السؤال:
يسألني النصارى أين توجد نسخ القرآن التي نسخها عثمان بن عفان ؟ فلا أستطيع إجابتهم .
الجواب :
الحمد لله
هذا السؤال يحتمل أمرين :
الأول : أن يكون سؤال استفهام حقيقي عن مكان وجود المصاحف التي أمر عثمان بن عفان
رضي الله عنه بنسخها ، وبعث بها إلى أمصار المسلمين ليعتمدوها ويحرقوا ما سواها ،
فالجواب عن هذا الاستفهام أنه لم يثبت لدينا شيء عن مكان وجود هذه المصاحف اليوم ،
ولا عن صحة ما تدعيه بعض المتاحف في العالم من احتوائها على بعض المصاحف العثمانية
أو حتى مصحف عثمان الشخصي " المصحف الإمام "، وإن كنا كذلك لا ننفي صحة هذه
الاحتمالات ، فعالم المخطوطات عالم عميق عمق التاريخ ، ومعقد بتعقيداته ، ولا يبعد
أن تكون بعض المصاحف المسماة بالعثمانية اليوم هي فعلا تلك التي نسخت بأمر عثمان
رضي الله عنه .
وللاطلاع على تفاصيل هذا الموضوع يمكن قراءة كتاب " أضواء على مصحف عثمان بن عفان
رضي الله عنه ورحلته شرقا وغربا " للدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم ، طبع مؤسسة
شباب الجامعة ، الإسكندرية ، 1991م.
يقول الشيخ الزرقاني رحمه الله :
" ليس بين أيدينا دليل قاطع على وجود المصاحف العثمانية الآن ، فضلا عن تعيين
أمكنتها ، وقصارى ما علمناه أخيرا أن ابن الجزري رأى في زمانه مصحف أهل الشام ،
ورأى في مصر مصحفا أيضا .
أما المصاحف الأثرية التي تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر ويقال عنها إنها
مصاحف عثمانية : فإننا نشك كثيرا في صحة هذه النسبة إلى عثمان رضي الله عنه ؛ لأن
بها زركشة ونقوشا موضوعة كعلامات للفصل بين السور ، ولبيان أعشار القرآن ، ومعلوم
أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا ، ومن النقط والشكل أيضا .
نعم إن المصحف المحفوظ في خزانة الآثار بالمسجد الحسيني والمنسوب إلى عثمان رضي
الله عنه مكتوب بالخط الكوفي القديم ، مع تجويف حروفه وسعة حجمه جدا ، ورسمه يوافق
رسم المصحف المدني أو الشامي ، حيث رسم فيه كلمة : ( من يرتدد ) من سورة المائدة
بدالين اثنين مع فك الإدغام ، وهي فيها بهذا الرسم .
فأكبر الظن أن هذا المصحف منقول من المصاحف العثمانية على رسم بعضها .
وكذلك المصحف المحفوظ بتلك الخزانة ، ويقال إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتبه
بخطه ، يلاحظ فيه أنه مكتوب بذلك الخط الكوفي القديم ، بيد أنه أصغر حجما ، وخطه
أقل تجويفا من سابقه ، ورسمه يوافق غير المدني والشامي من المصاحف العثمانية حيث
رسمت فيه الكلمة السابقة : ( من يرتد ) بدال واحدة مع الإدغام ، وهي في غيرهما كذلك
.
فمن الجائز أن يكون كاتبه عليا ، أو يكون قد أمر بكتابته في الكوفة .
" مناهل العرفان " (1/404-405)
ويقول الدكتور غانم القدوري :
" مسألة مصير المصاحف العثمانية الأصلية ، وهل من المحتمل أن يكون قد بقي منها شيء
: هي مسألة تاريخية كبيرة ، ليس من اليسير – هنا – الإلمام بكل جوانبها ، ونكتفي
بالإشارة إلى أن العلماء قد رووا – في وقت مبكر – ذهاب تلك المصاحف ، ولا شك أن من
روى ذلك كانت روايته بقدر ما عرفه ، ولا ينفي أن تكون المصاحف العثمانية قد بقيت
لعدة قرون بعد ذلك :
فبينما نجد الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) يسأله ابن وهب عن مصحف عثمان رضي الله عنه
، فيقول : بأنه ذهب ، نجده يخرج لهم مصحفا قديما كان قد كتبه جده إذ كتب عثمان
المصاحف .
ويُروى أن أبا عبيد قال : إنه رأى الإمام مصحف عثمان ، استخرج له من بعض خزائن
الأمراء ، وأنه رأى فيه أثر دمه .
ويشير الداني (ت 444هـ) كثيرا إلى تتبعه بعض الحروف في المصاحف العتق ، فيقول –
مثلا – إنه رأى مصحفا جامعا عتيقا كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك سنة عشر
ومائة كان تاريخه في آخره .
كذلك يَروي ابن كثير (ت 774هـ) وابن الجزري (ت 833هـ) أنهما رأيا بعض المصاحف
القديمة المكتوبة على الرق في جامع دمشق وفي مصر كذلك .
فهذه الروايات تشير إلى احتمال أن تكون المصاحف العثمانية الأصلية قد ظلت موجودة
دهرا طويلا في المساجد الجامعة ، خاصة إذا تصورنا ما حظيت به تلك المصاحف من
الرعاية والاحترام ، فهي المصاحف الأئمة التي نسخ الناس عنها مصاحفهم في الأمصار
بعد إجماع الأمة على المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان رضي الله عنه .
ومن الملاحظ أن أئمة رواية الرسم كثيرا ما يقولون إنهم رأوا كلمة معينة في المصحف
الإمام مصحف عثمان ، كالذي يروى عن أبي عبيد ، وعاصم الجحدري ، ويحيى بن الحارث ،
وأبي حاتم ، ولعل كلمة المصحف الإمام كانت تشمل جميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان
رضي الله عنه في أي مصر من الأمصار ، وليس مصحف المدينة أو المصحف الخاص بالخليفة
فحسب ، وربما تشمل أيضا المصاحف الكبيرة التي كانت توضع في المساجد الجامعة للقراءة
أو لنسخ المصاحف منها ، والتي نسخت من المصاحف العثمانية الأصلية ، ولعل ذلك يفسر
لنا أيضا ما يكتب في آخر بعض المصاحف من أنه بخط الخليفة عثمان ، أي بنفس الهجاء
الذي كتبت عليه المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان رضي الله عنه .
وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف القديمة ، أو قطع منها قد
كتبت على الرق ، وبالخط الكوفي القديم ، مجردة من النقط والشكل ، ومن كثير مما ألحق
بالمصاحف من أسماء السور وعدد آيها وغير ذلك ، بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت
عليها المصاحف الأولى .
ويثار السؤال القديم مرة أخرى في الوقت الحاضر ، وهو : هل يمكن أن يكون واحد من هذه
المصاحف القديمة الباقية أحد المصاحف العثمانية الأصلية ؟
إن أغلب الباحثين أَمْيَل إلى استبعاد ذلك ، إذ من المتعذر اليوم العثور على مصحف
كامل كتب في القرن الهجري الأول أو الثاني وعليه تاريخ نسخه أو اسم ناسخه ، وكذلك
فإنها في الغالب غير مجردة تماما من العلامات التي أدخلت في وقت متأخر ، إلى جانب
أن إقرار ذلك يحتاج إلى أدلة تاريخية ومادية واضحة وقوية ، ودراسة متعددة الوجود ،
وهو ما لم يتح للدارسين بعد القيام بها .
ومهما كان الرأي في تلك المصاحف فإنها – دون شك – قديمة ترجع إلى القرون الهجرية
الأولى ، بل ربما إلى القرن الأول بالذات ، خاصة حين لا يظهر فيها أي أثر للإصلاحات
التي أدخلت على الخط العربي في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ، إلا بعض
العلامات النادرة أحيانا ، فهي بذلك أقرب إلى الفترة التي يحتمل أن تكون المصاحف
العثمانية موجودة فيها ، وربما نسخت منها أو من مصحف نسخ من أحدها ، وهي لذلك خير
ما يمثل واقع الرسم الذي نسخت به المصاحف العثمانية .
وتملك مكتبات التراث الإسلامية في مصر خير مجموعة من تلك المصاحف القديمة ، كذلك
يروى أن أحد تلك المصاحف القديمة كان موجودا في الحرم النبوي في المدينة المنورة
حتى الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، حيث نقله العثمانيون إلى الآستانة مع
انسحابهم من أراضي الحجاز ، ويقال إنه انتقل إلى ألمانيا .
ومنها مصحف محفوظ الآن في مدينة طشقند في تركستان الإسلامية في روسيا ، وقد قامت
بنشره – في مطلع هذا القرن – جمعية الآثار القديمة الروسية ، وطبعت منه خمسين نسخة
، ومع ذلك فإن الدراسات عن تلك المصاحف القديمة وعددها في مكتبات العالم لا تزال
قليلة " انتهى باختصار يسير.
" رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية " (ص/188-191)
الاحتمال الثاني الذي يحتمله هذا السؤال : أن يكون الغرض منه التشكيك في المصاحف
الموجودة بين أيدينا اليوم : وهذا ما نستبعده عن السائل لظهور خطئه ؛ فإن تواتر نقل
القرآن الكريم عبر مئات الآلاف من الأسانيد المتصلة والكتب والمصاحف والمخطوطات أمر
مشهور معروف ، ولو أنشئت المؤسسات العلمية الكبيرة لحصر هذه الأسانيد والمصاحف
والكتب وجمع أدلة تواتر القرآن الكريم لما أمكنها ذلك ، تماما كما لو أنشأنا مؤسسة
بحثية لإثبات تواتر خبر وجود دولة كالصين مثلا في عالم الناس اليوم ، فهل يطلب عاقل
القيام بذلك ، وهل بالإمكان حصر جميع الأخبار ، والآثار ، والمشاهدات ، التي وقعت
لكل إنسان رأى الصين ، أو جاءه شيء منها ، أو اتصل به خبرها بوجه ما ؟!!
ثم مع ذلك كله ، بل فوق ذلك كله : حفظ القرآن في الصدور ، ونقله شفاها ، شخصا عن
شخص ، وجيلا عن جيل ، وقرنا عن قرن ، من أول نزول الوحي على نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم ، إلى يوم الناس هذا ، لا يختلفون ولا يمترون فيه .
والمصاحف العثمانية إنما أخذت عن تواتر القرآن الكريم في عهد الصحابة رضوان الله
عليهم وليست هي المصدر الأول لرواية القرآن ، فكيف نقلب المنهج اليوم وننفي تواتر
القرآن بعدم وقوفنا على المصاحف العثمانية .
يقول العلامة الزرقاني رحمه الله:
" ثم إن عدم بقاء المصاحف العثمانية قاطبة لا يضرنا شيئا ، ما دام المعول عليه هو
النقل والتلقي ثقة عن ثقة ، وإماما عن إمام ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك
متواتر مستفيض على أكمل وجه في القرآن حتى الآن .
على أن المصاحف العثمانية نسخت على غرارها الآلاف المؤلفة في كل عصر ومصر ، مع
المحافظة على الرسم العثماني " انتهى.
" مناهل العرفان " (1/405)
فقل لسائلك ، بدلا من أن تتحير :
أين عشر معشار ذلك كله ، وأدنى منه بكثير ، لشيء من كتبكم ، ودينكم ؟!
لقد ذكرنا سؤال هذا النصراني بقول الشاعر حافظ إبراهيم رحمه الله :
يا ساكِنَ البَيتِ الزُجا جِ ، هَبِلتَ ، لا
تَرمِ الحُصونا
أَرَأَيتَ قَبلَكَ عارِياً يَبغي نِزالَ
الدارِعينا
والله أعلم .
يسألني النصارى أين توجد نسخ القرآن التي نسخها عثمان بن عفان ؟ فلا أستطيع إجابتهم .
الجواب :
الحمد لله
هذا السؤال يحتمل أمرين :
الأول : أن يكون سؤال استفهام حقيقي عن مكان وجود المصاحف التي أمر عثمان بن عفان
رضي الله عنه بنسخها ، وبعث بها إلى أمصار المسلمين ليعتمدوها ويحرقوا ما سواها ،
فالجواب عن هذا الاستفهام أنه لم يثبت لدينا شيء عن مكان وجود هذه المصاحف اليوم ،
ولا عن صحة ما تدعيه بعض المتاحف في العالم من احتوائها على بعض المصاحف العثمانية
أو حتى مصحف عثمان الشخصي " المصحف الإمام "، وإن كنا كذلك لا ننفي صحة هذه
الاحتمالات ، فعالم المخطوطات عالم عميق عمق التاريخ ، ومعقد بتعقيداته ، ولا يبعد
أن تكون بعض المصاحف المسماة بالعثمانية اليوم هي فعلا تلك التي نسخت بأمر عثمان
رضي الله عنه .
وللاطلاع على تفاصيل هذا الموضوع يمكن قراءة كتاب " أضواء على مصحف عثمان بن عفان
رضي الله عنه ورحلته شرقا وغربا " للدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم ، طبع مؤسسة
شباب الجامعة ، الإسكندرية ، 1991م.
يقول الشيخ الزرقاني رحمه الله :
" ليس بين أيدينا دليل قاطع على وجود المصاحف العثمانية الآن ، فضلا عن تعيين
أمكنتها ، وقصارى ما علمناه أخيرا أن ابن الجزري رأى في زمانه مصحف أهل الشام ،
ورأى في مصر مصحفا أيضا .
أما المصاحف الأثرية التي تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر ويقال عنها إنها
مصاحف عثمانية : فإننا نشك كثيرا في صحة هذه النسبة إلى عثمان رضي الله عنه ؛ لأن
بها زركشة ونقوشا موضوعة كعلامات للفصل بين السور ، ولبيان أعشار القرآن ، ومعلوم
أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا ، ومن النقط والشكل أيضا .
نعم إن المصحف المحفوظ في خزانة الآثار بالمسجد الحسيني والمنسوب إلى عثمان رضي
الله عنه مكتوب بالخط الكوفي القديم ، مع تجويف حروفه وسعة حجمه جدا ، ورسمه يوافق
رسم المصحف المدني أو الشامي ، حيث رسم فيه كلمة : ( من يرتدد ) من سورة المائدة
بدالين اثنين مع فك الإدغام ، وهي فيها بهذا الرسم .
فأكبر الظن أن هذا المصحف منقول من المصاحف العثمانية على رسم بعضها .
وكذلك المصحف المحفوظ بتلك الخزانة ، ويقال إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتبه
بخطه ، يلاحظ فيه أنه مكتوب بذلك الخط الكوفي القديم ، بيد أنه أصغر حجما ، وخطه
أقل تجويفا من سابقه ، ورسمه يوافق غير المدني والشامي من المصاحف العثمانية حيث
رسمت فيه الكلمة السابقة : ( من يرتد ) بدال واحدة مع الإدغام ، وهي في غيرهما كذلك
.
فمن الجائز أن يكون كاتبه عليا ، أو يكون قد أمر بكتابته في الكوفة .
" مناهل العرفان " (1/404-405)
ويقول الدكتور غانم القدوري :
" مسألة مصير المصاحف العثمانية الأصلية ، وهل من المحتمل أن يكون قد بقي منها شيء
: هي مسألة تاريخية كبيرة ، ليس من اليسير – هنا – الإلمام بكل جوانبها ، ونكتفي
بالإشارة إلى أن العلماء قد رووا – في وقت مبكر – ذهاب تلك المصاحف ، ولا شك أن من
روى ذلك كانت روايته بقدر ما عرفه ، ولا ينفي أن تكون المصاحف العثمانية قد بقيت
لعدة قرون بعد ذلك :
فبينما نجد الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) يسأله ابن وهب عن مصحف عثمان رضي الله عنه
، فيقول : بأنه ذهب ، نجده يخرج لهم مصحفا قديما كان قد كتبه جده إذ كتب عثمان
المصاحف .
ويُروى أن أبا عبيد قال : إنه رأى الإمام مصحف عثمان ، استخرج له من بعض خزائن
الأمراء ، وأنه رأى فيه أثر دمه .
ويشير الداني (ت 444هـ) كثيرا إلى تتبعه بعض الحروف في المصاحف العتق ، فيقول –
مثلا – إنه رأى مصحفا جامعا عتيقا كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك سنة عشر
ومائة كان تاريخه في آخره .
كذلك يَروي ابن كثير (ت 774هـ) وابن الجزري (ت 833هـ) أنهما رأيا بعض المصاحف
القديمة المكتوبة على الرق في جامع دمشق وفي مصر كذلك .
فهذه الروايات تشير إلى احتمال أن تكون المصاحف العثمانية الأصلية قد ظلت موجودة
دهرا طويلا في المساجد الجامعة ، خاصة إذا تصورنا ما حظيت به تلك المصاحف من
الرعاية والاحترام ، فهي المصاحف الأئمة التي نسخ الناس عنها مصاحفهم في الأمصار
بعد إجماع الأمة على المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان رضي الله عنه .
ومن الملاحظ أن أئمة رواية الرسم كثيرا ما يقولون إنهم رأوا كلمة معينة في المصحف
الإمام مصحف عثمان ، كالذي يروى عن أبي عبيد ، وعاصم الجحدري ، ويحيى بن الحارث ،
وأبي حاتم ، ولعل كلمة المصحف الإمام كانت تشمل جميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان
رضي الله عنه في أي مصر من الأمصار ، وليس مصحف المدينة أو المصحف الخاص بالخليفة
فحسب ، وربما تشمل أيضا المصاحف الكبيرة التي كانت توضع في المساجد الجامعة للقراءة
أو لنسخ المصاحف منها ، والتي نسخت من المصاحف العثمانية الأصلية ، ولعل ذلك يفسر
لنا أيضا ما يكتب في آخر بعض المصاحف من أنه بخط الخليفة عثمان ، أي بنفس الهجاء
الذي كتبت عليه المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان رضي الله عنه .
وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف القديمة ، أو قطع منها قد
كتبت على الرق ، وبالخط الكوفي القديم ، مجردة من النقط والشكل ، ومن كثير مما ألحق
بالمصاحف من أسماء السور وعدد آيها وغير ذلك ، بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت
عليها المصاحف الأولى .
ويثار السؤال القديم مرة أخرى في الوقت الحاضر ، وهو : هل يمكن أن يكون واحد من هذه
المصاحف القديمة الباقية أحد المصاحف العثمانية الأصلية ؟
إن أغلب الباحثين أَمْيَل إلى استبعاد ذلك ، إذ من المتعذر اليوم العثور على مصحف
كامل كتب في القرن الهجري الأول أو الثاني وعليه تاريخ نسخه أو اسم ناسخه ، وكذلك
فإنها في الغالب غير مجردة تماما من العلامات التي أدخلت في وقت متأخر ، إلى جانب
أن إقرار ذلك يحتاج إلى أدلة تاريخية ومادية واضحة وقوية ، ودراسة متعددة الوجود ،
وهو ما لم يتح للدارسين بعد القيام بها .
ومهما كان الرأي في تلك المصاحف فإنها – دون شك – قديمة ترجع إلى القرون الهجرية
الأولى ، بل ربما إلى القرن الأول بالذات ، خاصة حين لا يظهر فيها أي أثر للإصلاحات
التي أدخلت على الخط العربي في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ، إلا بعض
العلامات النادرة أحيانا ، فهي بذلك أقرب إلى الفترة التي يحتمل أن تكون المصاحف
العثمانية موجودة فيها ، وربما نسخت منها أو من مصحف نسخ من أحدها ، وهي لذلك خير
ما يمثل واقع الرسم الذي نسخت به المصاحف العثمانية .
وتملك مكتبات التراث الإسلامية في مصر خير مجموعة من تلك المصاحف القديمة ، كذلك
يروى أن أحد تلك المصاحف القديمة كان موجودا في الحرم النبوي في المدينة المنورة
حتى الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، حيث نقله العثمانيون إلى الآستانة مع
انسحابهم من أراضي الحجاز ، ويقال إنه انتقل إلى ألمانيا .
ومنها مصحف محفوظ الآن في مدينة طشقند في تركستان الإسلامية في روسيا ، وقد قامت
بنشره – في مطلع هذا القرن – جمعية الآثار القديمة الروسية ، وطبعت منه خمسين نسخة
، ومع ذلك فإن الدراسات عن تلك المصاحف القديمة وعددها في مكتبات العالم لا تزال
قليلة " انتهى باختصار يسير.
" رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية " (ص/188-191)
الاحتمال الثاني الذي يحتمله هذا السؤال : أن يكون الغرض منه التشكيك في المصاحف
الموجودة بين أيدينا اليوم : وهذا ما نستبعده عن السائل لظهور خطئه ؛ فإن تواتر نقل
القرآن الكريم عبر مئات الآلاف من الأسانيد المتصلة والكتب والمصاحف والمخطوطات أمر
مشهور معروف ، ولو أنشئت المؤسسات العلمية الكبيرة لحصر هذه الأسانيد والمصاحف
والكتب وجمع أدلة تواتر القرآن الكريم لما أمكنها ذلك ، تماما كما لو أنشأنا مؤسسة
بحثية لإثبات تواتر خبر وجود دولة كالصين مثلا في عالم الناس اليوم ، فهل يطلب عاقل
القيام بذلك ، وهل بالإمكان حصر جميع الأخبار ، والآثار ، والمشاهدات ، التي وقعت
لكل إنسان رأى الصين ، أو جاءه شيء منها ، أو اتصل به خبرها بوجه ما ؟!!
ثم مع ذلك كله ، بل فوق ذلك كله : حفظ القرآن في الصدور ، ونقله شفاها ، شخصا عن
شخص ، وجيلا عن جيل ، وقرنا عن قرن ، من أول نزول الوحي على نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم ، إلى يوم الناس هذا ، لا يختلفون ولا يمترون فيه .
والمصاحف العثمانية إنما أخذت عن تواتر القرآن الكريم في عهد الصحابة رضوان الله
عليهم وليست هي المصدر الأول لرواية القرآن ، فكيف نقلب المنهج اليوم وننفي تواتر
القرآن بعدم وقوفنا على المصاحف العثمانية .
يقول العلامة الزرقاني رحمه الله:
" ثم إن عدم بقاء المصاحف العثمانية قاطبة لا يضرنا شيئا ، ما دام المعول عليه هو
النقل والتلقي ثقة عن ثقة ، وإماما عن إمام ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك
متواتر مستفيض على أكمل وجه في القرآن حتى الآن .
على أن المصاحف العثمانية نسخت على غرارها الآلاف المؤلفة في كل عصر ومصر ، مع
المحافظة على الرسم العثماني " انتهى.
" مناهل العرفان " (1/405)
فقل لسائلك ، بدلا من أن تتحير :
أين عشر معشار ذلك كله ، وأدنى منه بكثير ، لشيء من كتبكم ، ودينكم ؟!
لقد ذكرنا سؤال هذا النصراني بقول الشاعر حافظ إبراهيم رحمه الله :
يا ساكِنَ البَيتِ الزُجا جِ ، هَبِلتَ ، لا
تَرمِ الحُصونا
أَرَأَيتَ قَبلَكَ عارِياً يَبغي نِزالَ
الدارِعينا
والله أعلم .