تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
السؤال:
ما هي عقيدة الإمام ابن رشد ، وما حقيقة خلافه مع الإمام أبي حامد الغزالي ؟
جزاكم الله خيراً .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
ابن
رشد اسم مشترك بين ابن رشد الحفيد ، وابن رشد الجد ، وكلاهما يُكنَى بأبي الوليد ،
وكلاهما يحمل اسم : محمد بن أحمد ، كما أن كلا منهما تولى قضاء قرطبة .
والمقصود في السؤال هو ابن رشد الحفيد ، المتوفى سنة (595هـ)، المشهور باشتغاله
وتأليفه في الفلسفة ، أما ابن رشد الجد فلم يشتغل بها ، وتوفي سنة (520هـ).
قال
الأبار :
لم
ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا ، وكان متواضعا ، منخفض الجناح ، يقال عنه :
إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين : ليلة موت أبيه ، وليلة عرسه ، وإنه سود في
ما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة ، ومال إلى علوم الحكماء ، فكانت له فيها
الإمامة . وكان يُفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه ، مع وفور
العربية ، وقيل : كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي .
ومن
أشهر مصنفاته : ( بداية المجتهد ) في الفقه ، و ( الكليات ) في الطب ، و ( مختصر
المستصفى ) في الأصول ، ومؤلفات أخرى كثيرة في الفلسفة ، اهتم فيها بتلخيص فكر
فلاسفة اليونان ، فألف : كتاب ( جوامع كتب أرسطوطاليس ) ، وكتاب ( تلخيص الإلهيات )
لنيقولاوس ، كتاب ( تلخيص ما بعد الطبيعة ) لأرسطو ، ولخص له كتبا أخرى كثيرة يطول
سردها ، حتى عرف بأنه ناشر فكر أرسطو وحامل رايته ، وذلك ما أدى به في نهاية المطاف
إلى العزلة ، فقد هجره أهل عصره لما صدر منه من مقالات غريبة ، وعلوم دخيلة .
قال
شيخ الشيوخ ابن حمويه :
لما
دخلت البلاد ، سألت عن ابن رشد ، فقيل : إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب ،
لا يدخل إليه أحد ، لأنه رفعت عنه أقوال ردية ، ونسبت إليه العلوم المهجورة ، ومات
محبوسا بداره بمراكش .
يمكن مراجعة سيرته في " سير أعلام النبلاء " (21/307-310)
ثانيا :
قد
طال الجدل حول حقيقة عقائد ابن رشد ، وكثرت المؤلفات ما بين مؤيد ومعارض ، واضطربت
الأفهام في تحديد عقائده ومذاهبه .
ولضيق المقام ههنا عن الدراسة المفصلة لعقائد ابن رشد ، سنكتفي بذكر بعض المآخذ
المجملة التي كانت مثار جدل في مؤلفاته :
1-
تأويل الشريعة لتوافق الفلسفة الآرسطية :
لعل
الاطلاع على ترجمة ابن رشد الموجزة السابقة كاف للدلالة على هذه التوجهات الفكرية
لدى ابن رشد ، فقد أُخِذَ بفكر أرسطو ، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله : " هو من أتبع الناس لأقوال آرسطو " انتهى. " بيان تلبيس الجهمية " (1/120)،
وحاول جاهدا شرحه وبيانه وتقريره للناس بأسلوب عربي جديد ، وهو - خلال ذلك - حين
يرى مناقضة فكر أرسطو مع ثوابت الشريعة الإسلامية ، يحاول سلوك مسالك التأويل
البعيدة التي تعود على الشريعة بالهدم والنقض ، وكأن فلسفة أرسطو قرين مقابل لشريعة
رب العالمين المتمثلة في نصوص الكتاب والسنة ، ولذلك كتب كتابه المشهور : " فصل
المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ".
2-
اعتقاده بالظاهر والباطن في الشريعة :
يقول ابن رشد :
"
الشريعة قسمان : ظاهر ومؤول ، والظاهر منها هو فرض الجمهور ، والمؤول هو فرض
العلماء ، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله ، وأنه لا يحل
للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور ، كما قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما
يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " انتهى.
"
الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/99) طبعة مركز دراسات الوحدة العربية.
وقد
استغرق ابن رشد في تقرير هذه الفكرة الباطنية في كتبه ، حتى إنه جعل من أبرز سمات
الفرقة الناجية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها هي " التي سلكت ظاهر الشرع ،
ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس " انتهى. " الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/150).
ولذلك توسع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على خصوص كلام ابن رشد في هذا
الكتاب ، وبيان بطلان التفسير الباطني لنصوص الشريعة ، وذلك في كتابيه العظيمين : "
بيان تلبيس الجهمية " ، ودرء تعارض العقل والنقل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"
وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية ؛ بل
قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب : سلك مسلك التخييل ، وقال : إنه خاطب الجمهور بما
يخيل إليهم ؛ مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك . فهؤلاء يقولون : إن الرسل
كذبوا للمصلحة . وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية " انتهى.
"
مجموع الفتاوى " (19/157) .
3-
مال في باب " البعث والجزاء "، إلى قول الفلاسفة أنه بعث روحاني فقط ، بل وقع هنا
في ضلالة أعظم من مجرد اعتقاده مذهب الفلاسفة في البعث الروحاني ؛ حيث جعل هذه
المسألة من مسائل الاجتهاد ، وأن فرض كل ناظر فيها هو ما توصل إليه . قال :
"
والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها " انتهى.
"
الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/204)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"
وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام :
فمنهم من ظن أن ذلك من الملة .
ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره ، فجعلوا يردون من كلام المتكلمين ما لم يكن
معهم فيه سمع ، وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين : إما أن يقروه باطنا
وظاهرا إن وافق معقولهم ، وإلا ألحقوه بأمثاله ، وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل
التمثيل والتخييل للحاجة ، وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة ، ولهذا كان هؤلاء
أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله ، وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود
الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ، ويستحلون محرماته ، وإن كان في كل من
هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ، ولهم من الصواب والحكمة
بحسب ما وافقوا فيه ذلك .
ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ، ومسوغا
للقولين ، وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل
، وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه ، والصواب مع أبي
حامد ، وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه ، وجعل الخطأ فيه من ابن
سينا ، وبعضه استطال فيه على أبي حامد ، ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على
أصول كلامية فاسدة ، مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة ، وكون القادر
المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام
" انتهى.
"
منهاج السنة " (1/255)
4-
ولعل من أبرز سمات منهج ابن رشد في كتبه ، وفي الوقت نفسه من أبرز أسباب أخطائه هو
عدم العناية بالسنة النبوية مصدرا من مصادر التشريع .
يقول الدكتور خالد كبير علال حفظه الله :
"
ابن رشد لم يُعط للسنة النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية
بعد القرآن الكريم ، ولم يتوسع في استخدامها في كتبه الكلامية والفلسفية ، ففاتته
أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها ، كما أن
الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهما صحيحا ، وأخضعه
للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته " انتهى.
"
نقد فكر الفيلسوف ابن رشد " (ص/97)
هذه
بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن توضح بعض مآخذ العلماء على عقيدة ابن رشد الحفيد ،
وهي في محصلها ترجع إلى إلغاء كثير من موازين الشريعة التي ضبط بها الشارع حدودها ،
والدعوة إلى سلوك التأويل والاجتهاد في بعض مسلماتها ، انطلاقا من أفكار دخيلة جاءت
من حضارات قديمة بائدة .
ولأجل ذلك احتفى به كثير من المحسوبين على التوجهات العلمانية والليبرالية المتحررة
اليوم ، حتى نسبوا ريادة الفكر التنويري للفيلسوف ابن رشد ، وهم يعلمون أن كثيرا من
العلوم الواردة في كتبه تعد من العلوم البائدة التي يجزم العلم الحديث بخطئها ،
ولكن غرضهم تمجيد كل فكر متحرر من ثوابت الشريعة ، متحرر من حقائق نصوصها إلى
المجازات والتأويلات ، وفي الوقت نفسه يلبس لبوس الدين والعلم والفقه ، فرأوا في
ابن رشد ضالتهم ، وفي كتبه رائدا لهم ، وإن كنا نحسب أن في كتبه من إظهار التمسك
بالشريعة والرجوع إليها ما لا نجده في كتب هؤلاء القوم ، وكان عنده من لزوم الجانب
العملي في الشريعة ، وتعظيمها في الفقه والقضاء والفتيا ما لا يعجب القوم ، ولا
يبلغون معشاره : قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ !!
والله أعلم .
السؤال:
ما هي عقيدة الإمام ابن رشد ، وما حقيقة خلافه مع الإمام أبي حامد الغزالي ؟
جزاكم الله خيراً .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
ابن
رشد اسم مشترك بين ابن رشد الحفيد ، وابن رشد الجد ، وكلاهما يُكنَى بأبي الوليد ،
وكلاهما يحمل اسم : محمد بن أحمد ، كما أن كلا منهما تولى قضاء قرطبة .
والمقصود في السؤال هو ابن رشد الحفيد ، المتوفى سنة (595هـ)، المشهور باشتغاله
وتأليفه في الفلسفة ، أما ابن رشد الجد فلم يشتغل بها ، وتوفي سنة (520هـ).
قال
الأبار :
لم
ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا ، وكان متواضعا ، منخفض الجناح ، يقال عنه :
إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين : ليلة موت أبيه ، وليلة عرسه ، وإنه سود في
ما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة ، ومال إلى علوم الحكماء ، فكانت له فيها
الإمامة . وكان يُفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه ، مع وفور
العربية ، وقيل : كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي .
ومن
أشهر مصنفاته : ( بداية المجتهد ) في الفقه ، و ( الكليات ) في الطب ، و ( مختصر
المستصفى ) في الأصول ، ومؤلفات أخرى كثيرة في الفلسفة ، اهتم فيها بتلخيص فكر
فلاسفة اليونان ، فألف : كتاب ( جوامع كتب أرسطوطاليس ) ، وكتاب ( تلخيص الإلهيات )
لنيقولاوس ، كتاب ( تلخيص ما بعد الطبيعة ) لأرسطو ، ولخص له كتبا أخرى كثيرة يطول
سردها ، حتى عرف بأنه ناشر فكر أرسطو وحامل رايته ، وذلك ما أدى به في نهاية المطاف
إلى العزلة ، فقد هجره أهل عصره لما صدر منه من مقالات غريبة ، وعلوم دخيلة .
قال
شيخ الشيوخ ابن حمويه :
لما
دخلت البلاد ، سألت عن ابن رشد ، فقيل : إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب ،
لا يدخل إليه أحد ، لأنه رفعت عنه أقوال ردية ، ونسبت إليه العلوم المهجورة ، ومات
محبوسا بداره بمراكش .
يمكن مراجعة سيرته في " سير أعلام النبلاء " (21/307-310)
ثانيا :
قد
طال الجدل حول حقيقة عقائد ابن رشد ، وكثرت المؤلفات ما بين مؤيد ومعارض ، واضطربت
الأفهام في تحديد عقائده ومذاهبه .
ولضيق المقام ههنا عن الدراسة المفصلة لعقائد ابن رشد ، سنكتفي بذكر بعض المآخذ
المجملة التي كانت مثار جدل في مؤلفاته :
1-
تأويل الشريعة لتوافق الفلسفة الآرسطية :
لعل
الاطلاع على ترجمة ابن رشد الموجزة السابقة كاف للدلالة على هذه التوجهات الفكرية
لدى ابن رشد ، فقد أُخِذَ بفكر أرسطو ، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله : " هو من أتبع الناس لأقوال آرسطو " انتهى. " بيان تلبيس الجهمية " (1/120)،
وحاول جاهدا شرحه وبيانه وتقريره للناس بأسلوب عربي جديد ، وهو - خلال ذلك - حين
يرى مناقضة فكر أرسطو مع ثوابت الشريعة الإسلامية ، يحاول سلوك مسالك التأويل
البعيدة التي تعود على الشريعة بالهدم والنقض ، وكأن فلسفة أرسطو قرين مقابل لشريعة
رب العالمين المتمثلة في نصوص الكتاب والسنة ، ولذلك كتب كتابه المشهور : " فصل
المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ".
2-
اعتقاده بالظاهر والباطن في الشريعة :
يقول ابن رشد :
"
الشريعة قسمان : ظاهر ومؤول ، والظاهر منها هو فرض الجمهور ، والمؤول هو فرض
العلماء ، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله ، وأنه لا يحل
للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور ، كما قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما
يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " انتهى.
"
الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/99) طبعة مركز دراسات الوحدة العربية.
وقد
استغرق ابن رشد في تقرير هذه الفكرة الباطنية في كتبه ، حتى إنه جعل من أبرز سمات
الفرقة الناجية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها هي " التي سلكت ظاهر الشرع ،
ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس " انتهى. " الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/150).
ولذلك توسع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على خصوص كلام ابن رشد في هذا
الكتاب ، وبيان بطلان التفسير الباطني لنصوص الشريعة ، وذلك في كتابيه العظيمين : "
بيان تلبيس الجهمية " ، ودرء تعارض العقل والنقل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"
وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية ؛ بل
قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب : سلك مسلك التخييل ، وقال : إنه خاطب الجمهور بما
يخيل إليهم ؛ مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك . فهؤلاء يقولون : إن الرسل
كذبوا للمصلحة . وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية " انتهى.
"
مجموع الفتاوى " (19/157) .
3-
مال في باب " البعث والجزاء "، إلى قول الفلاسفة أنه بعث روحاني فقط ، بل وقع هنا
في ضلالة أعظم من مجرد اعتقاده مذهب الفلاسفة في البعث الروحاني ؛ حيث جعل هذه
المسألة من مسائل الاجتهاد ، وأن فرض كل ناظر فيها هو ما توصل إليه . قال :
"
والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها " انتهى.
"
الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/204)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"
وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام :
فمنهم من ظن أن ذلك من الملة .
ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره ، فجعلوا يردون من كلام المتكلمين ما لم يكن
معهم فيه سمع ، وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين : إما أن يقروه باطنا
وظاهرا إن وافق معقولهم ، وإلا ألحقوه بأمثاله ، وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل
التمثيل والتخييل للحاجة ، وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة ، ولهذا كان هؤلاء
أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله ، وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود
الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ، ويستحلون محرماته ، وإن كان في كل من
هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ، ولهم من الصواب والحكمة
بحسب ما وافقوا فيه ذلك .
ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ، ومسوغا
للقولين ، وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل
، وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه ، والصواب مع أبي
حامد ، وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه ، وجعل الخطأ فيه من ابن
سينا ، وبعضه استطال فيه على أبي حامد ، ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على
أصول كلامية فاسدة ، مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة ، وكون القادر
المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام
" انتهى.
"
منهاج السنة " (1/255)
4-
ولعل من أبرز سمات منهج ابن رشد في كتبه ، وفي الوقت نفسه من أبرز أسباب أخطائه هو
عدم العناية بالسنة النبوية مصدرا من مصادر التشريع .
يقول الدكتور خالد كبير علال حفظه الله :
"
ابن رشد لم يُعط للسنة النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية
بعد القرآن الكريم ، ولم يتوسع في استخدامها في كتبه الكلامية والفلسفية ، ففاتته
أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها ، كما أن
الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهما صحيحا ، وأخضعه
للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته " انتهى.
"
نقد فكر الفيلسوف ابن رشد " (ص/97)
هذه
بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن توضح بعض مآخذ العلماء على عقيدة ابن رشد الحفيد ،
وهي في محصلها ترجع إلى إلغاء كثير من موازين الشريعة التي ضبط بها الشارع حدودها ،
والدعوة إلى سلوك التأويل والاجتهاد في بعض مسلماتها ، انطلاقا من أفكار دخيلة جاءت
من حضارات قديمة بائدة .
ولأجل ذلك احتفى به كثير من المحسوبين على التوجهات العلمانية والليبرالية المتحررة
اليوم ، حتى نسبوا ريادة الفكر التنويري للفيلسوف ابن رشد ، وهم يعلمون أن كثيرا من
العلوم الواردة في كتبه تعد من العلوم البائدة التي يجزم العلم الحديث بخطئها ،
ولكن غرضهم تمجيد كل فكر متحرر من ثوابت الشريعة ، متحرر من حقائق نصوصها إلى
المجازات والتأويلات ، وفي الوقت نفسه يلبس لبوس الدين والعلم والفقه ، فرأوا في
ابن رشد ضالتهم ، وفي كتبه رائدا لهم ، وإن كنا نحسب أن في كتبه من إظهار التمسك
بالشريعة والرجوع إليها ما لا نجده في كتب هؤلاء القوم ، وكان عنده من لزوم الجانب
العملي في الشريعة ، وتعظيمها في الفقه والقضاء والفتيا ما لا يعجب القوم ، ولا
يبلغون معشاره : قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ !!
والله أعلم .