بسم الله الرحمن الرحيم
نقلا من موقع الشيخ محمد علي فركوس حفظه الله جل و علا
«التصفيف الحادي والثلاثون: التوحيد العلمي والعملي (٢)»
-تابع-
الخَمْسُونَ: تَوْحِيدُهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ:
وَمِنْ تَوْحِيدِهِ تَعَالَى: تَوْحِيدُهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَهُوَ العِلْمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ، وَالقَصْدُ وَالتَّوَجُّهُ وَالقِيَامُ بِالعِبَادَاتِ كُلِّهَا إِلَيْهِ(١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاََّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾(٢)، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(٣)، ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾(٤)، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»(٥) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ(٦) وغيره(٧).
(١) المراد بتوحيد الألوهية هو: العلم والاعتراف بأنَّ الله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين، ويتحقَّق هذا التوحيد بإفراد الله تعالى بالعبادة، واستحقاقه لها كلِّها وحده دون سواه: قولاً وفعلاً وقصدًا بجميع أفعال عباده: الظاهرة والباطنة والبدنية والمالية التي تعبَّدهم بها، سواءٌ كانت عباداتٍ قلبيةً: من محبَّةٍ وخوفٍ ورجاءٍ وتوكُّلٍ ورغبةٍ ورهبةٍ، أو عباداتٍ قوليةً: من تكبيرٍ وتسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وقراءةِ قرآنٍ وغيرها من الأذكار، أو عباداتٍ فعليةً: من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ ونذرٍ وغيرها من أنواع العبادات المشروعة، وبإخلاصها له وحده طاعةً له وتقرُّبًا إليه.
وتوحيد الألوهية يسمَّى -أيضًا- ﺑ«توحيد العبادة»، فهو بالنظر إلى إضافته إلى الله تعالى فهو توحيد الألوهية، وبالنظر إلى من يتقرَّب إليه بهذه العبادة من العابدين فهو توحيد عبادةٍ أي: توحيد الله بأفعال عباده، ويسمَّى توحيد الألوهية -أيضًا- «توحيدَ الإرادة والقصد»، و«توحيد الطلب».
ومن أجل توحيد الألوهية والعبادة خلق الله الجنَّةَ والنار، والجنَّ والإنس، ومن أجله أُرسلت الرسل وأُنزلت الكتب، ودَعَتْ إليه الرسل أُمَمَها، فحصل فيه الجدل ووقعت بينهم الخصومة، وافترق الناس بسببه- فريقين: مؤمنين وكفَّارًا، سعداءَ أهل الجنَّة وأشقياءَ أهل النار، فشُرع من أجله الجهادُ لإعلائه وإقامته، وضمن هذا المعنى يقول ابن القيِّم -رحمه الله- في «مدارج السالكين» (٣/ ٣٩٧): «وهو التوحيد الذي دَعَتْ إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وعليه الثواب والعقاب، والشرائع كلُّها تفاصيله وحقوقه، وهو توحيد الإلهية والعبادة، وهو الذي لا سعادة للنفوس إلاَّ بالقيام به علمًا وعملاً وحالاً، وهو أن يكون الله وحده أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، وأخوف عنده من كلِّ ما سواه، وأرجى له من كلِّ ما سواه، فيعبده بمعاني الحبِّ والخوف والرجاء بما يُحبُّه هو ويرضاه، وهو ما شرعه على لسان رسوله، لا بما يريد العبد ويهواه، وتلخيصُ ذلك في كلمتين: «إيَّاك أريد بما تريد»، فالأولى: توحيدٌ وإخلاصٌ، والثانية: اتِّباعٌ للسنَّة وتحكيمٌ للأمر».
وفي هذا السياق قال السعديُّ -رحمه الله- في «الحقِّ الواضح المبين» (١١١): «وهذا النوع -أي: توحيد الألوهية- زبدة رسالة الله لرسله، فكلُّ نبيٍّ يبعثه الله يدعو قومه يقول: ﴿اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩ وغيرها]، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وهو الذي خلق الله الخلقَ لأجله، وشرع الجهادَ لإقامته، وجعل الثواب الدنيويَّ والأخرويَّ لمن قام به وحقَّقه، والعقابَ لمن تركه، وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به وأهلِ الشقاوة التاركين له».
وقال -رحمه الله- أيضا في «القول السديد» (١٣): «فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل دَعَوْا إلى هذا التوحيد، ونَهَوْا عن ضدِّه من الشرك والتنديد، وخصوصًا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا القرآن الكريم فإنه أَمَرَ به وفَرَضَه وقرَّره أعظمَ تقريرٍ، وبيَّنه أعظمَ بيانٍ، وأخبر أنه لا نجاة ولا فلاح ولا سعادة إلاَّ بهذا التوحيد، وأنَّ جميع الأدلَّة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلَّةٌ وبراهين على هذا الأمر بهذا التوحيد ووجوبه، فالتوحيد هو حقُّ الله الواجب على العبيد، وهو أعظم أوامر الدين وأصلُ الأصول كلِّها وأساسُ الأعمال».
وضابط توحيد الله تعالى في عبادته هو تحقيق معنى «لا إله إلاَّ الله»، فهي كلمة التوحيد وكلمة الإخلاص، فهي تعني أنَّ المستحِقَّ للعبادة هو الله وحده، لأنَّ المراد ﺑ «لا إله» نفي استحقاق جميع المعبودات سوى الله للعبادة، والمرادَ ﺑ «إلاَّ الله» هو حصرُ استحقاق العبادة لله وحده لا شريك له، ففي كلمة التوحيد: إخلاصُ التوحيد وإخلاص العبادة لأنها تنفي الشركَ وتثبت العبادةَ لله تعالى، وتسمَّى كلمة التقوى كما في قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: ٢٦] لأنها تقي من النار من قالها مخلصًا، وتسمَّى العروة الوثقى كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦]، ولهذه الكلمة تسمياتٌ أخرى، فهي تدلُّ على أنَّ التوحيد هو أوَّل واجبٍ على المكلَّف، قال أبو بكر بنُ المنذر في كتاب «الإجماع» (١٤٤): «أجمع كلُّ من نحفظ عنه أنَّ الكافر إذا قال: «أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به محمَّدٌ حقٌّ، وأبرأ من كلِّ دينٍ يخالف دينَ الإسلام» -وهو بالغٌ صحيحٌ يعقل- أنه مسلمٌ»، وهذا التوحيد هو أوَّل ما بدأ به الرسلُ دعوتَهم لأقوامهم، قال الشنقيطيُّ -رحمه الله- في «أضواء البيان» (٧/ ٢٥٤) عند قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥]: «ما تضمَّنته هذه الآية الكريمة من أنَّ جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله، الذي تضمَّنته كلمة «لا إله إلاَّ الله» جاء موضَّحًا في آياتٍ كثيرةٍ: كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]، وذلك التوحيد هو أوَّل ما يأمر به كلُّ نبيٍّ أمَّتَه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩؛ المؤمنون: ٢٣]، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٦٥؛ هود: ٥٠]، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه﴾ [الأعراف: ٧٣؛ هود: ٦١]، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٨٥؛ هود: ٨٤]، إلى غير ذلك من الآيات».
وأوضح الشنقيطيُّ -رحمه الله- في «أضواء البيان» (٣/ ٨) -أيضًا- عند تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٨] بأنَّ الدين الإسلاميَّ قائمٌ على كلمة التوحيد بقوله: «ومعلومٌ أنَّ لفظة «إنما» مِن صِيَغ الحصر، فكأنَّ جميع ما أُوحي إليه منحصرٌ في معنى «لا إله إلاَّ الله»، وقد ذكرْنا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» أنَّ حصر الوحي في آية «الأنبياء» هذه في توحيد العبادة حصرٌ له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميعُ الفروع، لأنَّ شرائع الأنبياء كلِّهم داخلةٌ في ضمن معنى «لا إله إلاَّ الله» لأنَّ معناها: خلعُ جميع المعبودات غيرَ الله جلَّ وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفرادُه جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي: القولية والفعلية والاعتقادية».
وفي مَعْرِض شرح قوله تعالى: ﴿لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً﴾ [الإسراء: ٢٢] قال الشيخ ابن باديس -رحمه الله- في «تفسيره» [مجالس التذكير] (٨٢) عن التوحيد هذا بأنه: «هو أساس الدين كلِّه، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تُقبل الأعمال إلاَّ به، وما أرسل الله رسولاً إلاَّ داعيًا إليه، ومذكِّرًا بحججه، وقد كانت أفضلُ كلمةٍ قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمةَ «لا إله إلاَّ الله»، وهي كلمته الصريحة فيه، ولا تكاد سورةٌ من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضدِّه».
هذا، وقد استفاضت نصوصٌ قرآنيةٌ وحديثيةٌ -غير التي سبق ذكرُها- في الدلالة على هذه المعاني المتعلِّقة بهذا الباب: فمن القرآن: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥-٦٦]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١-٢٢]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: ١١-١٥]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ٦٤].
ومن السنَّة:
• حديثُ معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: «أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»، ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلاَثًا: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ؟» قُلْتُ: «لاَ»، قَالَ: «حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ» [أخرجه البخاريُّ في «الاستئذان» (١١/ ٦٠) باب: من أجاب ﺑ«لبَّيك وسعديك»، وفي مواضع أخرى بألفاظٍ متقاربةٍ في الصحيح، ومسلمٌ في «الإيمان» (١/ ٢٢٩)، والترمذيُّ في «الإيمان» (٥/ ٢٦) باب ما جاء في افتراق هذه الأمَّة من حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه].
• حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟» فَقَالَ: «مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ»» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٢/ ٩٣)].
• وعنه -أيضًا- قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٢/ ٩٣)].
• وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى»» [أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٣٤٧) باب: ما جاء في دعاء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّتَه إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ومسلمٌ في «الإيمان» بلفظ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، وبلفظٍ آخر «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»].
تنبيه:
هذا ويجدر التنبيه إلى أمرين مهمَّين وهما:
الأمر الأوَّل: أنَّ أعظم أنواع التوحيد كلِّها وأهمَّها هو توحيد الألوهية والعبادة، إذ هو أساس الدين كلِّه، وبه تساس الحياة، وعليه تُبنى الشريعة، فلا تُقبل الأعمال ولا تكون النجاة إلاَّ به، لذا فما أرسل الله من رسولٍ إلاَّ وبعثه بمدلوله -كما تقدَّم من الآيات والأحاديث-.
ومِن ثَمَّ يتبيَّن بطلان ما زعمه الأشاعرة وغيرهم من المتكلِّمين ومن وافقهم من المتصوِّفة من أنَّ غاية التوحيد هو: «أنَّ الله تعالى واحدٌ في ذاته لا قسيم له، وواحدٌ في صفاته لا شبيه له، وواحدٌ في أفعاله لا شريك له» [انظر: «نهاية الإقدام» (٩٠) و«الملل والنحل» (١/ ٥٢) كلاهما للشهرستاني، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ٩٨)، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٨٤)]، ولهذا عرَّفوا كلمة التوحيد بأنها: «لا ربَّ إلاَّ الله» أو «لا خالق إلاَّ الله».
ولا يخفى خلوُّ تعريفات المتكلِّمين ومن تبعهم عن توحيد الله بأفعال العباد وهو توحيد الألوهية والعبادة، بل لمَّا لم يعرفوا مدلولَه فسَّروه بتوحيد الربوبية، وهذا التوحيد يكاد يُطْبِق عليه غالب البشر، لِما فطر الله عليه الخلائقَ من الإيمان بالله تعالى ربًّا وخالقًا، ولو كان هذا حقًّا للزم أن يكون المشركون موحِّدين لأنهم أقرُّوا بتوحيد الربوبية، والمعلوم أنَّ هذا القول فيه من الباطل ما لا يخفى، قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (٣/ ١٠١) ما نصُّه: «فقد تبيَّن أنَّ ما يسمُّونه توحيدًا فيه ما هو حقٌّ وفيه ما هو باطلٌ، ولو كان جميعه حقًّا فإنَّ المشركين إذا أقرُّوا بذلك كلِّه لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، بل لا بدَّ أن يعترفوا أنه لا إله إلاَّ الله وليس المراد ﺑ«الإله» هو القادر على الاختراع كما ظنَّه من ظنَّه من أئمَّة المتكلِّمين حيث ظنُّوا أنَّ الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره وأنَّ من أقرَّ بأنَّ الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أنْ لا إله إلاَّ هو، فإنَّ المشركين كانوا يُقِرُّون بهذا وهُم مشركون كما تقدَّم بيانه، بل الإله الحقُّ هو الذي يستحقُّ بأن يُعْبَد، فهو إلهٌ بمعنى «مألوهٌ»، لا إلهٌ بمعنى «آلِهٌ»، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهًا آخر، وإذا تبيَّن أنَّ غاية ما يقرِّره هؤلاء النُّظَّار، أهل الإثبات للقَدَر المنتسبون إلى السنَّة إنما هو توحيد الربوبية وأنَّ الله ربُّ كلِّ شيءٍ، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرِّين بذلك مع أنهم مشركون».
قلت: ويستحيل أن يكون التوحيد الذي بُعثت الرسل الكرام للدعوة إليه هو توحيدَ الربوبية الذي لم يخالف فيه إلاَّ الشواذُّ من الناس في القديم والحديث، وإنما التوحيد فيما جحدوه وصدُّوا عنه وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
ويعود سبب خطإ المتكلِّمين في فهم مدلول توحيد الألوهية إلى حملهم للنصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعيدًا عن تخاطُب العرب وفهم السلف، ونظرًا للنتائج السيِّئة المنجرَّة عن هذا الانحراف فإنَّ المقام يقتضي إقامةَ الفرق بين مفهوم توحيد الربوبية والألوهية على الجهات التالية:
• من جهة الاشتقاق: ﻓ«الربُّ» و«الإله» مفهومان متغايران لغةً وشرعًا، وباختصارٍ فالربوبية مشتقَّةٌ من لفظ «الربِّ»، وقد جاءت مستعمَلةً في اللغة وفهم السلف بمعانٍ ثلاثةٍ: الأوَّل: بمعنى مالك الشيء وصاحبه، والثاني: بمعنى السيِّد المطاع، والثالث: بمعنى المصلح للشيء المدبِّر له، قال ابن القيِّم -رحمه الله- في «بدائع الفوائد» (٢/ ٢٤٩): «فإنَّ الربَّ هو القادر الخالق البارئ المصوِّر، الحيُّ القيُّوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم الجواد، المعطي المانع، الضارُّ النافع، المقدِّم المؤخِّر، الذي يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء، ويُسعد من يشاء ويُشقي من يشاء، ويُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى».
بينما الألوهية مشتقَّةٌ من لفظ «الإله»، وقد جاءت مستعمَلةً في فهم السلف على كلِّ معبودٍ حقًّا كان أو باطلاً، لذلك جاءت كلمة الإخلاص والتوحيد تنفي استحقاقَ المعبودات الباطلة للعبادة وتحصر استحقاقَ العبادة لله تعالى، قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (١٠/ ٢٤٩): «فإنَّ الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحقُّ أن يُعْبَد، وكونه يستحقُّ أن يُعْبَد هو بما اتَّصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوبَ غايةَ الحبِّ المخضوعَ له غايةَ الخضوع»، وقال ابن القيِّم -رحمه الله- في «إغاثة اللهفان» (١/ ٢٧): «فإنَّ الإله هو الذى تألهه القلوب: محبَّةً وإنابةً وإجلالاً وإكرامًا وتعظيمًا وذلاًّ وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكُّلاً» [وانظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (١/ ٣٢)].
وعليه يظهر أنَّ الربَّ والإله كلمتان متغايرتان في مفهومَيْهما، فحملُ معنى «الإله» على القادر على الاختراع أو نحوه من معاني الربِّ هو قولٌ مبتدَعٌ في اللغة والشرع.
• من جهة المدلول: فمدلول توحيد الربوبية علميٌّ اعتقاديٌّ، بينما مدلول توحيد الألوهية عمليٌّ طلبيٌّ، والعمليُّ متضمِّنٌ للعلمي، لذلك كان توحيد الربوبية جزءًا من معنى توحيد الألوهية، وتوحيدُ الألوهية خارجٌ عن مدلول توحيد الربوبية، ولا يتحقَّق التوحيد إلاَّ بتوحيد الألوهية والعبادة.
• وعليه فمن جهة الالتزام والتضمُّن فإنَّ توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية الخارجَ عنه ولا يتحقَّق إلاَّ به، بينما توحيد الألوهية والعبادة يتضمَّن توحيد الربوبية لكونه جزءًا من معناه.
• من جهة التعلُّق: فمتعلَّقات الربوبية الأمورُ الكونية كالخلق والتدبير والتصوير والإنعام والرزق والإحياء والإماتة وغيرها من معاني الربوبية، ومتعلَّقات توحيد الألوهية الأوامرُ والنواهي، فإذا علم العبد أنَّ الله ربُّه لا شريك له في أسمائه وخلقه وصفاته فإنَّ ذلك يستلزم أن يعمل على عبادته وطاعته بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
• من جهة إضافة الأفعال: فتوحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله سبحانه كالخلق والتدبير والتصوير والرزق، وأمَّا توحيد الألوهية فهو توحيد الله بأفعال عباده من عموم العبادات وسائر القربات الظاهرة والباطنة من قولٍ أو فعلٍ أو تركٍ، فيجب على العبد أن يصرفها لله تعالى لا شريك له.
• من جهة مآل الإيمان بالتوحيد: فإنَّ توحيد الربوبية الذي أقرَّ به معظم المشركين لا يُدخل من آمن به الإسلامَ، أمَّا توحيد الألوهية والعبادة الذي جحده المشركون وصدُّوا عن سبيله فإنَّ الإيمان به يُدخل في الإسلام.
وعليه فالمُقِرُّ بالتوحيد يلزمه التبرُّؤ من عبادة ما سواه ليحقِّق التوحيدَ المطلوب، لأنَّ الأمر بتوحيد الله تعالى نهيٌ عن ضدِّه من الشرك بالله تعالى، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٤٠٥]، وغيرها من الآيات المقرِّرة لهذا المعنى، ذلك لأنَّ الرسل والأنبياء دَعَوْا إلى عبادة الله وحده، ونَهَوْا عن الشرك، وحقيقةُ الشرك في العبادة، قال ابن أبي العزِّ -رحمه الله- في «شرح العقيدة الطحاوية» (٨٣): «فلو أقرَّ رجلٌ بتوحيد الربوبية الذي يُقِرُّ به هؤلاء النُّظَّار، ويفنى فيه كثيرٌ من أهل التصوُّف، ويجعلونه غايةَ السالكين كما ذكره صاحب «منازل السائرين» وغيرُه، وهو مع ذلك إن لم يعبد اللهَ وحده ويتبرَّأ من عبادة ما سواه كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين».
هذا والشرك على قسمين: أحدهما: الشرك المنافي للتوحيد وهو المُخْرِج من الملَّة يوجب الحكمَ بالردَّة في الدنيا وما ينبني عليها، وبالخلود في النار في الآخرة إذا مات عليه مع توفُّر الشروط وانتفاء الموانع، والثاني: الشرك المنافي لكمال التوحيد، وهو لا يُخرج من الملَّة، ولا يستحقُّ المتَّصف به مسمَّى التوحيد الكامل، لكن قد يوصِل إلى القسم الأوَّل بحسب ما يضيف فاعلُه إليه من اعتقاداتٍ فاسدةٍ، وللقسمين -سواءٌ المنافي للتوحيد أو لكماله- من أسماء الدين ما يناسب وَصْفَه، وله من الأحكام المترتِّبة على الاسم ما يطابقه حَسَبَ التأثير.
الأمر الثاني: أنَّ توحيد الألوهية والعبادة لا يتحقَّق إلاَّ بوجود أصلين:
الأوَّل: إخلاص العبادة لله تعالى وحده دون ما سواه.
الثاني: أن تكون العبادة موافِقةً لشرعه أي: لأوامر الله ونواهيه، ولا طريق لعبادة الله وطاعته فيها إلاَّ بمتابعة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وكلُّ طريقٍ غيرِه فهو مردودٌ لا يوصل إلى المطلوب.
فاجتماع أصل الإخلاص والمتابعة يترجم مدلولَ الشهادتين «أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله»، فهذا أصلٌ عظيمٌ في الدين: اتِّباع الوحي والعملُ بالنصوص، وهو مقتضى توحيد الله والإيمان به، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢]، وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: ٨٠]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: ٥٩]، قال ابن أبي العزِّ -رحمه الله- في «شرح العقيدة الطحاوية» (٢١٧): «فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلاَّ بهما: توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره»، فمن فرَّط في واحدٍ منهما رُدَّ عليه عملُه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» [أخرجه مسلمٌ بهذا اللفظ في «الأقضية» (١٢/ ١٦) واتَّفق الشيخان على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه البخاريُّ في «الصلح» (٥/ ٣٠١) ومسلم (١٢/ ١٦)، من حديث عائشة رضي الله عنها].
(٢) آية ٢٥ من سورة الأنبياء.
(٣) آية ٧٩ من سورة الأنعام.
(٤) آية ١٦٢، ١٦٣ من سورة الأنعام.
فهذه الآيات استدلَّ بها المصنِّف -رحمه الله- على توحيد الألوهية والعبادة التي هي إفراد الله بالعبادة والطاعة، أو هي توحيد الله تعالى بأفعال عباده على ما تقتضيه من نفي الشرك والتبرُّؤ منه.
وقوله تعالى عن نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم : ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣]، يحتمل أن يكون معنى الأوَّلية بيانَ المسارعة في الامتثال لِما أُمر به، ونظيرُه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١]، كما يحتمل أن يكون المعنى بيانَ الأوَّلية من كلِّ أمَّةٍ، فقال ذلك عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم باعتبار أمَّته كما قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٣].
قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- في «تفسيره» (٢/ ١٩٨) في مَعْرِضِ شرح قوله تعالى: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾: «قال قتادة: أي: من هذه الأمَّة، وهو كما قال، فإنَّ جميع الأنبياء قبله كلَّهم كانت دعوتُهم إلى الإسلام، وأصلُه: عبادة الله وحده لا شريك له» إلى أن قال: «فأخبر تعالى أنه بعث رُسُلَه بالإسلام، ولكنَّهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصَّة التي ينسخ بعضها بعضًا، إلى أن نُسخت بشريعة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم التي لا تُنسخ أبدَ الآبدين، ولا تزال قائمةً منصورةً، وأعلامها منشورةً إلى قيام الساعة، ولهذا قال عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ: دِينُنَا وَاحِدٌ»، فإنَّ أولاد العَلاَّت هم الإخوة من أبٍ واحدٍ وأمَّهاتٍ شتَّى، فالدين واحدٌ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوَّعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمَّهات».
(٥) وفي نسخة: محمَّد الحسن فضلاء بزيادة قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى ضَرِّكَ أَوْ نَفْعِكَ لاَ يَضُرُّونَكَ وَلاَ يَنْفَعُونَكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ».
(٦) هو أبو عيسى محمَّد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحَّاك السُّلَميُّ البوغيُّ الترمذيُّ، أحد الأئمَّة المشهورين بالإتقان والحفظ الذين يُقتدى بهم في علم الحديث، وهو أحد تلاميذ الإمام البخاريِّ، شاركه في بعض شيوخه، من مؤلَّفاته: «الجامع الصحيح» و«العلل» و«الشمائل» و«أسماء الصحابة»، تُوفِّي بترمذ سنة (٢٧٩ﻫ-٨٩٢م).
انظر ترجمته في: «الفهرست» للنديم (٢٨٩)، «الكامل» (٧/ ٤٦٠) و«اللباب» (١/ ٢١٣) كلاهما لابن الأثير، «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان (٤/ ٢٧٨)، «سير أعلام النبلاء» (١٣/ ٢٧٠) و«ميزان الاعتدال» (٣/ ٦٧٨) و«الكاشف» (٣/ ٨٦) و«دول الإسلام» (١٦٨) كلُّها للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ٦٦)، «تهذيب التهذيب» (٩/ ٣٨٧) و«تقريب التهذيب» (٢/ ١٩٨) كلُّها لابن حجر، «طبقات الحفَّاظ» للسيوطي (٢٨٢)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (١/ ٢٤١).
(٧) أخرجه الترمذيُّ في «سننه» في «صفة القيامة» (٤/ ٦٦٧) رقم (٢٥١٦) باب: ٥٩، وأحمد في «مسنده» (١/ ٢٩٣)، وأبو يعلى في «مسنده» (٤/ ٤٣٠)، والطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (١٢/ ٢٣٨) و«المعجم الأوسط» (٥/ ٣١٦) و«الدعاء» (٣٤)، والحاكم في «المستدرك» (٣/ ٦٢٣)، وابن وهبٍ في «القدر» (١٣٠)، وابن أبي عاصمٍ في «السنَّة» (١/ ١٣٨)، والآجرِّيُّ في «الشريعة» (١٩٨)، قال الترمذيُّ: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ»، والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦/ ٣٠٠)، وفي «صحيح سنن الترمذي» (٢/ ٢٠٩-٢١٠)
«التصفيف الحادي والثلاثون: التوحيد العلمي والعملي (٢)»
-تابع-
الخَمْسُونَ: تَوْحِيدُهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ:
وَمِنْ تَوْحِيدِهِ تَعَالَى: تَوْحِيدُهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَهُوَ العِلْمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ، وَالقَصْدُ وَالتَّوَجُّهُ وَالقِيَامُ بِالعِبَادَاتِ كُلِّهَا إِلَيْهِ(١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاََّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾(٢)، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(٣)، ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾(٤)، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»(٥) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ(٦) وغيره(٧).
(١) المراد بتوحيد الألوهية هو: العلم والاعتراف بأنَّ الله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين، ويتحقَّق هذا التوحيد بإفراد الله تعالى بالعبادة، واستحقاقه لها كلِّها وحده دون سواه: قولاً وفعلاً وقصدًا بجميع أفعال عباده: الظاهرة والباطنة والبدنية والمالية التي تعبَّدهم بها، سواءٌ كانت عباداتٍ قلبيةً: من محبَّةٍ وخوفٍ ورجاءٍ وتوكُّلٍ ورغبةٍ ورهبةٍ، أو عباداتٍ قوليةً: من تكبيرٍ وتسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وقراءةِ قرآنٍ وغيرها من الأذكار، أو عباداتٍ فعليةً: من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ ونذرٍ وغيرها من أنواع العبادات المشروعة، وبإخلاصها له وحده طاعةً له وتقرُّبًا إليه.
وتوحيد الألوهية يسمَّى -أيضًا- ﺑ«توحيد العبادة»، فهو بالنظر إلى إضافته إلى الله تعالى فهو توحيد الألوهية، وبالنظر إلى من يتقرَّب إليه بهذه العبادة من العابدين فهو توحيد عبادةٍ أي: توحيد الله بأفعال عباده، ويسمَّى توحيد الألوهية -أيضًا- «توحيدَ الإرادة والقصد»، و«توحيد الطلب».
ومن أجل توحيد الألوهية والعبادة خلق الله الجنَّةَ والنار، والجنَّ والإنس، ومن أجله أُرسلت الرسل وأُنزلت الكتب، ودَعَتْ إليه الرسل أُمَمَها، فحصل فيه الجدل ووقعت بينهم الخصومة، وافترق الناس بسببه- فريقين: مؤمنين وكفَّارًا، سعداءَ أهل الجنَّة وأشقياءَ أهل النار، فشُرع من أجله الجهادُ لإعلائه وإقامته، وضمن هذا المعنى يقول ابن القيِّم -رحمه الله- في «مدارج السالكين» (٣/ ٣٩٧): «وهو التوحيد الذي دَعَتْ إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وعليه الثواب والعقاب، والشرائع كلُّها تفاصيله وحقوقه، وهو توحيد الإلهية والعبادة، وهو الذي لا سعادة للنفوس إلاَّ بالقيام به علمًا وعملاً وحالاً، وهو أن يكون الله وحده أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، وأخوف عنده من كلِّ ما سواه، وأرجى له من كلِّ ما سواه، فيعبده بمعاني الحبِّ والخوف والرجاء بما يُحبُّه هو ويرضاه، وهو ما شرعه على لسان رسوله، لا بما يريد العبد ويهواه، وتلخيصُ ذلك في كلمتين: «إيَّاك أريد بما تريد»، فالأولى: توحيدٌ وإخلاصٌ، والثانية: اتِّباعٌ للسنَّة وتحكيمٌ للأمر».
وفي هذا السياق قال السعديُّ -رحمه الله- في «الحقِّ الواضح المبين» (١١١): «وهذا النوع -أي: توحيد الألوهية- زبدة رسالة الله لرسله، فكلُّ نبيٍّ يبعثه الله يدعو قومه يقول: ﴿اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩ وغيرها]، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وهو الذي خلق الله الخلقَ لأجله، وشرع الجهادَ لإقامته، وجعل الثواب الدنيويَّ والأخرويَّ لمن قام به وحقَّقه، والعقابَ لمن تركه، وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به وأهلِ الشقاوة التاركين له».
وقال -رحمه الله- أيضا في «القول السديد» (١٣): «فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل دَعَوْا إلى هذا التوحيد، ونَهَوْا عن ضدِّه من الشرك والتنديد، وخصوصًا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا القرآن الكريم فإنه أَمَرَ به وفَرَضَه وقرَّره أعظمَ تقريرٍ، وبيَّنه أعظمَ بيانٍ، وأخبر أنه لا نجاة ولا فلاح ولا سعادة إلاَّ بهذا التوحيد، وأنَّ جميع الأدلَّة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلَّةٌ وبراهين على هذا الأمر بهذا التوحيد ووجوبه، فالتوحيد هو حقُّ الله الواجب على العبيد، وهو أعظم أوامر الدين وأصلُ الأصول كلِّها وأساسُ الأعمال».
وضابط توحيد الله تعالى في عبادته هو تحقيق معنى «لا إله إلاَّ الله»، فهي كلمة التوحيد وكلمة الإخلاص، فهي تعني أنَّ المستحِقَّ للعبادة هو الله وحده، لأنَّ المراد ﺑ «لا إله» نفي استحقاق جميع المعبودات سوى الله للعبادة، والمرادَ ﺑ «إلاَّ الله» هو حصرُ استحقاق العبادة لله وحده لا شريك له، ففي كلمة التوحيد: إخلاصُ التوحيد وإخلاص العبادة لأنها تنفي الشركَ وتثبت العبادةَ لله تعالى، وتسمَّى كلمة التقوى كما في قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: ٢٦] لأنها تقي من النار من قالها مخلصًا، وتسمَّى العروة الوثقى كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦]، ولهذه الكلمة تسمياتٌ أخرى، فهي تدلُّ على أنَّ التوحيد هو أوَّل واجبٍ على المكلَّف، قال أبو بكر بنُ المنذر في كتاب «الإجماع» (١٤٤): «أجمع كلُّ من نحفظ عنه أنَّ الكافر إذا قال: «أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به محمَّدٌ حقٌّ، وأبرأ من كلِّ دينٍ يخالف دينَ الإسلام» -وهو بالغٌ صحيحٌ يعقل- أنه مسلمٌ»، وهذا التوحيد هو أوَّل ما بدأ به الرسلُ دعوتَهم لأقوامهم، قال الشنقيطيُّ -رحمه الله- في «أضواء البيان» (٧/ ٢٥٤) عند قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥]: «ما تضمَّنته هذه الآية الكريمة من أنَّ جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله، الذي تضمَّنته كلمة «لا إله إلاَّ الله» جاء موضَّحًا في آياتٍ كثيرةٍ: كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]، وذلك التوحيد هو أوَّل ما يأمر به كلُّ نبيٍّ أمَّتَه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩؛ المؤمنون: ٢٣]، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٦٥؛ هود: ٥٠]، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه﴾ [الأعراف: ٧٣؛ هود: ٦١]، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٨٥؛ هود: ٨٤]، إلى غير ذلك من الآيات».
وأوضح الشنقيطيُّ -رحمه الله- في «أضواء البيان» (٣/ ٨) -أيضًا- عند تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٨] بأنَّ الدين الإسلاميَّ قائمٌ على كلمة التوحيد بقوله: «ومعلومٌ أنَّ لفظة «إنما» مِن صِيَغ الحصر، فكأنَّ جميع ما أُوحي إليه منحصرٌ في معنى «لا إله إلاَّ الله»، وقد ذكرْنا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» أنَّ حصر الوحي في آية «الأنبياء» هذه في توحيد العبادة حصرٌ له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميعُ الفروع، لأنَّ شرائع الأنبياء كلِّهم داخلةٌ في ضمن معنى «لا إله إلاَّ الله» لأنَّ معناها: خلعُ جميع المعبودات غيرَ الله جلَّ وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفرادُه جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي: القولية والفعلية والاعتقادية».
وفي مَعْرِض شرح قوله تعالى: ﴿لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً﴾ [الإسراء: ٢٢] قال الشيخ ابن باديس -رحمه الله- في «تفسيره» [مجالس التذكير] (٨٢) عن التوحيد هذا بأنه: «هو أساس الدين كلِّه، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تُقبل الأعمال إلاَّ به، وما أرسل الله رسولاً إلاَّ داعيًا إليه، ومذكِّرًا بحججه، وقد كانت أفضلُ كلمةٍ قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمةَ «لا إله إلاَّ الله»، وهي كلمته الصريحة فيه، ولا تكاد سورةٌ من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضدِّه».
هذا، وقد استفاضت نصوصٌ قرآنيةٌ وحديثيةٌ -غير التي سبق ذكرُها- في الدلالة على هذه المعاني المتعلِّقة بهذا الباب: فمن القرآن: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥-٦٦]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١-٢٢]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: ١١-١٥]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ٦٤].
ومن السنَّة:
• حديثُ معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: «أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»، ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلاَثًا: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ؟» قُلْتُ: «لاَ»، قَالَ: «حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قُلْتُ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ» [أخرجه البخاريُّ في «الاستئذان» (١١/ ٦٠) باب: من أجاب ﺑ«لبَّيك وسعديك»، وفي مواضع أخرى بألفاظٍ متقاربةٍ في الصحيح، ومسلمٌ في «الإيمان» (١/ ٢٢٩)، والترمذيُّ في «الإيمان» (٥/ ٢٦) باب ما جاء في افتراق هذه الأمَّة من حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه].
• حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟» فَقَالَ: «مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ»» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٢/ ٩٣)].
• وعنه -أيضًا- قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٢/ ٩٣)].
• وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى»» [أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٣٤٧) باب: ما جاء في دعاء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّتَه إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ومسلمٌ في «الإيمان» بلفظ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، وبلفظٍ آخر «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»].
تنبيه:
هذا ويجدر التنبيه إلى أمرين مهمَّين وهما:
الأمر الأوَّل: أنَّ أعظم أنواع التوحيد كلِّها وأهمَّها هو توحيد الألوهية والعبادة، إذ هو أساس الدين كلِّه، وبه تساس الحياة، وعليه تُبنى الشريعة، فلا تُقبل الأعمال ولا تكون النجاة إلاَّ به، لذا فما أرسل الله من رسولٍ إلاَّ وبعثه بمدلوله -كما تقدَّم من الآيات والأحاديث-.
ومِن ثَمَّ يتبيَّن بطلان ما زعمه الأشاعرة وغيرهم من المتكلِّمين ومن وافقهم من المتصوِّفة من أنَّ غاية التوحيد هو: «أنَّ الله تعالى واحدٌ في ذاته لا قسيم له، وواحدٌ في صفاته لا شبيه له، وواحدٌ في أفعاله لا شريك له» [انظر: «نهاية الإقدام» (٩٠) و«الملل والنحل» (١/ ٥٢) كلاهما للشهرستاني، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ٩٨)، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٨٤)]، ولهذا عرَّفوا كلمة التوحيد بأنها: «لا ربَّ إلاَّ الله» أو «لا خالق إلاَّ الله».
ولا يخفى خلوُّ تعريفات المتكلِّمين ومن تبعهم عن توحيد الله بأفعال العباد وهو توحيد الألوهية والعبادة، بل لمَّا لم يعرفوا مدلولَه فسَّروه بتوحيد الربوبية، وهذا التوحيد يكاد يُطْبِق عليه غالب البشر، لِما فطر الله عليه الخلائقَ من الإيمان بالله تعالى ربًّا وخالقًا، ولو كان هذا حقًّا للزم أن يكون المشركون موحِّدين لأنهم أقرُّوا بتوحيد الربوبية، والمعلوم أنَّ هذا القول فيه من الباطل ما لا يخفى، قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (٣/ ١٠١) ما نصُّه: «فقد تبيَّن أنَّ ما يسمُّونه توحيدًا فيه ما هو حقٌّ وفيه ما هو باطلٌ، ولو كان جميعه حقًّا فإنَّ المشركين إذا أقرُّوا بذلك كلِّه لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، بل لا بدَّ أن يعترفوا أنه لا إله إلاَّ الله وليس المراد ﺑ«الإله» هو القادر على الاختراع كما ظنَّه من ظنَّه من أئمَّة المتكلِّمين حيث ظنُّوا أنَّ الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره وأنَّ من أقرَّ بأنَّ الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أنْ لا إله إلاَّ هو، فإنَّ المشركين كانوا يُقِرُّون بهذا وهُم مشركون كما تقدَّم بيانه، بل الإله الحقُّ هو الذي يستحقُّ بأن يُعْبَد، فهو إلهٌ بمعنى «مألوهٌ»، لا إلهٌ بمعنى «آلِهٌ»، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهًا آخر، وإذا تبيَّن أنَّ غاية ما يقرِّره هؤلاء النُّظَّار، أهل الإثبات للقَدَر المنتسبون إلى السنَّة إنما هو توحيد الربوبية وأنَّ الله ربُّ كلِّ شيءٍ، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرِّين بذلك مع أنهم مشركون».
قلت: ويستحيل أن يكون التوحيد الذي بُعثت الرسل الكرام للدعوة إليه هو توحيدَ الربوبية الذي لم يخالف فيه إلاَّ الشواذُّ من الناس في القديم والحديث، وإنما التوحيد فيما جحدوه وصدُّوا عنه وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
ويعود سبب خطإ المتكلِّمين في فهم مدلول توحيد الألوهية إلى حملهم للنصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعيدًا عن تخاطُب العرب وفهم السلف، ونظرًا للنتائج السيِّئة المنجرَّة عن هذا الانحراف فإنَّ المقام يقتضي إقامةَ الفرق بين مفهوم توحيد الربوبية والألوهية على الجهات التالية:
• من جهة الاشتقاق: ﻓ«الربُّ» و«الإله» مفهومان متغايران لغةً وشرعًا، وباختصارٍ فالربوبية مشتقَّةٌ من لفظ «الربِّ»، وقد جاءت مستعمَلةً في اللغة وفهم السلف بمعانٍ ثلاثةٍ: الأوَّل: بمعنى مالك الشيء وصاحبه، والثاني: بمعنى السيِّد المطاع، والثالث: بمعنى المصلح للشيء المدبِّر له، قال ابن القيِّم -رحمه الله- في «بدائع الفوائد» (٢/ ٢٤٩): «فإنَّ الربَّ هو القادر الخالق البارئ المصوِّر، الحيُّ القيُّوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم الجواد، المعطي المانع، الضارُّ النافع، المقدِّم المؤخِّر، الذي يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء، ويُسعد من يشاء ويُشقي من يشاء، ويُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى».
بينما الألوهية مشتقَّةٌ من لفظ «الإله»، وقد جاءت مستعمَلةً في فهم السلف على كلِّ معبودٍ حقًّا كان أو باطلاً، لذلك جاءت كلمة الإخلاص والتوحيد تنفي استحقاقَ المعبودات الباطلة للعبادة وتحصر استحقاقَ العبادة لله تعالى، قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (١٠/ ٢٤٩): «فإنَّ الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحقُّ أن يُعْبَد، وكونه يستحقُّ أن يُعْبَد هو بما اتَّصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوبَ غايةَ الحبِّ المخضوعَ له غايةَ الخضوع»، وقال ابن القيِّم -رحمه الله- في «إغاثة اللهفان» (١/ ٢٧): «فإنَّ الإله هو الذى تألهه القلوب: محبَّةً وإنابةً وإجلالاً وإكرامًا وتعظيمًا وذلاًّ وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكُّلاً» [وانظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (١/ ٣٢)].
وعليه يظهر أنَّ الربَّ والإله كلمتان متغايرتان في مفهومَيْهما، فحملُ معنى «الإله» على القادر على الاختراع أو نحوه من معاني الربِّ هو قولٌ مبتدَعٌ في اللغة والشرع.
• من جهة المدلول: فمدلول توحيد الربوبية علميٌّ اعتقاديٌّ، بينما مدلول توحيد الألوهية عمليٌّ طلبيٌّ، والعمليُّ متضمِّنٌ للعلمي، لذلك كان توحيد الربوبية جزءًا من معنى توحيد الألوهية، وتوحيدُ الألوهية خارجٌ عن مدلول توحيد الربوبية، ولا يتحقَّق التوحيد إلاَّ بتوحيد الألوهية والعبادة.
• وعليه فمن جهة الالتزام والتضمُّن فإنَّ توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية الخارجَ عنه ولا يتحقَّق إلاَّ به، بينما توحيد الألوهية والعبادة يتضمَّن توحيد الربوبية لكونه جزءًا من معناه.
• من جهة التعلُّق: فمتعلَّقات الربوبية الأمورُ الكونية كالخلق والتدبير والتصوير والإنعام والرزق والإحياء والإماتة وغيرها من معاني الربوبية، ومتعلَّقات توحيد الألوهية الأوامرُ والنواهي، فإذا علم العبد أنَّ الله ربُّه لا شريك له في أسمائه وخلقه وصفاته فإنَّ ذلك يستلزم أن يعمل على عبادته وطاعته بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
• من جهة إضافة الأفعال: فتوحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله سبحانه كالخلق والتدبير والتصوير والرزق، وأمَّا توحيد الألوهية فهو توحيد الله بأفعال عباده من عموم العبادات وسائر القربات الظاهرة والباطنة من قولٍ أو فعلٍ أو تركٍ، فيجب على العبد أن يصرفها لله تعالى لا شريك له.
• من جهة مآل الإيمان بالتوحيد: فإنَّ توحيد الربوبية الذي أقرَّ به معظم المشركين لا يُدخل من آمن به الإسلامَ، أمَّا توحيد الألوهية والعبادة الذي جحده المشركون وصدُّوا عن سبيله فإنَّ الإيمان به يُدخل في الإسلام.
وعليه فالمُقِرُّ بالتوحيد يلزمه التبرُّؤ من عبادة ما سواه ليحقِّق التوحيدَ المطلوب، لأنَّ الأمر بتوحيد الله تعالى نهيٌ عن ضدِّه من الشرك بالله تعالى، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٤٠٥]، وغيرها من الآيات المقرِّرة لهذا المعنى، ذلك لأنَّ الرسل والأنبياء دَعَوْا إلى عبادة الله وحده، ونَهَوْا عن الشرك، وحقيقةُ الشرك في العبادة، قال ابن أبي العزِّ -رحمه الله- في «شرح العقيدة الطحاوية» (٨٣): «فلو أقرَّ رجلٌ بتوحيد الربوبية الذي يُقِرُّ به هؤلاء النُّظَّار، ويفنى فيه كثيرٌ من أهل التصوُّف، ويجعلونه غايةَ السالكين كما ذكره صاحب «منازل السائرين» وغيرُه، وهو مع ذلك إن لم يعبد اللهَ وحده ويتبرَّأ من عبادة ما سواه كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين».
هذا والشرك على قسمين: أحدهما: الشرك المنافي للتوحيد وهو المُخْرِج من الملَّة يوجب الحكمَ بالردَّة في الدنيا وما ينبني عليها، وبالخلود في النار في الآخرة إذا مات عليه مع توفُّر الشروط وانتفاء الموانع، والثاني: الشرك المنافي لكمال التوحيد، وهو لا يُخرج من الملَّة، ولا يستحقُّ المتَّصف به مسمَّى التوحيد الكامل، لكن قد يوصِل إلى القسم الأوَّل بحسب ما يضيف فاعلُه إليه من اعتقاداتٍ فاسدةٍ، وللقسمين -سواءٌ المنافي للتوحيد أو لكماله- من أسماء الدين ما يناسب وَصْفَه، وله من الأحكام المترتِّبة على الاسم ما يطابقه حَسَبَ التأثير.
الأمر الثاني: أنَّ توحيد الألوهية والعبادة لا يتحقَّق إلاَّ بوجود أصلين:
الأوَّل: إخلاص العبادة لله تعالى وحده دون ما سواه.
الثاني: أن تكون العبادة موافِقةً لشرعه أي: لأوامر الله ونواهيه، ولا طريق لعبادة الله وطاعته فيها إلاَّ بمتابعة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وكلُّ طريقٍ غيرِه فهو مردودٌ لا يوصل إلى المطلوب.
فاجتماع أصل الإخلاص والمتابعة يترجم مدلولَ الشهادتين «أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله»، فهذا أصلٌ عظيمٌ في الدين: اتِّباع الوحي والعملُ بالنصوص، وهو مقتضى توحيد الله والإيمان به، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢]، وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: ٨٠]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: ٥٩]، قال ابن أبي العزِّ -رحمه الله- في «شرح العقيدة الطحاوية» (٢١٧): «فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلاَّ بهما: توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره»، فمن فرَّط في واحدٍ منهما رُدَّ عليه عملُه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» [أخرجه مسلمٌ بهذا اللفظ في «الأقضية» (١٢/ ١٦) واتَّفق الشيخان على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه البخاريُّ في «الصلح» (٥/ ٣٠١) ومسلم (١٢/ ١٦)، من حديث عائشة رضي الله عنها].
(٢) آية ٢٥ من سورة الأنبياء.
(٣) آية ٧٩ من سورة الأنعام.
(٤) آية ١٦٢، ١٦٣ من سورة الأنعام.
فهذه الآيات استدلَّ بها المصنِّف -رحمه الله- على توحيد الألوهية والعبادة التي هي إفراد الله بالعبادة والطاعة، أو هي توحيد الله تعالى بأفعال عباده على ما تقتضيه من نفي الشرك والتبرُّؤ منه.
وقوله تعالى عن نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم : ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣]، يحتمل أن يكون معنى الأوَّلية بيانَ المسارعة في الامتثال لِما أُمر به، ونظيرُه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١]، كما يحتمل أن يكون المعنى بيانَ الأوَّلية من كلِّ أمَّةٍ، فقال ذلك عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم باعتبار أمَّته كما قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٣].
قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- في «تفسيره» (٢/ ١٩٨) في مَعْرِضِ شرح قوله تعالى: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾: «قال قتادة: أي: من هذه الأمَّة، وهو كما قال، فإنَّ جميع الأنبياء قبله كلَّهم كانت دعوتُهم إلى الإسلام، وأصلُه: عبادة الله وحده لا شريك له» إلى أن قال: «فأخبر تعالى أنه بعث رُسُلَه بالإسلام، ولكنَّهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصَّة التي ينسخ بعضها بعضًا، إلى أن نُسخت بشريعة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم التي لا تُنسخ أبدَ الآبدين، ولا تزال قائمةً منصورةً، وأعلامها منشورةً إلى قيام الساعة، ولهذا قال عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ: دِينُنَا وَاحِدٌ»، فإنَّ أولاد العَلاَّت هم الإخوة من أبٍ واحدٍ وأمَّهاتٍ شتَّى، فالدين واحدٌ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوَّعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمَّهات».
(٥) وفي نسخة: محمَّد الحسن فضلاء بزيادة قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى ضَرِّكَ أَوْ نَفْعِكَ لاَ يَضُرُّونَكَ وَلاَ يَنْفَعُونَكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ».
(٦) هو أبو عيسى محمَّد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحَّاك السُّلَميُّ البوغيُّ الترمذيُّ، أحد الأئمَّة المشهورين بالإتقان والحفظ الذين يُقتدى بهم في علم الحديث، وهو أحد تلاميذ الإمام البخاريِّ، شاركه في بعض شيوخه، من مؤلَّفاته: «الجامع الصحيح» و«العلل» و«الشمائل» و«أسماء الصحابة»، تُوفِّي بترمذ سنة (٢٧٩ﻫ-٨٩٢م).
انظر ترجمته في: «الفهرست» للنديم (٢٨٩)، «الكامل» (٧/ ٤٦٠) و«اللباب» (١/ ٢١٣) كلاهما لابن الأثير، «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان (٤/ ٢٧٨)، «سير أعلام النبلاء» (١٣/ ٢٧٠) و«ميزان الاعتدال» (٣/ ٦٧٨) و«الكاشف» (٣/ ٨٦) و«دول الإسلام» (١٦٨) كلُّها للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ٦٦)، «تهذيب التهذيب» (٩/ ٣٨٧) و«تقريب التهذيب» (٢/ ١٩٨) كلُّها لابن حجر، «طبقات الحفَّاظ» للسيوطي (٢٨٢)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (١/ ٢٤١).
(٧) أخرجه الترمذيُّ في «سننه» في «صفة القيامة» (٤/ ٦٦٧) رقم (٢٥١٦) باب: ٥٩، وأحمد في «مسنده» (١/ ٢٩٣)، وأبو يعلى في «مسنده» (٤/ ٤٣٠)، والطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (١٢/ ٢٣٨) و«المعجم الأوسط» (٥/ ٣١٦) و«الدعاء» (٣٤)، والحاكم في «المستدرك» (٣/ ٦٢٣)، وابن وهبٍ في «القدر» (١٣٠)، وابن أبي عاصمٍ في «السنَّة» (١/ ١٣٨)، والآجرِّيُّ في «الشريعة» (١٩٨)، قال الترمذيُّ: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ»، والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦/ ٣٠٠)، وفي «صحيح سنن الترمذي» (٢/ ٢٠٩-٢١٠)