تمهيد:
الأسرة هي الخلية والوحدة الاجتماعية التي يقوم عليها سلامة بنيان المجتمع.. ومن هذا المنطلق، حظيت باهتمام المفكرين من جميع الثقافات، فطالما كانت الأسرة على قدر كبير من الاستقامة والتماسك، صلحت شؤون المجتمع واستقامت أموره.. وما انحلال الحياة الاجتماعية في كثير من الدول إلا نتيجة لانحلال الروابط الأسرية وضعفها.. وهذا الانحلال والتفكك الأسري، كنا نراه في الماضي محصورًا في الدول الغربية وغير الإسلامية، إلا أنه في الآونة الأخيرة أصبح يطال بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأصبح ضعف الروابط الأسرية هو السمة السائدة.. فلا يمكننا على هذا النحو أن نقضي على مشاكل المجتمع ما لم نعمل أولاً على حل مشاكل الأسرة وحمايتها من التشرذم والتفكك، إذ لا صلاح للمجتمع الكبير إلا بإصلاح المجتمع الصغير، وهو الأسرة.
ولهذا السبب اهتم علماء الاجتماع بتوطيد دعائم ومناهج الدراسات الأسرية، ونشأ علم الاجتماع الأسري بوصفه علمًا اجتماعيًا جزئيًا هامًا، وبدأ الكثير من الدراسات في هذا السياق يقوم على المنظور الإسلامي لعلم الاجتماع، كما بدأ التوجه البحثي والعلمي، فيما يتعلق بالبحث في أفضل الوسائل المؤدية للنهوض بالأسرة والقضاء على ما تعانيه من مشاكل وتفكك،يتركز حول الجانب الفني التطبيقي.
الأسرة الصالحة:
قبل أن نتعرف على عوامل التوتر والتفكك الأسري، لا بد من الحديث قليلاً عن الأسرة الصالحة والسعيدة.
فهي عبارة عن وحدة حية مكونة من مجموعة أفراد «الزوج والزوجة والأطفال»، تتفاعل مشاعرهم، وتتحد أمزجتهم، وتنصهر اتجاهاتهم، وتتفق مواقفهم، وتتكامل وظائفهم، وتتوحد غاياتهم، وتكون المودة والسكينة والرحمة هي المظلة التي يستظل بها الجميع، خاصة الزوجين: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الروم:21).
ومقومات الأسرة الصالحة تتلخص فيما يأتي:
1- التكيف والتوافق الاجتماعي والوجداني والنفسي.
2- توفر المستوى المعيشي المناسب وأسباب الاستقرار العائلي، وذلك من حيث المأوى، وموارد الدخل، ونظام الأمن العام.
3- اكتمال هيئة الأسرة، من حيث وجود الأب والأم والأولاد، لأن انعدام أي عنصر من هذه العناصر يضر بوحدة الأسرة، ويقضي على الوظائف الطبيعية والاجتماعية التي كانت تؤديها.
وفي حالة العقم وعدم الإنجاب، يمكن للأزواج التكيف والتوافق بدون وجود ذرية، ولا شك أن العمق الإيماني يعتبر المحك الرئيس الذي يحدد هذا الجانب.
4- تكامل الأسرة، من حيث توحد الاتـجاهات والـمواقـف بيـن عناصرها، ومن حيث التماسـك والتضامن في الوظـائف والعـمـل الـمشترك، والاتـجاه نحو غايات وأهداف واحدة، ومن حـيث التـكتل والتـحفز لـدرء أي خطر خارجـي يـهدد كيان الأسرة أو ينال من عناصرها.
5- التمسك بمقاصد الشرع الإسلامي الحنيف، وأن تكون العلاقة بين أفراد الأسرة وتربية الأولاد قائمة على الأسس الإسلامية الصحيحة، مع ضرورة احترام القانون العام وآداب السلوك وقواعد العرف والتقاليد الحميدة ومستويات الذوق العام، ومن حيث إرساء العلاقات المتبادلة بين عناصر الأسرة على قواعد الاحترام والإخلاص والمحبة والإخاء.
6- تجنب حدوث التحالفات والتكتلات الداخلية في الأسرة، مع إتاحة الفرصة لكل فرد كي يضطلع بأداء دوره الأسري بصورة إيجابية تصب في مصلحة النسيج والخلية الأسرية كوحدة واحدة.
7- مواجهة وتيرة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وطفراتها بالحذر والحكمة المطلوبة، ومحاصرة صراع الأجيال، الذي أصبحنا نرى بوادره خاصة في منطقة الخليج، ولابد أن تكون المرجعية الإسلامية هي الأساس في هذه المواجهة.
وطالما كانت الأسرة على النحو المشار إليه، قوي تضامنها، وتدعّم بنيانها، وشعر أفرادها بالسعادة بهذه الحياة الاجتماعية، وأصبحت بمنأى عن عوامل الاضطرابات والتفكك.
مظاهر التفكك الأسري
تؤكد الكثير من الدراسات والإحصاءات أن التوتر والتفكك الأسري أصبح ظاهرة لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها.. ويظهر هذا التفكك والتوتر والخلخة والفوضى الأسرية في المظاهر التالية:
1- ارتفاع منسوب ومعدلات الطلاق.. فمن بين كل ثلاثة زيجات تنتهي واحدة بالطلاق.. وكذلك يلاحظ ارتفاع نسب العنوسة، وميل سن الزواج إلى الارتفاع مقارنة بالماضي.
2- تفكك وتفسخ العلاقات العائلية، وتباعد أعضائها، بعضهم عن بعض.
3- تراجع مكانة الثقافة الإسلامية والعربية، مع اشتداد حدة الجدل والاضطراب والتأثر بالخارج، وذلك نتيجة تحلل القديم وعدم تبلور الجديد.
4- انتشار مظاهر البذخ والترف والخمول، وشيوع قيم الاستهلاك على حساب قيم العمل والإنتاج والاعتماد على الذات والادخار والتقشف والبسـاطـة فـي العيـش، وعـدم مـعرفــة الأسبقـيات والأوليات.
5- التأثر بالثقافات الأجنبية الوافدة، من دون أخذ ما هو صالح وترك ما هو طالح، عملاً بأن «... الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها»(1).
6- اضطراب الصحة النفسية لدى الكثيرين، وظهور الأمراض النفسية والانحرافات، خاصة بين الأطفال والأحداث والشباب، وكذلك انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات والمسكرات والسلوك الإجرامي.
ولا شك أن تفسخ الأسرة واهتزاز القيم وازدواجية الهوية، هي المسبب الأساس لكل ذلك.
7- انحسار دور الأسرة الممتدة، وتعاظم دور الأسرة الصغيرة، وعدم الاهتمام بكبار السن وإيفائهم حقهم وبرهم.
8- تخلي المرأة عن دورها المنزلي بدرجة كبيرة، مما نتج عنه قصور واضح في رعاية أعضاء الأسرة وشؤون التربية والتنشئة، علمًا بأن دور المرأة في المجتمع لا يتعارض مع صحيح الدين.
أسباب التفكك الأسري
بعد أن تعرفنا على بعض مظاهر التفكك الأسري، لا بد من الخوض في أسباب هذا التفكك، حيث إن الأسرة تمثل أحد المحددات المهمة في الصحة النفسية وهو المحدد الثقافي، وذلك نظرًا للأثر البالغ الذي تتركه الأسرة على شخصية أبنائها، سواء على النحو الصحي، أو على النحو المرضي.
فالأسرة هي وحدة المجتمع الأولى، وهي الواسطة أو حلقة الوصل بين الفرد والمجتمع، أي الرابط بين الثقافة والشخصية.. والأسرة هي الوسط الإنساني «الأولي»، الذي ينشأ فيه الطفل، ويكتسب في نطاقه أول أساليبه السلوكية التي تمكنه من التوافق مع المجتمع.
والأسرة قد تبدأ مفككة قبل أن تتكون أصلاً، ويتمثل هذا في التفكير في الزواج دون الاستعداد النفسي والاجتماعي له، ولا أرى أن الاستعداد المالي ذو أهمية، وإن كان مما يؤسف له أن المكون المالي والإمكانات المالية، أصبحت تمثل عائقًا أساسًا أمام الزواج في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.. والاستعداد النفسي الصحيح هو اللبنة الأولى إلى عملية الاختيار الزواجي، والتي هي حجر الزواية، فإن كان الاختيار صحيحًا كان الخير والسعادة كلها، وإن كان اختيار الزوجة قائمًا على مفاهيم سطحية ومادية وعاطفية فقط كان التوتر والتفكك قبل أن تتكون الأسرة أصلاً.. ولم أجد مرجعًا أو مقياسًا يمكن الرجوع إليه في اختيار الزوجة أفضل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»(1).
وما أجمل التوجيهات والإرشادات النبوية الداعية لحسن الاختيار: «تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكْفَاءَ، وأنكحوا إليهم»(2).. وعلى ذلك، فإن ما يرثه الطفل من صفات من والديه وأسلافه يدخل بصورة ما في نطاق التأثير الأسري.
ويرجع التفكك الأسري لأسباب وعوامل كثيرة، تختلف من مجتمع لآخر، ومن ثقافة لأخرى.. وسوف نحاول هنا الإشارة لأهم هذه الأسباب، خاصة المتعلقة بمجتمعاتنا :
1- ضعف ووهن الرابطة الزوجية:
ويأتي هذا الضعف والوهن كنتيجة لكون كلٍ من الرجل والمرأة مستقلاً عن بعضه، خاصة من الناحية الاقتصادية، وهذا لا يعني بالضرورة أن تكون المرأة عاملة، فالمرأة غير العاملة أيضًا ربما تحاول وتسـعى للاستـقلال الاقتــصادي، وذلك بتوجـيـه جزء كبـير من دخـل الأسرة لمنصرفاتها الخاصة، واهتمامها بقضايا انصرافية، خاصة فيما يخص لباسها وزينتها وعلاقاتها الاجتماعية.. وقد رأينا كثيرًا من النساء يرغبن في القيام بأداء أدوار اجتماعية مميزة لإثبات الذات والشخصية، في حين أنهن يفتقدن المقومات الأساس لذلك.
ولا شك أن مثل هذه التصرفات والمواقف من جانب المرأة، تكون على حساب البيت والأطفال، وقد يساهم الزوج بصورة شعورية أو لا شعورية في تمادي زوجته، حتى وإن كان قد أحسن الاختيار، وذلك باتباع أسلوب التهاون والمهادنة والنكران والهروب، الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب المقومات الأساس لمعيشة الأسرة، خاصة من ناحية الاستقرار وأداء الأدوار.
والأسر التي تهتم فيها المرأة بقضايا انصرافية أكثر من اهتمامها بالقضايا الأسرية الجوهرية، إنما يكون مرد ذلك في الغالب لاختلاف فلسفة كل من الزوجين في الحياة، خاصة أننا نعيش في عصر أصبحت المؤثرات الخارجية والبيئية تمثل تيارًا جارفًا يمكن أن يؤثر بسهولة وعفوية على فلسفة أي من الزوجين، ويجعلها تتبدل وتتغير من وقت لآخر، مما يترتب عليه المزيد من الهروب الانصرافي من جانب الزوجين، خاصة الزوجة، وهذا بلا شك سوف ينعكس سلبًا على البيت والأطفال.
وكما هو معروف، فإن الإنسان يتميز بأن له طفولة طويلة، وهذا يعني أنه يعتمد على الكبار المحيطين به فترة أطول في إشباع حاجاته.. ويعتمد الوليد في بداية حياته على الأم اعتمادًا كاملاً في تـوفير الطعـام والـدفء والراحـة وسـائر ألـوان الرعـاية، مـما يجـعل الأم شخصًا مميزاً وذا مكانة خاصة لديه، ثم تتسع دائرة معارفه ومجال احتكاكه.
فالأم هي التي تصنع اللبنات الأولى في شخصية الطفل، وإذا انصرفت عن الاضطلاع بهذا الدور بإيجابية، فإن هذا الحرمان سوف يؤثر سلبًا على شخصية الطفل، وسوف تظل إمكاناته الإنسانية كامنة، واستعداده معطلاً، وسوف يدخل ذلك الطفل في حالة من الصراعات النفسية الداخلية، يتأتى منها لاحقًا افتقاد الهوية والكينونة والاضطراب في شخصيته وسلوكه.
وقد تعرضت الأسرة مؤخرًا لبعض التطورات التي غيرت من حجمها ووظيفتها، حيث إنها لم تعد تشكل الأسرة الممتدة التي تشمل العمات والخالات والأجداد، كمصادر إضافية للعطف والرعاية للطفل، خاصة في وقت غياب الأم.
ومن التطورات المهمة التي تعرضت لها الأسرة وأثرت في وظائفها، خروج المرأة إلى العمل خارج نطاق الأسرة، وقد ترتب على هذا التطور الاعتماد على الخدم داخل البيوت، وظهور مؤسسات تقوم ببعض ما كانت تقوم به الأم من أعباء تربوية، مثل دور الحضانة.
ولا نقول: إن خروج المرأة للعمل كله سلبيًا ويلحق الضرر التربوي بالأطفال، إلا أن بعض الأمهات اتخذن العمل أصلاً وسيلة انصرافية كمحاولة للمساواة بالرجل، ومن أجل الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي وبناء الشخصية.
وفي مثل هذه الحالة، فإن الضرر الأكبر سيقع على الأطفال، خاصة أن مثل هذه الأسر تكون عرضة للانقسامات وظهور تكتلات أو مجموعات داخلها.
فالأب قد يأخذ إلى جانبه بعض الأبناء، وكذلك قد تفعل الأم، أو أن ينجح أحد الوالدين في الاستحواذ على عاطفة واهتمام الأبناء جميعًا في صراعه مع الوالد الآخر، وكأن الأسرة ساحة صراع وليس واحة سلام.. وتحدث عملية الصراع في معظمها على المستوى اللاشعوري، وإن كانت تبدو علنية وشعورية في بعض المواقف.
2- الفوارق الشاسعة بين الزوجين:
تدل الكثير من الدراسات الاجتماعية والنفسية على أن الفارق السِّني (العمري) الكبير بين الزوجين، وكذلك الفوارق التعليمية أو الفوارق المادية والاجتماعية، ربما تمثل عاملاً مهمًا في التوتر الأسري والتفكك والتمزق في كيان الأسرة لدى بعض الأسر.
والفوارق التعليمية ظاهرة معروفة، وكانت في السابق وسيلة لترابط الأسرة، حيث يكون الرجل أكثر تعليمًا، ويكون حظ الزوجة في التعليم أقل، وهذا يساعد كثيرًا في أمر تثبيت وتدعيم قوامة الرجل، وعليه تقل التوترات داخل الكيان الأسري.
ولكن في السنين الأخيرة، وبعد انتشار التعليم وسط النساء، وتميز المرأة بالتحصيل الأكاديمي الجيد ونيل الدرجات العلمية العالية، وربما تفوقها النسبي على الرجل في هذا السياق، وإقدام الكثير من النساء على القبول بالزواج من رجال هم أقل درجة، من الناحية التعليمية، نشأ عن هذا الوضع اضطراب بعض الزيجات، لأن هنالك صراعًا لا شعوريًا لابد أن ينشأ، حيث لا يستطيع الرجل مهما كانت قوة شخصيته، أن يتجنب الشعور بالدونية، كما أن المرأة لا بد أن ينتابها الشعور بالفوقية واليد العليا في كثير من المواقف والقرارات الأسرية، وربما يحدث هذا بالرغم من تواضع الزوجة المتعلمة، واحـترامها لزوجـها، وسعــيها لـحفـظ زواجها وبيتها.. وهذا الوضع لا يمكن تجنبه أو نكرانه، لأنه يعتمد على مركبات ووسائل ودفاعات نفسية ليست كلها في الشعور، أو تحت السيطرة الفكرية والوجدانية والمعرفية.
3- غياب رب الأسرة خارج البيت لساعات طويلة:
تعتمد ديناميكية المؤسسة الأسرية على روابط الشراكة القائمة بين مؤسسيها (الزوجين).. ويكتمل دور هذه المؤسسة بدخول المساهمين الآخرين وأهمهم الأطفال.. ورب الأسرة هو المحور الأساس الذي ترتكز عليه بقية المحاور.. والرجل الذي يتفانى ويسخِّر كل طـاقاته العـاطـفية والوجدانية والتربوية والاقتصادية من أجل أسرته، لا شك أنه بذلك يؤدي الدور الأساس في تماسك الأسرة، وتوازن أبعادها الاجتماعية والتربوية.
وبالمقابل، فإن غياب رب الأسرة خارج البيت لساعات طويلة، ينتج عنه نتائج سلبية وأضرار بالغة على استقرار الأسرة.. وغياب الرجل خارج البيت أصبح ظاهرة تهدد كيان بعض الأسر.. فهذا الغياب ربما يكون بحجة ساعات العمل الطويلة، أو إدارة الأعمال الخاصة، وأسوأ من ذلك هو الغياب في مجالسة الأصدقاء، أو بقصد اللهو، أو ما شابه ذلك.
وربما يكون غياب الأب من البيت بقصد الهرب من المسؤوليات الأسرية.. فمثل هذا الأب ليس له حضور فعلي في المواقف المهمة التي تؤثر على تنشئة الطفل، كما أن غياب الزوج من البيت لساعات طويلة، خاصة إذا لم يكن لهذا الغياب ما يبرره، سوف يؤدي إلى تأجج الانفعالات من جانب الزوجة، وسوف تسيطر عليها الغــيرة، وتــلجأ لمـحاسبة الـرجـل عـلـى تصـرفاتـه داخـل وخـارج نطـاق الأســرة، بكثير من الـدقة، والـخوف الشديد عـليه مـن اختــلاطــه أو مجالسته «للغير»، وملاحقة حركاته وسكناته، وتأويل اتجاهاته.. كل هذه الأمور وما شابهها، يسيئ إلى العلاقات الزوجية، ويجعل كلاً من الزوجين يضيق ذرعًا بالآخر، ويرميه بعدم الاهتمام والوفاء، ويكون هذا سببًا مباشرًا في نشأة حالة «التوتر» وزيادة شدتها.
وهناك نوع من الغياب تفرضه ظروف شرعية ومنطقية، مثل الرجل الذي لديه أكثر من زوجة، فهنا يكون العدل والإنصاف هو السبيل الوحيد لإيفاء الزوجات والأولاد حقوقهم، وقضاء وقت أطول معهم.. إلا أنه وبكل أسف، قد استُغل أمر مقاصد الشريعة الإسلامية من إباحة التعدد بطريقة سيئة من بعض الرجال.. فها هو المطلاق المزواج، وكذلك الباحث عن المنافع الدنيوية والاقتصادية فقط، وغير ذلك، تجد في عصمته أكثر من زوجة، والعديد من الذرية، لكن تجده غير عادل، ولا يقضي وقته مع أولاده بصورة منصفة بقدر المستطاع، وربما يقضي الكثير من الوقت خارج البيت فيما لا يفيد.
ومن الظواهر غير المحمودة، وتضر بالأسرة، وربما تؤدي إلى تفككها، أن بعض الآباء يستخدمون المال كبديل عن العاطفة الفعلية، فمثلاً هنالك الأب الذي يعطي أي مبلغ من المال حين يطلبه أبناؤه، لكن ليس لديه الاستعداد أن يجلس مع هذا الابن لنصف ساعة فقط، يسأله عن شؤونه ويفيض عليه بعاطفة الأبوة.
ومثل هذا الأب، الذي همه كله أن يقـضي أوقاته خارج المنزل، لا شك أن تصرفه ذلك سوف يؤثر سلبًا على تكوين شخصية الطفل وبنائه النفسي والوجداني والمعرفي، وبهذا يكون الأطفال هم الضحية.. ونتيجة لذلك يتولد مجتمع يفتقد شبابُه للهوية والشخصية الفاعلة.
وهنالك نوع من الغياب الأبوي، على الرغم من وجود الأب بالمنزل معظم الوقت، إلا أنه لا يشارك بفعالية في النشاطات الأسرية، فهو لا يجتمع مع أفراد أسرته على مائدة الطعام مثلاً، ويكون معظم الوقت منعزلاً لوحده، أو يقضي ساعات طويلة في مشاهدة التلفاز، وما شابه ذلك.. مثل هذا الغياب اللاجسدي، يمثل أيضًا علة تربوية كبرى تساهم بصورة أو بأخرى في التفكك الأسري.
4- وسائل الإعلام الحديثة:
كثر الحديث، كما كثرت البحوث والدراسات التي تجرى حول دور وسائل الإعلام الحديثة، وأثرها على مرافق الحياة المختلفة، خاصة وأن الأسرة هي صاحبة النصيب الأكبر من التأثيرات التي تنتج عن هذه الوسائل.. ولا أحد يستطيع أن ينكر الأدوار الإيجابية لهذه المرافق في بعض مناحي الحياة، إلا أن التأثير السلبي أصبح أكثر وضوحًا، خاصة بعد استحالة التحكم فيما تحمله الفضائيات والإنترنت من ثقافات أخرى أضرت بالكثير من القيم التي تتمتع بها الأسرة الإسلامية العربية.
وقد أثرت وسائل الإعلام الحديثة، خاصة غير المنضبطة منها، على قيم التضامن العائلي، وقيم الاحترام المتبادل، وأخلت بمعايير الحلال والحرام، والطبيعي والشاذ، والمقبول وغير المقبول.. وتوجد الآن دراسات تؤكد أن الجلوس أمام أجهزة «الكمبيوتر» والدخول إلى شبكة الإنترنت لأوقات طويلة، خاصة بالنسبة للأطفال والشباب، يولد فيهم روح السلبية والقصور، وينشط لديهم صفات الشخصية الانطوائية والاعتمادية، التي تفتقد الهمة وروح الجد والمثابرة.
إلى جانب ذلك، فإن الجلوس لساعات أمام هذه الوسائل الإعلامية يحرم أفراد الأسرة من التفاعل مع بعض، وربما يفرض أحد أفراد الأسرة على بقية أعضاء الأسرة برامج خاصة تبثها إحدى محطات التلفزة، وبهذا يلحق الضرر بهؤلاء الأفراد، خاصة إذا كان هذا الفرد يمثل التيار القوي في داخل الأسرة.. وكثيرًا ما تؤدي مثل هذه المواقف إلى صراع القيم، خاصة بين الأطفال، مما يضر مستقبلاً بقضية الهوية والانتماء لدى هؤلاء الأطفال.
5- الخدم داخل البيوت وغياب الأمومة تربويًا ولغويًا:
أكدت الدراسات العربية والإسلامية، وخاصة الخليجية منها، وضوح ظاهرة الخادمات والمربيات الأجنبيات في البيت الخليجي، حيث أصبح وجود الخادمة أو المربية أمرًا ضروريًا إلى حد بعيد، يصعب الاستغناء عنها في ظل الظروف الراهنة.. ولا نستطيع القول بمحدودية تأثيرهن على الطفل في البيت الخليجي، نظرًا لاتساع مجال التفاعل من ناحية، والدور الحيوي الذي تضطلع به هذه الفئة في تربية الطفل وتنشئته ورعايته من ناحية أخرى.
وقد أشارت الكثير من الدراسات التي أجريت في منطقة الخليج إلى مساوئ المربيات والخادمات، وإن كانت بعض الدراسات، خاصة من الكويت، قد أشارت إلى إيجابياتهن، فقالت بأنه لا توجد آثار سلبية على الأبناء من وجود المربيات الأجنبيات، خاصة في مظاهر النمو بالطفولة المبكرة واتجاهات الوالدين.. ومهما ذهبت هذه الأبحاث إلى القول بمحدودية التأثير أو ضعفه، فإن هذا لا يمكن الأخذ به وإطلاقه على المجتمع الكويتي بأسره، ولا أدل على ذلك من الأبحاث الأخرى التي أجريت في الكويت نفسها، والتي أكدت على وجود الكثير من السلبيات المرتبطة بوجود الخادمات داخل البيوت.
أما فيما يخص مساوئ الخادمات، فإن تقارير وأبحاثًا من السعودية والإمارات والبحرين وعمان وقطر، أشارت إلى وجود تــأثيرات سلـبيــة واضحــة، وإن تبايـنت الاتـجاهات في كل منها.. ولا شك أن العادات والأنماط السلوكية والقيم السائدة في مجتمعات المربيات الأصلية، هي عادات وأنماط سلوكية وقيم اجتماعية منبوذة ومرفوضة من قبل مجتمعاتنا عامة.
وتظهر هذه السلبيات جلية في:
أ- تحميل الأسرة أعباء مالية، والتبذير والإسراف في المواد الغذائية.
ب- غيرة الخادمات من ربات البيوت عند رؤيتهن رموز الثروة، التي تتمثل في المجوهرات والملابس الفاخرة وما إليها.
جـ- الانتقام من الأطفال في غياب الأمهات، ويمكن أن يكون هذا الانتقام عن طريق الأذى الجسدي أو الجنسي أو العاطفي، أو عن طريق الإهمال وعدم الاكتراث بمتطلبات الطفل.
د- الاتصال سرًا بأشخاص مجهولين، وربما إقامة علاقات جنسية معهم، كجزء من الانحراف الأخلاقي للمربية.
هـ- ظهور قيم اجتماعية غير إيجابية، كالاتكالية، والاعتماد على «الغير»، وانعدام روح المبادرة.
و- التأثير اللغوي للمربيات، وقد تجلى ذلك في تأخير نطق بعض الأطفال، وتقليد لغة المربيات، والتحدث إليهن من خلال لغتهن الخاصة، الأمر الذي أدى إلى ظهور لهجة مهجنة.
س- تدني مستوى ارتباط الأطفال بالوالدين والإخوة، مما أدى إلى إضعاف صلة الطفل بأمه إلى حد واضح في كثير من الحالات.. ولا شك أن هذا الضعف إنما جاء كنتيجة طبيعية لتقليص دور الأم، ومزاحمة المربيات أو الخادمات لها في أدائه. ومن المعروف أن بين شخصية الفرد وصحته النفسية علاقة وثيقة، ويكتسب هذه الصحة النفسية من خلال تعامله الناجح، والتوافق بين البيت والعلاقات الاجتماعية التي تربط الفرد بمن يعيش ويتعامل معهم.
حـ- ونظرًا لاتساع التفاعل بين الأطفال والخادمات أو المربيات، فإن تأثيرهن على الـمعتقدات الديـنيـة عـلى درجــة مــن الأهمـية، ولا يمكن تجاهله، وقد أشارت دراسة من البحرين إلى أن 45.1% من العينة يعتقدون بوجود تأثير ديني من قبل الخادمة أو المربية على الطفل.
ط- إهـمال الـزوجـة لـكثير من حقوق زوجها وجعل الخادمة تقوم بذلك.
6- تعدد الزوجات:
من رحمة الله تعالى بعباده أن أحلَّ تعدد الزوجات، وجعل منه مخرجًا لكثير من المشاكل التي قد تعتري الأسرة والزيجة الأولى، ويكون الحل الأمثل هو الزواج بأخرى، خاصة في حالة العوائق الصحية والاجتماعية والنفسية.. وبجانب ذلك فهو وسيلة لتكاثر الذرية، التي تقوي من دعائم الأمة الإسلامية، كما أنه السلاح الفعال في مواجهة مشكلة العنوسة بين بنات المسلمين.
ومن هذا الـمنطلق نقول: إن تعـــدد الزوجات شيء إيجـابي متى ما كانت الظروف مواتية وتوفرت شروط العدل بين الزوجات من جانب الرجل، إلا أنه ومما يؤسف له، أن واقـع الحــال يشير إلى أن هذه السماحة الإسلامية استُغلت من قِبَل أقلية، لتتحول بعض الزيجات إلى جحيم، مما أدى إلى تفكك بعض الأسر وتشريد أفرادها.. وهذه الأقلية من الأزواج لا شك أنها قصيرة النظر، ولم ينمو لديها الضمير بشكل كاف، وذلك على الرغم من اهتمام الإسلام بتربية الضمير أو الوازع الداخلي عند الفرد، حيث اعتبره الرقيب الحقيقي على أفعاله.
بقي أن نقول: إن عوامل التفكك الأسري تتفاوت في شدة تأثيرها، وذلك حسب الظروف المحيطة بالأسرة بصفة خاصة والمجتمع بصفة عامة، وربما يكـون سبب التفكك الأسـري عـامـلاً واحدًا تجرعته الأسرة بجرعة كبيرة، وربما تتفاعل عدة عوامل مع بعضها بعـضًا وبـدرجات مختلفة، لتؤدي في النهاية إلى ظاهرة التفكك وربما التفتت الأسري.
الأسرة والصحة النفسية
الصحة النفسية للأسرة هي إحدى الدعامات المهمة لأي مجتمع، فإذا صحت الأسرة نفسيًا صح المجتمع كله، وإذا اضطربت الصحة النفسية للأسرة كان مصيرها التفكك، الشيء الذي ينتج عنه نسق سلوك مضطرب وغير سوي يخل بتوازن المجتمع كله.
ويمكن القول بصفة عامة: إن الأسرة الإسلامية والعربية تتمتع بصحة نفسية جيدة إذا ما قورنت بالأسرة الغربية.. فالتكامل والتماسك والمساندة بين الأفراد، والذي يقوم على التربية الإسلامية الصحيحة، من الدعائم التي تحمي الإنسان من غائلة المرض النفسي.
فنجد في الدول الغربية مثلاً، أن الناس ترتبط بالكلاب أكثر من ارتباطها بالإنسان، يتمشون معها لساعات طويلة، يعيشون معها بمفردهم لسنين طويلة، ويوفرون لها ما طاب من الطعام والشراب، وربما تحظى بوصية توفر لها رغد العيش بعد ممات صاحبها(!) ولكن في المقابل، نحن شعوب ذات حساسية عالية، شعوب مرهفة الحس، سريعة التأثر، فنحن نفرح وتنشرح صدورنا بسرعة وعمق، ونحزن بسرعة وعمق، ونتألم ونتعذب، نقلق ونتوتر، ربما لما قد يصيب الآخرين وليس ما قد يصيبنا، وهذه ربما تكون خاصة طيبة، وإن كانت تعرضنا للانجراح النفسي.. ومن أجل ذلك كان من مقاصد الإسلام الحنيف تهذيب النفس وترويضها.
ومع ازدياد المشاكل الاقتصادية، مع الحروب والهموم، مع توترات البحث عن سكن وعن عمل، وكل ما يحيط بالحصول على لقمة العيش من مصاعب، وأيضًا كل ما يكتنف الثراء من مشاكل ومتاعب، أصبحت الأسرة لا تسلم من الإصابة ببعض الظواهر النفسية التي هي سمة العصر.
وفي عصرنا هذا أيضًا، ازدادت الأمراض الجسدية والعضوية، وغدا واضحًا لكل من يريد أن يفهم السلوك الإنساني -سويًا كان أم غير سوي- أن يكون دارسًا للجوانب العضوية والجوانب النفسية معًا، فقد سقطت النظريات الثنائية التي كانت تفصل بين الجسم والنفس، بعد ما تبين أن كلاً من الجسم والنفس يؤثر في (الآخر) ويتأثر به.
اضطراب الصحة النفسية للأسرة:
ليس من السهل وضع تعريف لمفهوم الصحة النفسية، لأن هذا التعريف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحديد معنى السواء واللاسواء في علم النفس.. والحكم بالسوية أو اللاسوية على سلوك ما، تكتنفه بعض الصعوبات، والصحة النفسية السوية لا تعني غياب المرض فقط، وهذا يعني أن عدم معاناة الفرد من مشاعر الإثم أو الذنب أو الخجل أو القلق أو الاكتئاب أو الأمراض النفسية الأخرى، لا يعتبر كافيًا ليتمتع الفرد بحياته في ظل صحة نفسية.
فالفرد يقابل طوال حياته سلسلة من المشكلات البسيطة أو المعقدة، وعليه أن يواجهها، وأن يجد لها الحل المناسب، كما يواجه كثيرًا من المسؤوليات الشخصية والعائلية والمهنية والاجتماعية وعليه أن يتحملها، وعليه أن يقوم بكل المسؤوليات المرتبطة بالأدوار المترتبة على المكانات الاجتماعية التي يشغلها، كل ذلك يجب أن يقوم بعبئه حتى يحقق توافقه مع نفسه ومع بيئته، وهي علامة الصحة والكفاءة النفسية العالية والمتزنة.
وتنظر منظمة الصحة العالمية إلى الصحة بصفة عامة من الزوايا الإيجابية، فمفهوم الصحة لديها «حالة تشير إلى اكتمال الجوانب الجسمية والعقلية والاجتماعية، وليست مجرد غياب المرض أو الوهن».. وهناك سمات أساسية لابد أن تتوفر لدى كل فرد من أفراد الأسرة حتى نستطيع على ضوئها أن نقول: إن هذا الإنسان يتمتع بصحة نفسية متكاملة، أو على الأقل لديه درجة مقبولة من التكيف والاتزان النفسي.
ومن أهم هذه السمات التي يمكن استخلاصها في هذا الصدد:
1- العلاقة الصحية مع الذات: وتتمثل في ثلاثة أبعاد، هي فهم الذات، وتقبل الذات، وتطوير الذات.
2- المرونة: وهي تعني أن الفرد السوي يجد دائمًا بدائل للسلوك الذي يفشل في الوصول من خلاله إلى الهدف حتى يصل لغايته، أو أن ينصرف عن الموقف كلية إذا وجد أن المشكلة أو الهدف أعلى من مستوى إمكاناته، أو أنها لا تستحق الجهد الذي سيبذل فيها، وهي دلائل سمة المرونة.
3- الواقعية: وتعني التعامل مع حقائق الواقع، فالذي يحدد أهدافه في الحياة وتطلعاته للمستقبل على أساس إمكاناته العقلية، وعلى أساس المـدى الذي يمكن أن يصل إليه باستعداداته الخاصة، فرد سوي.
4- الشعور بالأمن: يشعر الفرد السوي بالأمن والطمأنينة بصفة عامة، وهذا لا يعــني أن السـوي لا ينتـابه القلق ولا يشعر بالخوف ولا يخبر الصراع، بل إنه يقلق عندما يعرض له تأثير القلق، ويخاف أن يهدد أمنه، ويخبر الصراع إذا واجه بعض مواقف الاختيار الحاسمة، أو بعض المواقف التي تتعارض فيها المشاعر، ولكنه في كل الحالات السابقة يسلك السلوك الذي يعمل مباشرة على حل المشكلة، أو يعمل على إزالة مصادر التهديد، ويحسم الأمر باتخاذ القرار المناسب في حدود إمكاناته.
5- التوجه الصحيح: عندما تعرض للشخص السوي مشكلة فإنه يفكر فيها، ويحدد عناصرها، ويضع الحلول التي يتصور أنها كفيلة بحلها، وفي المقابل فإن السلوك غير السوي لا يتجه مباشرة إلى المشكلة ولكنه يعمد إلى الدوران حولها، متهربًا من اقتحامها مباشرة.
6- التناسب: وهو من السمات الهامة التي تميز السلوك السوي، وهو يعــني عــدم المبالغة، خــاصة في المجـال الانفعالي، ولذلك نقـول: إن هناك تناسبًا بين سلوك السوي و الموقـف الذي يصـدر فيه السلوك، أما السلوك غير السوي فيتضمن مبالغة في الانفعال تزيد عما يتطلبه الموقف.
7- الإفادة من الـخبرة: تفيد الـمواقـف السابقة الفـرد، فهو يـغيـر ويعدل من سلوكه حسـب ما تعـلـمه من الـمواقف السابقة، مـما يجعله يضيف جديدًا لمجموعة الخبرات التي تعملها، وهذا يجعله أكثر قدرة على مواجهة المواقف المستقبلية، وعكسه تمامًا يكون الفرد غير السوي.
وبما أن الشخصية هي التنظيم «السيكولوجي» العام للفرد، نستطيع أن نقول: إن درجة السواء النفسي للفرد هي الركيزة الأساس للمكون النفسي للأسرة، وإذا انصهرت المكونات الإيجابية وكانت هي السائدة كانت الأسرة أكثر ترابطًا وانسجامًا، ومتى ما قويت وتراكمت المكونات والعوامل النفسية السالبة للأفراد كان مصير الأسرة التفكك والتشرذم.
المحك الإسلامي وأهميته في ترابط الأسرة:
اقترح العلماء عدة محكات للتمييز بين الصور السوية والصور غير السوية من السلوك للفرد والأسرة، وأهم هذه المحكات هي المحك التحليلي، الذي قاده ونظّر له «فرويد»، معتمدًا فيه على مراحل النمو الإنساني.. ثم يأتي المحك السلوكي، الذي يقوم على التعلم واكتساب الخبرات.. وهناك المحك الإنساني، والذي من أبرز علمائه «كارل دوجرز»، وتقوم أسس هذه المدرسة على الاعتراض على التحليل النفسي والسلوكي، والتركيز على الجوانب الخاصة التي تميز الإنسان عن الحيوان، مثل الحرية والإرادة والمسؤولية والإبداع.. ويلاحـظ أن المحكـات الثـلاثـة يناقض بعضها بعضًا بصورة واضحة، مما يجعلها غير مؤهله لتفسير السلوك الإنساني.
ومن هنا برز نموذج مقترح لمحـك إسلامي، يميز بين السـلوك السـوي والسلوك غير السوي.. ويقوم المحك الإسلامي في السلوك على فكرة التوازن، أو الوسطية، بين الأطراف أو الأقطاب.. والتوازن هنا لا يعني احتلال نقطة متوسطة بين طرفين أو قطبين، وإنما يعني الجمع بين محاسن الطرفين دون عيوبهما.
ويعتبر التوازن هو السمة الرئيسة في المحك الإسلامي، ولذا يمكن أن نطلق عليه «محك التوازن»، لأنه يعتمد على تحقيق التوازن بين جوانب النفس الإنسانية، ويوفق بين النزعات المتقابلة في الطبيعة البشرية، من الخوف والأمل، الحب والكره، الواقع والخيال، الجوانب الحسية والجوانب المعنوية، رغبة الفرد في السيطرة ورغبته في الخضوع، كما يقوم على تحقيق التوازن بين الفرد من ناحية والمجتمع بمنظماته وهيئاته من ناحية أخرى، والكون بأسره من ناحية ثالثة.
ويمكن تلخيص بعض جوانب المحك الإسلامي فيما يلي:
1- الإسلام وسط بين الجماعية والفردية: فهو يلغي الحواجز بين الفرد والمجتمع، فلا ينظر إلى الفرد إلا على أنه فرد في جماعة، كما لا ينظر إلى الجماعة إلا باعتبارها جماعة مكونة من أفراد.. وإذا كان المسلم مطالبًا بالانتماء إلى الجماعة، فإنه مطالب أيضًا بإعمال عقله وضميره في كل سلوك، حتى لو انتهى ذلك به إلى مخالفة الجماعة.. فالإسلام ينهي عن الإمعية، وهي تقابل في المصطلح النفسي «المسايرة الآلية».
ولذا فالمسلم مطــالب بمقاومة ضغــوط الجمـاعــة عنــدما تخــطئ أو تنحرف، وعلى ذلك فالمسلم لا يخــاف إلا الله ولا أحد سـواه، ولا يخشى في الحق لومة لائم.. ويخاطب القرآنُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قائلاً: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (الأحزاب:37).
2- الإسلام وسط بين الروحية والمادية: ولكبح جماح شهوة المتعة، والسمو بالسلوك الإنساني، يدعو الإسلام إلى التمتع بالطيبات في حدود ما أحل الله، على ألا ينسينا ذلك حق الله وحق الآخرين علينا: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص:77).
3- السلوك السوي في الإسلام وسط بين العبادة والعمل: من المعلوم أنه لا رهبانية في الإسلام، فالمسلم مطالب بأن يعمل وأن يتعبد، بدون أن ينسيه أحدهما الآخر: {فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون} (الجمعة:10).
4- الجمع بين التطوع والالتزام: تمثل الأركان الخمسة في الإسلام قمة الالتزام بالنسبة للمسلم.. وبجانب هذه الأركان الملزمة هناك النوافل والسنن والأعمال التطوعية من مجالات البر والخير، فهي اختيارية، ويثاب عليها المسلم، وليس هناك حد أقصى لما يمكن للمسلم أن يقوم به من أعمال الخير: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:26)، ولكن كل حسب استطاعته، لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
5- السلوك السوي في الإسلام يتحدد بالوازع الداخلي والوازع الخارجي: يهتم الإسلام بتربية الضمير، أو الوازع الداخلي عند الفرد، ويعتبره الرقيب الحقيقي على أفعاله، لأنه الرقيب الدائم والمصاحب، ولكن الإسلام يعمل حسابًا لأولئك الذين تغلبهم دوافعهم، أو الذين لم ينمُ لديهم الضمير بدرجة كافية، فيقيم الوازع الخارجي رقيبًا عليهم، ورادعًا لهم، وليحميهم من أنفسهم، بدون يأس من أن يعودوا إلى حظيرة الصواب يومًا ما، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
6- الجمع بين التواضع والعزة: الإسلام يطالب المسلمين بأن يكونوا متواضعين لله وللناس: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} (الفرقان:63)، ويطالبهم بأن يكونوا ذوي عزة ومنعة: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقون لا يعلمون} (المنافقون:.
وبجانب ذلك، فإن السلوك السوي في الإسلام هو توازن بين الحرية والمسؤولية، وتوازن بين الثبات والتغير، وتوازن بين الإيجابية والسلبية.. وهو كذلك يجمع بين المثالية والواقعية.. وبما أن التفكك الأسري ماهو إلا اضطراب في محكات السواء والتوازن لأفراد الأسرة، فإن المحك الإسلامي يبقى هو الأمثل لحماية الأسرة من التفكك.. وإذا أخذ عدة أفراد في الأسرة الواحدة بهذا المحك، فإن من يضل منهم أو يفتقد الطريق، سوف يعود إلى الجادة، لأن البيئة العامة في الأسرة قائمة أصلاً على السواء والتوازن.
الأسرة والأمراض النفسية:
لابد من الإقرار بالأهمية المتزايدة للصحة النفسية، خاصة في حياة الأسرة.. والصحة النفسية السليمة، التي تعني الجوانب السلوكية والعاطفية والاجتماعية للحياة اليومية، تؤثر بصورة مباشرة على الأسرة، فهي تكون وسيلة للترابط والتضامن الأسري.. واضطراب هذه الصحة قد يكون سببًا مباشرًا في تفكك الأسرة واختلال توازنها.
والأمراض النفسية، أصبحت اليوم منتشرة بصورة لا يمكن تجاهلها، حيث إن حوالي 30% من أفراد الأسر يعانون من حالات نفسيه تتفاوت في درجة شدتها وآثارها السلبية، فمثلاً مرض الاكتئاب النفسي من الأمراض الشائعة جدًا، خاصة وسط النساء، ولكن بكل أسف فإن معظم هذ الحالات لم تشخص، ولم تتقدم للأطباء من أجل العلاج والتأهيل النفسي، وربما يكون السبب في عدم تشخيصها هو الجهل أو التجاهل، أو خوف الوصمة الاجتماعية.. ووجود مثل هذه الحالات الكامنة في داخل الأسرة، تكون بلا شك عاملاً هامًا في اضمحلال الكفاءة النفسية للأسرة، وربما تفككها.
والمرض النفسي لأحد الزوجين، سواء كان هذا المرض معروفًا ومشخصًا أم لا، ربما يكون السبب الرئيس للخلافات الزوجية التي قد تنتهي بالطلاق وضياع الأطفال.. ولازلنا نعاني في مجتمعاتنا من مشاكل التنشئة الخاطئة للأطفال، كما أن تعاملنا مع الأمراض النفسية والعقلية يشوبه الكثير من القصور واللامبالاة في بعض الأحيان.. ومن يصاب بمرض نفسي أو عقلي لا شك أنه يعاني، ولكن معاناة الأسرة لا تقل عن معاناة المريض، بل تزيد في بعض الحالات. والمرض النفسي، مثل القلق والتوتر والمخاوف والوساوس والاكتئاب، يسبب ألمًا فظيعًا لصاحبه.. والمرض العقلي مثل الفصام، الذي لا يكون فيه الإنسان مرتبطًا بالواقع، مع وجود اضطراب في أفكاره وسلوكه وتصرفاته وحكمه على الأمور بصورة غير صحيحة، يسبب إزعاجًا فظيعًا للأسرة وللجيران ولزملاء العمل.
واختلال الصحــة النفســية، ســواء كان بسـبب أمـراض نفسـية أو عقلية، يجعل أسرة المريض تتألم، ولا يوجد مرض في أي فرع من فروع الطب يسبب ألمًا وإزعاجًا وحيرة للأسرة مثل الـمرض النفسي أو المرض العقلي.. فأي مرض عضوي محصور في جزء من الجسم، وبالتالي فهو محصور في صاحبه، ولا تمتد آثاره إلى الآخرين (ماعدا طبعًا الأمراض الـمُعْدِية) .. وأعراض المرض العضوي إما ألم أو خلل في الوظيفة.. أما أعراض المرض النفسي أو العقلي فإن آثارها تمتد مباشرة إلى الآخرين، وتؤثر على حياتهم، إنها أعراض تشتمل في بعض الأحيان على اضطراب علاقة المريض بالآخرين خاصة أفراد أسرته.. وبقدر ما تتأثر الأسرة بالمرض النفسي أو المرض العقلي فإنها أيضًا تؤثر في مسار المرض ونتائج العلاج.. بل قد تكون من أسباب المرض، أو على الأقل من العوامل التي فجرت ظهور المرض.
فالتأثير متبادل بين الأسرة ومريضها.. الألم متبادل أيضًا .. ذلك أن الأسرة (ربما بحسن نيه وبسبب عدم المعرفة) قد تزيد من آلام المريض.. والغريب أن الحب الزائد قد يكون سببًا في ازدياد آلام المريض.. والغريب أيضًا أن الاهتمام الزائد قد يكون سببًا في ظهور المرض.. وبالمقابل فإن الإهمال وإنكار المرض أو إنكار حق المريض في أن يمرض وأن يتألم، قد يكون سببًا في مزيد من معاناة وآلام المريض!
وطريقة عمل الأسرة وتعاملها من المنظور النفسي، تثير الحيرة أحيانًا، فكم من الأطفال أحضروا لنا بالعيادات النفسية وتكون شكوى الوالدين أنه غير مطيع وغير مكترث بدروسه، ويعاني من اضطراب الـمسلك، وفي النهاية نكتشف أن الطفل غير مريض، وإنـما المريض هو شخص آخر داخل الأسرة كأحد الأبوين مثلاً، ويكون هو سبب الأزمة النفسية التي يعاني منها الطفل.
وكم لاحظنا أن بعض الأسر تقام داخلها أحلاف تآمرية، يستقطب فيها أحد الوالدين مجموعة من الأطفال، ويستقطب الآخر مجموعة أخرى! ولئن كانت هذه الظاهرة النفسية لا شعورية في كثير من الحالات، إلا أنها بلا شك تهز كيان الأسرة.
وها هي بعض الأسر أيضًا لديها ما يعرف «بالطفل الخاص»، الذي يُعامل معامـلـة فيها الكثـير مـن التدليــل، ويفــرض حـولــه طـوق نفسي مـما يضر به وبإخوته الآخرين من ناحية الـتربية والتـنشئة النفسية.
ولذلك فالأسرة يجب أن تعرف وأن تتثقف.. والطبيب النفسي لا يجب أن يكون اهتمـامه محـصورًا فقـط في مريضه، وإنما يجب أن يمتد هذا الاهتمام ليشمل أسرة المريض.. فالأسرة شريكة في المعاناة وقــد تكون شريكة (بــدون قــصـد) في حـدوث المـرض.. والعلاج لا يمكن أن يحقق نجاحه الأكمل إلا باشتراك ومعاونة الأسرة.
من سمات الأسرة المسلمة:
وفيما يلي محاولة لتلمس بعض الملامح والسمات التي تتصف بها الأسرة الإسلامية والعربية في كثير من الأحيان:
1- إننا كثيرًا لا نعترف بالمرض النفسي، أو ننكر على أي إنسان الحق في أن يتألم نفسيًا.
2- مشكلتنا أننا لا نهتم إذا عبر أحد أعزائنا عن معاناته النفسية، ولكننا ربما نعطي اهتمامًا سخيًا إذا اشتكى عضويًا.
3- مشكلتنا أن سخـاءنا مادي، واهتمامنا محدود بالمعنويات، معاناة وعطاء.
4- مشكلتنا في كثير من الأحيان أننا نرفض أن نعرف، بل ونقاوم بشدة من يحاول أن يأخذ بأيدينا لنعرف، ونظل متشبثين ببعض الأمور القديمة البالية.
5- مشكلتنا الكبرى هي اختفاء الحوار في البيت الإسلامي العربي.. وبالتالي كلامنا النافع الذي يلبي الحاجات النفسية لأفراد الأسرة قليل، ولذا فإن تعبيرنا عن متاعبنا معدوم.
6- قليلون جدًا الذين يعرفون شيئًا عن الطب والصحة النفسية.. وما يعرفونه قليل جدًا، وهو مأخوذ عن أجهزة الإعلام، وكثـيرًا ما تنقصه الدقة.
7- من مشاكلنا أن مفهوم العلاج الديني اختلط لدى الكثيرين، وتم استغلاله لمنافع دنيوية من آخرين، وقد حمّلنا العين والسحر والمس فوق طاقتها، وهذا أنسانا الرُّقى' الشرعية والمعلوم من الدين بالضرورة.
8- من مشاكلنا أننا نرتكب أخطاءً تربوية كبيرة، خاصة حين نعامل أطفالنا كشريحة واحدة، ويفوت علينا أن لكل طفل كيانه ووجدانه ودرجة استعداده الخاصة به، فهناك من يفيد معه التشجيع، وآخر لابد أن يكون أسلوب الترهيب هو الأنفع معه، وثالث بين هذا وذاك، وهكذا.
موقف البيت العربي من الطب النفسي:
ومن خلال التجارب والخبرة في التعامل مع المريض العربي بصفة عامة، يمكن أن نلخص موقف البيت العربي من الطب النفسي على النحو التالي:
1- مازالت زيارة الطبيب النفسي من الأشياء المفزعة، التي تهز الأسرة، وترفضها بشدة في البداية.. فإذا اشتكى عضو في الأسرة من مشكلة نفسية وتجرأ وطلب زيارة الطبيب النفسي، فإن رد الفعل الأول والتلقائي من الأسرة هو الرفض بشدة، ومحاولة تهوين الأمر بأن الحالة لا تستحق استشارة طبيب.
2- بعض الناس الذين يتألمون نفسيًا يترددون كثيرًا في زيارة الطبيب النفسي، خشية افتضاح أمرهم.. فهذه الزيارة تعني أنهم مصابون بالجنون.. فلدى بعض الناس تصور خاطئ، وهو أن كل من يزور الطبيب النفسي مختل عقليًا.
3- والذي يزور العيادة النفسية من المرضى النفسيين يجـيئ بعـد تردد طــويل، وبعد معانـاة أطـول، استهلكت وقته وصحته وأمنه وسعادته.
4- وإذا عاد المريض بدواء قرره له الطبيب النفسي، فإن الأسرة تفزع مرة ثانية.. وبناء على معلومات خاطئة، يتصورون أن هذه الأدوية تسبب الإدمان، ويتبارون في نصح المريض بعدم تعاطيها، ويشككون فيها، وبذلك يزيدون من حيرته ومعاناته.. بعضهم يتصور أنها تؤذي المخ أو الكبد وأنها نوع من المخدرات التي ربما تفتك به.
5- وفي الحالات التي تقتنع فيها الأسرة بأهمية العلاج، وخاصة في حالة الـمريض العقلي، فإن الأسرة تنصح أو تأمر مريضها بالتوقف عن العلاج بعد فترة معينة، إذ يكون المريض قد أظهر تحسنًا، ولا يدرون ضرورة في استمراره على العلاج.. والنتيجة طبعًا هو تدهور حالة المريض مرة أخرى.
6- مـع ظهور أي أعـراض جـانـبـية فـي بـدايـة العـلاج، حـتى ولـو كانت بسيطة، فإن الأسرة تمنع مريضها من الاستمرار في العلاج، أو قد يتوقف المريض ذاته عن استعماله، وقد لا يعاود الاتصال بالطبيب أو زيارته مرة أخرى، وقد يذهبون به إلى طبيب ثان وثالث.
7- زيارة الطبيب النفسي قد تكون بداية لمشاكل جديدة في حياة الأسرة.. فالزوجة يضايقها أن يذهب زوجها إلى طبيب يحكي له مشاكله، وقد تكون هذه المشاكل مرتبطة بحياته الزوجية.. والزوج يزعجه أن تفضي زوجته للطبيب بأسرارها. ولذا يحاول الطرف السليم أن يفت في عزم شريك حياته المريض ويثنيه عن الذهاب إلى الطبيب، أو إنهاء العلاج قبل أن يتم، وإذا وجد معارضة، فإنه يبدي تذمره وعدم ارتياحه، وذلك مما يخلق صراعات جديدة.
الأسرة المنتجة للمرض النفسي:
الأسرة المنتجة للمرض، فرض يطرحه بعض علماء النفس والأطباء النفسيون معًا، وذلك بعد أن اكتشفوا من خلال الدراسة والعلاج الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة في اضطراب الفرد، وهم بذلك يعطون لبنية الأسرة وظروفها الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة ثقلاً خاصًا في توفير الصحة أو نشأة المرض.
وفرض «الأسرة المنتجة للمرض»، يقوم على أساس أن هناك بعض الأسر -بحكم بنيتها- أسر غير سوية.. ويفصح عامل اللاسواء في الأسرة عن نفسه من خلال أحد الأبناء.. وعادة ما يكون هذا الابن أكثر الأبناء تهيأً للإصابة بالمرض، وقد يكون أساس هذا التهيؤ وراثته لقدر أكبر من الاستعداد للمرض.
وطبقًا لهذا الفرض، فإن مرض الفرد في هذه الحالة مرض أسرة بكاملها، أفصح عن نفسه من خلال أضعف الحلقات في الأسرة، وهو الطفل الأكثر تهيأ للاضطرابات.
ويلاحظ أن معظم الدراسات والبحوث التي تمت في إطار فرض «الأسرة المنتجة للمرض» تمت على مرضى «الفصام»، وهو مرض عقلي رئيس.. وقد ركز «هندرسون» في أبحاثه، على العوامل البيئية، وفي مقدمتها الأسرة، واعتبر أن «باثولوجية» العصاب هي أساس «باثولوجية» العلاقات البيئية الشخصية.. وخصت معظم هذه الدراسات الأم بقدر أكبر من عامل اللاسواء، وبالتالي النصيب الأوفى من مسؤولية اضطراب الطفل.
وفيما يلي بعض العمليات المرضية في «الأسرة المنتجة للمرض»:
1- المناخ الوجداني غير السوي: يرى «أكرمان Ackerman» أننا في أسر الكثير من المرضى أمام جو أسري غير طبيعي وغير سوي.. ويركز « أكرمان» على الاتجاهات العاطفية المتفاعلة في الأسرة، ويرى أنه يوجد فيها نوع من التناقض بين ما يبدو على السطح، وما يحدث في الداخل، فما يبدو على السطح يوحي بالهدوء والثبات والاستقرار، ولكن هذا الهدوء لا يقوم على أسس قوية داخل الأسرة، وعلى نوعية العلاقات بين أفرادها.
وعليه فإن هذا الهدوء الظاهري والمصطنع عرضة لأن تمزقه بعض الثورات الانفعالية العنيفة التي ربما تبدأ من حادث صغير تافه ولكنها سرعان ما تجتاح الأسـرة كـلها، وينـقلب الهدوء إلى إثارة غامرة وذ