لابن آدم من التكريم والاحترام.
وأما لبن المرأة : فقد تقدم أن جمهور الفقهاء أجازوا بيعه ؛ لأنه طاهر منتفع به ولم يروا في ذلك أي تعارض مع الكرامة الإنسانية .
أما اليوم فتشهد البشرية والعالم بأجمعه تقدماً سريعاً ومطّرداً ، فقد نجح الإنسان في الواقع العملي فأجرى عمليات نقل الأعضاء وزرعها وأنقذ كثيراً من الناس من هلاك محقق .
هذا الأمر يلقى بتبعة كبيرة على علماء الفقه والشريعة الإسلامية بأن يخرجوا للناس بفقه معاصر يلبي هذه الاحتياجات، يتماشى مع العصر والواقع.
من فضل الله تبارك وتعالى علينا أنه مَنَّ علينا بدين عظيم، وبشريعة رحبة، تتسع لكل زمان ولكل مكان، هذه الشريعة بمقاصدها ومبادئها وقواعدها وأحكامها فيها الحل لكل مشكلة والعلاج لكل داء، من صيدلية الإسلام نفسها، ومن فضائل هذه الشريعة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنها لم تنص على الأشياء في كثير من الأحيان بنصوص جزئية تفصيلية، إنما نصت أو جاءت بنصوص كلية وقواعد عامة.
ومن ناحية أخرى حتى الأمور التي فيها نصوص تفصيلية تتسع لأكثر من فهم وأكثر من تفسير.
ومن ناحية ثالثة فهي راعت الظروف الطارئة والضرورات العارضة للإنسان وقدرت لها قدرها .
ومن ناحية رابعة فقد قرر علماؤها أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، من أجل هذا لم تضق الشريعة بأي حادثة من الحوادث في أي بلد دخلت فيها.
حالات زراعة الأعضاء :إن لعمليات زراعة الأعضاء صورتان:
الصورة الأولى: أن ينقل الشخص عضواً أو جزءاً منه من مكان من جسمه إلى مكان آخر منه، والنقل في هذه الصورة جائز بقيود:
أن تكون هنالك حاجة ماسة ولا خطر على الحياة خلال نزع العضو أو تركيبه ، ويغلب على الظن نجاح زراعة الأعضاء هذه.
الصورة الثانية: أن ينقل العضو من شخص إلى آخر، ولها حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الشخص الذي أخذ منه العضو ميتاً ، فلا يجوز نقل الأعضاء أو التصرف في جسد من قيل إنه مات موتاً دماغياً، ما لم ينقطع نفسه، ويتوقف قلبه، وتظهر عليه علامات الوفاة الشرعية ، وجواز النقل هنا مقيد بغلبة الظن على نجاح العملية، وأن يوصي الميت بذلك أو يأذن الورثة في نقل العضو المراد زراعته.
الحالة الثانية: أن يتبرع الإنسان الحي - بغير عوض - بعضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك وهذا جائز، بشرط غلبة الظن بنجاح عملية الزرع وعدم حصول ضرر على الشخص المنقول منه العضو، لأنه في ذلك كله إنقاذ معصوم وإزالة ضرر واقع، وهذه من المقاصد الشرعية ، وليس له أن يتبرع بعضو تتوقف عليه الحياة كالقلب، أو عضو يترتب على فقدانه زوال وظيفة أساسية في حياته كنقل قرنية العين، ومن القواعد: أن الضرر لا يزال بمثله.
ولْينوِ المسلم بذلك التبرع الإحسان لأخيه، وتنفيس الكرب عنه، وابتغاء الثواب بذلك من الله تعالى، وإذا جاءه بعد ذلك شيء من المال مكافأة من غير تطلع نفسه إليه، فلا حرج عليه في أخذه.
ويشترط في المتبرع أن يكون أهلاً للتبرع، وذلك ببلوغه ورشده.
والتبرع بما ذكر في الحالتين مشروط بأن يكون المتبرَّع له معصوم الدم ، أي أن يكون مسلماً أو ذمياً، بخلاف الكافر المحارب.
والمريض إذا اضطر إلى زرع كلية ولم يجدها إلا بدفع عوض عنها جاز له ذلك، ولا إثم عليه هو، لقوله تعالى:
( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه ) الأنعام: ١١٩ .
ولا يجوز نقل الأعضاء التناسلية كالخصيتين أو المبيضين من إنسان إلى آخر، كما قرره أهل الاختصاص من أن ذلك يوجب انتقال الصفات الوراثية الموجودة في الشخص المتبرع إلى أبناء الشخص المنقولة إليه الخصية، كما يوجب انتقال الحيوانات المنوية المتبقية في خصية المتبرع إلى المتلقي.
يعترض بعضهم بأن الإنسان لا يجوز له أن يتبرع بأعضائه لأنها ليست ملكاً له، ويرد على هذا بأن كل ما في الكون ملك لله عز وجل قال الله تعالى :
( لله ما في السموات وما في الأرض ) البقرة: ٢٨٤
فالمال لا يملكه الإنسان في الحقيقة، الله هو منشئ المال وخالق المال والمال ماله قال الله تعالى :
( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) الحديد: ٧
ومع هذا ربنا جل جلاله مكن الإنسان عن طريق الملكية الشرعية من التصرف في المال والجسد كالمال.
كما اعترض بعضهم بأنه يشترط أن يكون الشخص المنقول منه العضو مسلماً ، وللرد على ذلك أيضاً :
الأعضاء في الإنسان لا تسلم ولا تكفر ، كل أعضاء الإنسان مسلمة، لأن الأعضاء داخل الإنسان هي مسبحة لله تسبح بحمد الله يعني داخلة في دائرة السنن الإلهية في السجود والتسبيح وهذه الأشياء، فالإنسان يجوز أن يأخذ من غير المسلم ويجوز أن يعطي أيضاً غير المسلم، كما يجوز الصدقة على غير المسلم، فقد ذكر القرآن :
( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) الإنسان: ٨
في وصف الأبرار، والأسير كان من الوثنيين المشركين في ذلك الوقت ، ومع هذا مدح الله الذين يطعمون الطعام على حبه، فهو يحب الطعام ومحتاج إليه، يطعم الأسير ويقول :
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً ) الإنسان: ٩
والنبي عليه الصلاة والسلام وبعض الصحابة كانوا يتصدقون على أقاربهم المشركين
مصدر الموضوع