السؤال:
ما حكم أخذ الداعية أجراً مقابل مصنفاته ، وأشرطته ، وإلقائه الدروس عبر
القنوات الفضائية ؟ وهل الحكم يختلف باختلاف النية بحيث تكون الأولى من أجل
الكسب فقط ، والثانية نفع الأمة لكن يحصل الكسب ؟
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
تأليف الكتب ، وإنتاج الأشرطة يعتبران من الحقوق الخاصة بأصحابها ، وهي حقوق مصونة
في الشرع ، فلا يجوز الاعتداء عليها بالنسخ ، أو الطباعة ، أو الإنتاج ، من غير إذن
أصحابها ، ولا حرج على أصحابها في طلب مبالغ مقابلها .
وقد
ذكرنا في جواب السؤال رقم : (
21899 ) قرار " مجلس الفقه الإسلامي " : أن حقوق التأليف ، والاختراع ، أو
الابتكار : مصونة شرعاً ، ولأصحابها حق التصرف فيها ، ولا يجوز الاعتداء عليها .
ثانياً:
أما
أخذ الداعية ، أو العالِم مالاً مقابل تعليمه الناس الأحكام الشرعية ، أو كيفية
قراءة القرآن ، في المساجد ، أو المدارس ، أو الفضائيات : فإن كان ما يُعطاه من بيت
مال المسلمين [أموال الدولة] : فلا خلاف في جوازه ، وإن كان يُعطاه من غيره :
فللعلماء فيه أقوال ثلاثة :
1.
الجواز ، وهو قول جمهور العلماء ، من المالكية ، والشافعية ، وبه قال متأخرو
الحنفية ، وهو الذي يرجحه الشيخان ابن باز ، والعثيمين ، رحمهما الله ، وعلماء
اللجنة الدائمة للإفتاء.
2.
المنع ، وهو قول المتقدمين من الحنفية ، ورواية عن الإمام أحمد .
3.
الجواز للحاجة [كما لو كان العالم فقيراً محتاجاً إلى المال] ، وهو رواية عن الإمام
أحمد ، وقد مال إلى القول به : شيخ الإسلام ابن تيمية .
جاء
في " الموسوعة الفقهية " ( 13 / 14 – 16 ) :
"لا
خلاف بين الفقهاء في جواز أخذ الرِّزق من بيت المال على تعليم القرآن ، وتدريس علم
نافع ، من حديث ، وفقه ، ونحوهما ؛ لأن هذا الرزق ليس أجرة من كل وجه ، بل هو
كالأجرة .
وإنما اختلفوا في الاستئجار لتعليم القرآن ، والحديث ، والفقه ، ونحوهما من العلوم
الشرعية : فيرى متقدمو الحنفية - وهو المذهب عند الحنابلة - عدم صحة الاستئجار
لتعليم القرآن ، والعلم الشرعي ، كالفقه ، والحديث ؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي
الله عنه قال : علمتُ ناسا من أهل الصفَّة القرآن ، والكتابة ، فأهدى إليَّ رجل
منهم قوساً ، قال : قلت : قوس ، وليس بمال ، قال : قلت : أتقلدها في سبيل الله ،
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وقصصت عليه القصة ، فقلت : يا رسول الله ، رجل
أهدى إليَّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن ، وليست بمال ، وأرمي عنها في سبيل
الله ، قال : ( إن كنتَ تحبُّ أن تُطوَّق طوقاً من نارٍ فَاقْبَلْها ) ؛ وحديث أبي
بن كعب رضي الله عنه ، أنه عَلَّم رجلا سورة من القرآن ، فأهدى له خميصة ، أو ثوبا
، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنَّكَ لَوْ لَبِسْتَها لأَلْبَسَك
الله مَكَانَها ثَوْباً مِن نارٍ ) ؛ ولأنه استئجار لعمل مفروض ، فلا يجوز ،
كالاستئجار للصوم والصلاة ... ؛ ولأن الاستئجار على تعليم القرآن والعلم سبب لتنفير
الناس على تعليم القرآن والعلم ؛ لأن ثقل الأجر يمنعهم من ذلك ، وإلى هذا أشار الله
جل شأنه في قوله عز وجل : ( أََمْ تَسْأَلهُم أَجْراً فَهُم من مغْرَمٍ مُثْقَلُون
) فيؤدي إلى الرغبة عن هذه الطاعة ، وهذا لا يجوز .
وذهب متأخرو الحنفية - وهو المختار للفتوى عندهم - والمالكية في قول ، وهو القول
الآخر عند الحنابلة - يؤخذ مما نقله أبو طالب عن أحمد - إلى جواز الاستئجار على
تعليم القرآن والفقه ، لخبر : ( إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتم عَلَيْهِ أَجْراَ كِتَاب
الله ) ؛ ولما روي عن عبد الجبار بن عمر أنه قال : (كل من سألت من أهل المدينة لا
يرى بتعليم الغلمان بالأجر بأساً) ؛ ولأن الحفاظ ، والمعلمين - نظراً لعدم وجود
عطيات لهم في بيت المال - ربما اشتغلوا بمعاشهم ، فلا يتفرغون للتعليم حسبة ، إذ
حاجتهم تمنعهم من ذلك ، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر : لذهب العلم ، وقلَّ
حفاظ القرآن .
والمذهب عند المالكية : جواز الاستئجار على تعليم القرآن ، أما الإجارة على تعليم
الفقه وغيره من العلوم ، كالنحو والأصول والفرائض فإنها مكروهة عندهم .
وفرَّق المالكية بين جواز الإجارة على تعليم القرآن ، وكراهتها على تعليم غيره :
بأن القرآن كله حق لا شك فيه ، بخلاف ما عداه مما هو ثابت بالاجتهاد ، فإن فيه الحق
والباطل ، وأيضا فإن تعليم الفقه بأجرة ليس عليه العمل ، بخلاف القرآن ، كما أن أخذ
الأجرة على تعليمه يؤدي إلى تقليل طالبه .
وذهب الشافعية - على الأصح - إلى جواز الاستئجار لتعليم القرآن ، بشرط تعيين السورة
والآيات التي يعلمها ، فإن أخل بأحدهما لم يصح ، وقيل : لا يشترط تعيين واحد منهما
، أما الاستئجار لتدريس العلم : فقالوا : بعدم جوازه إلا أن يكون الاستئجار لتعليم
مسألة ، أو مسائل مضبوطة ، فيجوز" انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :
ولهذا لما تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، ونحوه : كان فيه ثلاثة
أقوال في مذهب الإمام أحمد ، وغيره ، أعدلها : أنه يباح للمحتاج .
قال
أحمد : أجرة التعليم خير من جوائز السلطان ، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان .
"
مجموع فتاوى ابن تيمية " ( 30 / 192 ، 193 ) .
وأدلة الجواز قوية ، لا يمكن دفعها ، كحديث الصحيحين : ( إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتم
عَلَيْهِ أَجْراَ كِتَاب الله ) ، وكذا حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم
صحابيّاً على تعليم امرأته القرآن .
قال
علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
"يجوز لك أن تأخذ أجراً على تعليم القرآن ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج
رجلا امرأة بتعليمه إياها ما معه من القرآن ، وكان ذلك صداقها ، وأخذ الصحابي أجرة
على شفاء مريض كافر بسبب رقيته إياه بفاتحة الكتاب ، وقال في ذلك النبي صلى الله
عليه وسلم : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ) أخرجه البخاري ومسلم ، وإنما
المحظور : أخذ الأجرة على نفس تلاوة القرآن ، وسؤال الناس بقراءته" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ،
الشيخ عبد الله بن قعود .
"
فتاوى اللجنة الدائمة " ( 15 / 96 ) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
"لا
حرج في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وتعليم العلم ؛ لأن الناس في حاجة إلى
التعليم ؛ ولأن المعلم قد يشق عليه ذلك ، ويعطله التعليم عن الكسب , فإذا أخذ أجرة
على تعليم القرآن ، وتحفيظه ، وتعليم العلم : فالصحيح أنه لا حرج في ذلك ... ثم
استدل بحديث أخذ الأجرة على الرقية ... ثم قال : وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن
أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ) رواه البخاري في الصحيح أيضاً , فهذا يدل على
أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم ، كما جاز أخذها على الرقية .
"
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 5 / 364 ، 365 ) .
ثالثاً:
أما
ما استدل به المانعون : فحديث عبادة بن الصامت وحديث أبي بن كعب رضي الله عنهما قد
ضعفهما بعض أهل العلم :
قال
ابن عبد البر رحمه الله :
وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم ؛ لأنه روي عن عبادة من وجهين ، وروي عن أبي
بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي بن كعب ، وهو منقطع .
وليس في هذا الباب حديث يجب به حجة من جهة النقل ، والله أعلم .
"
التمهيد " ( 21 / 114 ) .
وقال ابن بطَّال رحمه الله :
"واحتجوا بأحاديث ضعاف ، منها : حديث عبادة بن الصامت ...
وأما قول الطحاوى : إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضاً فرض : فغلط ؛ لأن تعلم
القرآن ليس بفرض ، فكيف تعليمه ؟! وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد : ما تقوم به
الصلاة ، وغير ذلك : فضيلة ، ونافلة ، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضاً الصلاة ليس
بفرض متعين عليهم ، وإنما هو على الكفاية ، ولا فرق بين الأجرة على الرقَى ، وعلى
تعليم القرآن ؛ لأن ذلك كله منفعة .
وقوله عليه السلام : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ) هو عام يدخل فيه
إباحة التعليم وغيره ، فسقط قولهم" انتهى باختصار .
"
شرح صحيح البخاري " ( 6 / 405 ، 406 ) .
رابعاً:
أما
ضابط النية في تحصيل الأجر الأخروي مع الدنيوي : فهو ما قاله بعض الأئمة ، ومنهم
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من التفريق بين من يقوم بالعمل الصالح ليأخذ الأجر
، وبين من يأخذ ليقوم به ، فالأول فعله حسن ، والثاني : ليس له في الآخرة أجر ،
وإنما أخذ أجره في الدنيا ، والأول يقصد الدين ، والمال وسيلة له ، والثاني يقصد
المال ، والدين وسيلة له ، وشتان ما بينهما .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وجماع هذا : أن المستحب : أن يأخذ ليحج ، لا أن يحج ليأخذ ، وهذا في جميع الأرزاق
المأخوذة على عمل صالح ، فمن ارتزق ليتعلم ، أو ليعلِّم ، أو ليجاهد : فحسن ، كما
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون
أجورهم مثل أم موسى ترضع ابنها ، وتأخذ أجرها ) ، شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه
كرغبة أم موسى في الإرضاع ، بخلاف الظئر (المرضعة) المستأجر على الرضاع إذا كانت
أجنبية .
وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق : فهذا من أعمال الدنيا ، ففرق بين من
يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ، ومن تكون الدنيا مقصوده ، والدين وسيلة ،
والأشبه : أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق ، كما دلت عليه نصوص ، ليس هذا موضعها .
"
مجموع الفتاوى " ( 26 / 19 ، 20 ) .
فالوصية لأهل العلم وطلاَّبه أن يقصدوا في خروجهم على الفضائيات : تعليم الناس ،
ورفع الجهل عنهم ، ونشر الاعتقاد الصحيح ، ومن أغناه الله من فضله فليستعفف عن
المال ، ومن احتاج فليأخذ ما يتيسر له دون اشتراط مبالغ باهظة ، وليجعل المال وسيلة
له ، لا غاية ، حتى لا يُحرم الأجر الأخروي .
والوصية للمؤلفين ، والخطباء ، والمدرسين ، أن يراعوا أحوال الناس ، وأن لا يبالغوا
في حقوق الطبع ، والتأليف ، والتوزيع ، وليكن على بالهم الأجور الأخروية ، والثواب
الجزيل من الله لمن نشر علماً ، أو رفع جهلاً ، والفوز برضا الله وثوابه لا يعدله
شيء .
والله أعلم
ما حكم أخذ الداعية أجراً مقابل مصنفاته ، وأشرطته ، وإلقائه الدروس عبر
القنوات الفضائية ؟ وهل الحكم يختلف باختلاف النية بحيث تكون الأولى من أجل
الكسب فقط ، والثانية نفع الأمة لكن يحصل الكسب ؟
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
تأليف الكتب ، وإنتاج الأشرطة يعتبران من الحقوق الخاصة بأصحابها ، وهي حقوق مصونة
في الشرع ، فلا يجوز الاعتداء عليها بالنسخ ، أو الطباعة ، أو الإنتاج ، من غير إذن
أصحابها ، ولا حرج على أصحابها في طلب مبالغ مقابلها .
وقد
ذكرنا في جواب السؤال رقم : (
21899 ) قرار " مجلس الفقه الإسلامي " : أن حقوق التأليف ، والاختراع ، أو
الابتكار : مصونة شرعاً ، ولأصحابها حق التصرف فيها ، ولا يجوز الاعتداء عليها .
ثانياً:
أما
أخذ الداعية ، أو العالِم مالاً مقابل تعليمه الناس الأحكام الشرعية ، أو كيفية
قراءة القرآن ، في المساجد ، أو المدارس ، أو الفضائيات : فإن كان ما يُعطاه من بيت
مال المسلمين [أموال الدولة] : فلا خلاف في جوازه ، وإن كان يُعطاه من غيره :
فللعلماء فيه أقوال ثلاثة :
1.
الجواز ، وهو قول جمهور العلماء ، من المالكية ، والشافعية ، وبه قال متأخرو
الحنفية ، وهو الذي يرجحه الشيخان ابن باز ، والعثيمين ، رحمهما الله ، وعلماء
اللجنة الدائمة للإفتاء.
2.
المنع ، وهو قول المتقدمين من الحنفية ، ورواية عن الإمام أحمد .
3.
الجواز للحاجة [كما لو كان العالم فقيراً محتاجاً إلى المال] ، وهو رواية عن الإمام
أحمد ، وقد مال إلى القول به : شيخ الإسلام ابن تيمية .
جاء
في " الموسوعة الفقهية " ( 13 / 14 – 16 ) :
"لا
خلاف بين الفقهاء في جواز أخذ الرِّزق من بيت المال على تعليم القرآن ، وتدريس علم
نافع ، من حديث ، وفقه ، ونحوهما ؛ لأن هذا الرزق ليس أجرة من كل وجه ، بل هو
كالأجرة .
وإنما اختلفوا في الاستئجار لتعليم القرآن ، والحديث ، والفقه ، ونحوهما من العلوم
الشرعية : فيرى متقدمو الحنفية - وهو المذهب عند الحنابلة - عدم صحة الاستئجار
لتعليم القرآن ، والعلم الشرعي ، كالفقه ، والحديث ؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي
الله عنه قال : علمتُ ناسا من أهل الصفَّة القرآن ، والكتابة ، فأهدى إليَّ رجل
منهم قوساً ، قال : قلت : قوس ، وليس بمال ، قال : قلت : أتقلدها في سبيل الله ،
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وقصصت عليه القصة ، فقلت : يا رسول الله ، رجل
أهدى إليَّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن ، وليست بمال ، وأرمي عنها في سبيل
الله ، قال : ( إن كنتَ تحبُّ أن تُطوَّق طوقاً من نارٍ فَاقْبَلْها ) ؛ وحديث أبي
بن كعب رضي الله عنه ، أنه عَلَّم رجلا سورة من القرآن ، فأهدى له خميصة ، أو ثوبا
، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنَّكَ لَوْ لَبِسْتَها لأَلْبَسَك
الله مَكَانَها ثَوْباً مِن نارٍ ) ؛ ولأنه استئجار لعمل مفروض ، فلا يجوز ،
كالاستئجار للصوم والصلاة ... ؛ ولأن الاستئجار على تعليم القرآن والعلم سبب لتنفير
الناس على تعليم القرآن والعلم ؛ لأن ثقل الأجر يمنعهم من ذلك ، وإلى هذا أشار الله
جل شأنه في قوله عز وجل : ( أََمْ تَسْأَلهُم أَجْراً فَهُم من مغْرَمٍ مُثْقَلُون
) فيؤدي إلى الرغبة عن هذه الطاعة ، وهذا لا يجوز .
وذهب متأخرو الحنفية - وهو المختار للفتوى عندهم - والمالكية في قول ، وهو القول
الآخر عند الحنابلة - يؤخذ مما نقله أبو طالب عن أحمد - إلى جواز الاستئجار على
تعليم القرآن والفقه ، لخبر : ( إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتم عَلَيْهِ أَجْراَ كِتَاب
الله ) ؛ ولما روي عن عبد الجبار بن عمر أنه قال : (كل من سألت من أهل المدينة لا
يرى بتعليم الغلمان بالأجر بأساً) ؛ ولأن الحفاظ ، والمعلمين - نظراً لعدم وجود
عطيات لهم في بيت المال - ربما اشتغلوا بمعاشهم ، فلا يتفرغون للتعليم حسبة ، إذ
حاجتهم تمنعهم من ذلك ، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر : لذهب العلم ، وقلَّ
حفاظ القرآن .
والمذهب عند المالكية : جواز الاستئجار على تعليم القرآن ، أما الإجارة على تعليم
الفقه وغيره من العلوم ، كالنحو والأصول والفرائض فإنها مكروهة عندهم .
وفرَّق المالكية بين جواز الإجارة على تعليم القرآن ، وكراهتها على تعليم غيره :
بأن القرآن كله حق لا شك فيه ، بخلاف ما عداه مما هو ثابت بالاجتهاد ، فإن فيه الحق
والباطل ، وأيضا فإن تعليم الفقه بأجرة ليس عليه العمل ، بخلاف القرآن ، كما أن أخذ
الأجرة على تعليمه يؤدي إلى تقليل طالبه .
وذهب الشافعية - على الأصح - إلى جواز الاستئجار لتعليم القرآن ، بشرط تعيين السورة
والآيات التي يعلمها ، فإن أخل بأحدهما لم يصح ، وقيل : لا يشترط تعيين واحد منهما
، أما الاستئجار لتدريس العلم : فقالوا : بعدم جوازه إلا أن يكون الاستئجار لتعليم
مسألة ، أو مسائل مضبوطة ، فيجوز" انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :
ولهذا لما تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، ونحوه : كان فيه ثلاثة
أقوال في مذهب الإمام أحمد ، وغيره ، أعدلها : أنه يباح للمحتاج .
قال
أحمد : أجرة التعليم خير من جوائز السلطان ، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان .
"
مجموع فتاوى ابن تيمية " ( 30 / 192 ، 193 ) .
وأدلة الجواز قوية ، لا يمكن دفعها ، كحديث الصحيحين : ( إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتم
عَلَيْهِ أَجْراَ كِتَاب الله ) ، وكذا حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم
صحابيّاً على تعليم امرأته القرآن .
قال
علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
"يجوز لك أن تأخذ أجراً على تعليم القرآن ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج
رجلا امرأة بتعليمه إياها ما معه من القرآن ، وكان ذلك صداقها ، وأخذ الصحابي أجرة
على شفاء مريض كافر بسبب رقيته إياه بفاتحة الكتاب ، وقال في ذلك النبي صلى الله
عليه وسلم : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ) أخرجه البخاري ومسلم ، وإنما
المحظور : أخذ الأجرة على نفس تلاوة القرآن ، وسؤال الناس بقراءته" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ،
الشيخ عبد الله بن قعود .
"
فتاوى اللجنة الدائمة " ( 15 / 96 ) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
"لا
حرج في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وتعليم العلم ؛ لأن الناس في حاجة إلى
التعليم ؛ ولأن المعلم قد يشق عليه ذلك ، ويعطله التعليم عن الكسب , فإذا أخذ أجرة
على تعليم القرآن ، وتحفيظه ، وتعليم العلم : فالصحيح أنه لا حرج في ذلك ... ثم
استدل بحديث أخذ الأجرة على الرقية ... ثم قال : وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن
أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ) رواه البخاري في الصحيح أيضاً , فهذا يدل على
أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم ، كما جاز أخذها على الرقية .
"
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 5 / 364 ، 365 ) .
ثالثاً:
أما
ما استدل به المانعون : فحديث عبادة بن الصامت وحديث أبي بن كعب رضي الله عنهما قد
ضعفهما بعض أهل العلم :
قال
ابن عبد البر رحمه الله :
وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم ؛ لأنه روي عن عبادة من وجهين ، وروي عن أبي
بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي بن كعب ، وهو منقطع .
وليس في هذا الباب حديث يجب به حجة من جهة النقل ، والله أعلم .
"
التمهيد " ( 21 / 114 ) .
وقال ابن بطَّال رحمه الله :
"واحتجوا بأحاديث ضعاف ، منها : حديث عبادة بن الصامت ...
وأما قول الطحاوى : إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضاً فرض : فغلط ؛ لأن تعلم
القرآن ليس بفرض ، فكيف تعليمه ؟! وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد : ما تقوم به
الصلاة ، وغير ذلك : فضيلة ، ونافلة ، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضاً الصلاة ليس
بفرض متعين عليهم ، وإنما هو على الكفاية ، ولا فرق بين الأجرة على الرقَى ، وعلى
تعليم القرآن ؛ لأن ذلك كله منفعة .
وقوله عليه السلام : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ) هو عام يدخل فيه
إباحة التعليم وغيره ، فسقط قولهم" انتهى باختصار .
"
شرح صحيح البخاري " ( 6 / 405 ، 406 ) .
رابعاً:
أما
ضابط النية في تحصيل الأجر الأخروي مع الدنيوي : فهو ما قاله بعض الأئمة ، ومنهم
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من التفريق بين من يقوم بالعمل الصالح ليأخذ الأجر
، وبين من يأخذ ليقوم به ، فالأول فعله حسن ، والثاني : ليس له في الآخرة أجر ،
وإنما أخذ أجره في الدنيا ، والأول يقصد الدين ، والمال وسيلة له ، والثاني يقصد
المال ، والدين وسيلة له ، وشتان ما بينهما .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وجماع هذا : أن المستحب : أن يأخذ ليحج ، لا أن يحج ليأخذ ، وهذا في جميع الأرزاق
المأخوذة على عمل صالح ، فمن ارتزق ليتعلم ، أو ليعلِّم ، أو ليجاهد : فحسن ، كما
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون
أجورهم مثل أم موسى ترضع ابنها ، وتأخذ أجرها ) ، شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه
كرغبة أم موسى في الإرضاع ، بخلاف الظئر (المرضعة) المستأجر على الرضاع إذا كانت
أجنبية .
وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق : فهذا من أعمال الدنيا ، ففرق بين من
يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ، ومن تكون الدنيا مقصوده ، والدين وسيلة ،
والأشبه : أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق ، كما دلت عليه نصوص ، ليس هذا موضعها .
"
مجموع الفتاوى " ( 26 / 19 ، 20 ) .
فالوصية لأهل العلم وطلاَّبه أن يقصدوا في خروجهم على الفضائيات : تعليم الناس ،
ورفع الجهل عنهم ، ونشر الاعتقاد الصحيح ، ومن أغناه الله من فضله فليستعفف عن
المال ، ومن احتاج فليأخذ ما يتيسر له دون اشتراط مبالغ باهظة ، وليجعل المال وسيلة
له ، لا غاية ، حتى لا يُحرم الأجر الأخروي .
والوصية للمؤلفين ، والخطباء ، والمدرسين ، أن يراعوا أحوال الناس ، وأن لا يبالغوا
في حقوق الطبع ، والتأليف ، والتوزيع ، وليكن على بالهم الأجور الأخروية ، والثواب
الجزيل من الله لمن نشر علماً ، أو رفع جهلاً ، والفوز برضا الله وثوابه لا يعدله
شيء .
والله أعلم