السؤال :
أريد من فضيلتكم إلقاء بعض الضوء مما ثبت عن تُبع الذي ورد ذكره في الآية
: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) والآية (وَأَصْحَابُ
الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ )
وهل كان تبع هذا شخصاً ؟ وهل كان موحدًا أم كافرًا؟
الجواب :
الحمد لله
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم " تبعا " هذا في موضعين اثنين ، في معرض
الإخبار عن كفر قومه وذكر ما حل بهم من عذاب الله وسخطه .
قال الله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الدخان/37 .
وقال سبحانه : (كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ . وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ . وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ق/12-14 .
وكان تبع هذا ـ كما ذكر المفسرون ـ أحد ملوك اليمن ، وكان مشركاً ثم أسلم ،
وكان يعبد الله على شريعة موسى عليه السلام ، وقد توقف نبينا صلى الله عليه
وسلم في شأنه ، في بادئ الأمر ، هل كان رجلاً صالحاً أم لا؟ ثم بعد ذلك نزل
عليه الوحي بأنه كان رجلاً صالحاً ، فنهانا عن سبه فقال صلى الله عليه وسلم : (
لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ ) رواه أحمد في "
المسند " (37/519) عن سهل بن سعد رضي الله عنه وقال المحققون: حسن لغيره. وحسنه
الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2423) .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره شيئاً من سيرة تبع هذا ، فقال :
" كانت حِمْيَر - وهم سبأ - كلما ملك فيهم رجل سموه " تُبَّعًا " ، كما يقال :
كسرى : لمن ملك الفرس ، وقيصر : لمن ملك الروم ، وفرعون : لمن ملك مصر كافرا ،
والنجاشي : لمن ملك الحبشة ، وغير ذلك من أعلام الأجناس .
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن ، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند ،
واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه ، واتسعت مملكته وبلاده ، وكثرت رعاياه ، وهو
الذي مَصَّر الحيرة ، فاتفق أنه مَرَّ بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية
، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار ، وجعلوا يَقْرُونه بالليل ،
فاستحيا منهم وكف عنهم ، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه
وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة ؛ فإنها مُهَاجَرُ نبي يكون في آخر
الزمان ، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن ، فلما اجتاز بمكة أراد هدم
الكعبة ، فنهياه عن ذلك أيضًا ، وأخبراه بعظمة هذا البيت ، وأنه من بناية
إبراهيم الخليل ، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر
الزمان ، فعظمها وطاف بها، وكساها الملاء والوصائل والحبير ، ثم كر راجعًا إلى
اليمن ، ودعا أهلها إلى التهود معه ، وكان إذ ذاك دين موسى عليه السلام ، فيه
من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه السلام ، فتهود معه عامة أهل اليمن .
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة ، وقد ترجمه الحافظ
ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة ، أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم
نذكر ، وذكر أنه ملك دمشق ، وأنه كان إذا استعرض الخيل صُفَّت له من دمشق إلى
اليمن .
ثم ساق من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ ولا أدري تبع لعينًا كان أم لا ؟ ولا
أدري ذو القرنين نبيًّا كان أم ملكا ) ، وقال غيره : ( أعزيرًا كان نبيًّا أم
لا؟ ). – رواه أبو داود (4674)-
وكأنه - والله أعلم - كان كافرًا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من
أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام ، وحج البيت
في زمن الجُرهُميين ، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ، ونحر عنده ستة
آلاف بدنة ، وعظمه وأكرمه . ثم عاد إلى اليمن .
وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة ، عن أبي بن
كعب ، وعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن عباس ، وكعب الأحبار ، وإليه المرجع في
ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضًا ، وهو أثبت وأكبر وأعلم .
وكذا روى قصته وهب بن مُنَبِّه ، ومحمد بن إسحاق في السيرة ، كما هو مشهور فيها
.
وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة " تُبَّع " هذا بترجمة
آخر متأخر عنه بدهر طويل ، فإن " تُبَّعًا " هذا المشار إليه في القرآن أسلم
قومه على يديه ، ثم لما مات عادوا بعده إلى عبادة الأصنام والنيران ، فعاقبهم
الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ .
وقال سعيد بن جبير: كسا " تُبَّعٌ " الكعبة ، وكان سعيد ينهى عن سبه .
و " تُبَّع " هذا هو تُبَّع الأوسط ، واسمه أسعد أبو كُرَيْب بن مَلْكيكرب
اليماني ، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة ، ولم يكن في
حمير أطول مدة منه ، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من
سبعمائة عام ، وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة
مُهَاجَرُ نبي في الزمان اسمه أحمد قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة
، وكانوا يتوارثونه ويروونه خلفًا عن سلف ، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن
زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره ، وهو :
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أنَّه ... رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَم ...
فَلَو مُدَّ عُمْري إلى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزيرا له وابن عَم ...
وَجَاهَدْتُ بالسَّيفِ أعْدَاءَهُ ... وَفرَّجتُ عَنْ صَدْرِه كُلَّ غَم ...
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام ، فوجدوا فيه امرأتين
صحيحتين ، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب : " هذا قبر حبي ولميس –
وروي : حبي وتماضر- ابنتي " تُبَّع " ، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله
ولا تشركان به شيئًا ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما .
قال قتادة : ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في " تُبَّع " : نُعِت نَعْت الرجل
الصالح ، ذم الله تعالى قومه ولم يذمه ، قال : وكانت عائشة تقول : لا تسبوا "
تُبَّعًا " ؛ فإنه قد كان رجلا صالحًا " انتهى باختصار .
" تفسير القرآن العظيم " (7/256-259) .
والله أعلم .
أريد من فضيلتكم إلقاء بعض الضوء مما ثبت عن تُبع الذي ورد ذكره في الآية
: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) والآية (وَأَصْحَابُ
الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ )
وهل كان تبع هذا شخصاً ؟ وهل كان موحدًا أم كافرًا؟
الجواب :
الحمد لله
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم " تبعا " هذا في موضعين اثنين ، في معرض
الإخبار عن كفر قومه وذكر ما حل بهم من عذاب الله وسخطه .
قال الله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الدخان/37 .
وقال سبحانه : (كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ . وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ . وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ق/12-14 .
وكان تبع هذا ـ كما ذكر المفسرون ـ أحد ملوك اليمن ، وكان مشركاً ثم أسلم ،
وكان يعبد الله على شريعة موسى عليه السلام ، وقد توقف نبينا صلى الله عليه
وسلم في شأنه ، في بادئ الأمر ، هل كان رجلاً صالحاً أم لا؟ ثم بعد ذلك نزل
عليه الوحي بأنه كان رجلاً صالحاً ، فنهانا عن سبه فقال صلى الله عليه وسلم : (
لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ ) رواه أحمد في "
المسند " (37/519) عن سهل بن سعد رضي الله عنه وقال المحققون: حسن لغيره. وحسنه
الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2423) .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره شيئاً من سيرة تبع هذا ، فقال :
" كانت حِمْيَر - وهم سبأ - كلما ملك فيهم رجل سموه " تُبَّعًا " ، كما يقال :
كسرى : لمن ملك الفرس ، وقيصر : لمن ملك الروم ، وفرعون : لمن ملك مصر كافرا ،
والنجاشي : لمن ملك الحبشة ، وغير ذلك من أعلام الأجناس .
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن ، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند ،
واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه ، واتسعت مملكته وبلاده ، وكثرت رعاياه ، وهو
الذي مَصَّر الحيرة ، فاتفق أنه مَرَّ بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية
، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار ، وجعلوا يَقْرُونه بالليل ،
فاستحيا منهم وكف عنهم ، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه
وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة ؛ فإنها مُهَاجَرُ نبي يكون في آخر
الزمان ، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن ، فلما اجتاز بمكة أراد هدم
الكعبة ، فنهياه عن ذلك أيضًا ، وأخبراه بعظمة هذا البيت ، وأنه من بناية
إبراهيم الخليل ، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر
الزمان ، فعظمها وطاف بها، وكساها الملاء والوصائل والحبير ، ثم كر راجعًا إلى
اليمن ، ودعا أهلها إلى التهود معه ، وكان إذ ذاك دين موسى عليه السلام ، فيه
من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه السلام ، فتهود معه عامة أهل اليمن .
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة ، وقد ترجمه الحافظ
ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة ، أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم
نذكر ، وذكر أنه ملك دمشق ، وأنه كان إذا استعرض الخيل صُفَّت له من دمشق إلى
اليمن .
ثم ساق من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ ولا أدري تبع لعينًا كان أم لا ؟ ولا
أدري ذو القرنين نبيًّا كان أم ملكا ) ، وقال غيره : ( أعزيرًا كان نبيًّا أم
لا؟ ). – رواه أبو داود (4674)-
وكأنه - والله أعلم - كان كافرًا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من
أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام ، وحج البيت
في زمن الجُرهُميين ، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ، ونحر عنده ستة
آلاف بدنة ، وعظمه وأكرمه . ثم عاد إلى اليمن .
وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة ، عن أبي بن
كعب ، وعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن عباس ، وكعب الأحبار ، وإليه المرجع في
ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضًا ، وهو أثبت وأكبر وأعلم .
وكذا روى قصته وهب بن مُنَبِّه ، ومحمد بن إسحاق في السيرة ، كما هو مشهور فيها
.
وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة " تُبَّع " هذا بترجمة
آخر متأخر عنه بدهر طويل ، فإن " تُبَّعًا " هذا المشار إليه في القرآن أسلم
قومه على يديه ، ثم لما مات عادوا بعده إلى عبادة الأصنام والنيران ، فعاقبهم
الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ .
وقال سعيد بن جبير: كسا " تُبَّعٌ " الكعبة ، وكان سعيد ينهى عن سبه .
و " تُبَّع " هذا هو تُبَّع الأوسط ، واسمه أسعد أبو كُرَيْب بن مَلْكيكرب
اليماني ، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة ، ولم يكن في
حمير أطول مدة منه ، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من
سبعمائة عام ، وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة
مُهَاجَرُ نبي في الزمان اسمه أحمد قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة
، وكانوا يتوارثونه ويروونه خلفًا عن سلف ، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن
زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره ، وهو :
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أنَّه ... رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَم ...
فَلَو مُدَّ عُمْري إلى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزيرا له وابن عَم ...
وَجَاهَدْتُ بالسَّيفِ أعْدَاءَهُ ... وَفرَّجتُ عَنْ صَدْرِه كُلَّ غَم ...
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام ، فوجدوا فيه امرأتين
صحيحتين ، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب : " هذا قبر حبي ولميس –
وروي : حبي وتماضر- ابنتي " تُبَّع " ، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله
ولا تشركان به شيئًا ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما .
قال قتادة : ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في " تُبَّع " : نُعِت نَعْت الرجل
الصالح ، ذم الله تعالى قومه ولم يذمه ، قال : وكانت عائشة تقول : لا تسبوا "
تُبَّعًا " ؛ فإنه قد كان رجلا صالحًا " انتهى باختصار .
" تفسير القرآن العظيم " (7/256-259) .
والله أعلم .