بسم الله الرحمن الرحيم
من أسُس التَّفاعل الاجتماعي في السنَّة النبويَّة: "لا تُركِّز على سلبيَّات الآخرين دون حسناتهم".
إنَّ الإنسان يَميل لمن يُحسن إليه، وهذا الأمر مقْبول، لكن
غير المقبول أن يحبَّ من يُحسِن إليْه حتَّى إذا بدرت منه أي غلْطة تجاهَه
أهْمله، وغضَّ النَّظر عن حسناته، ومن ذلك ما وصفه النَّبي - صلَّى الله
عليْه وسلَّم - في حقِّ النِّساء بأنَّهنَّ يكفرن العشير، فالواحدة منهنَّ
يُحسنُ إليْها زوجُها العمر الطَّويل، حتَّى إذا رأتْ منه شيئًا يَسوءُها
قالت: ما رأيتُ منكَ خيرًا قطّ، ولا يَخفى ما في ذلك من ظلْمٍ وإنْكار
معروف.
علاقة المرأة المسلمة بزوجِها المسلم، والَّتي
يمكن أن يُعمَّمَ مغزاها في كلّ قضايا التَّعامل؛ يقول: - صلَّى الله
عليْه وسلَّم -: ((لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضِي منها
آخر)).
قال النووي[1]: "أي: ينبغي أن لا يبغضَها؛ لأنَّه إن وجد
فيها خلقًا يُكره، وجد فيها خلقًا مرضيًّا، بأن تكون شرِسة الخلق لكنَّها
ديِّنة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به، أو نحو ذلك".
وقال صاحب "الديباج"[2]:
"المراد الإخبار بأنَّ المؤمنة لا يتصوَّر فيها اجتماع كلِّ القبائح، بحيث
إنَّ الزَّوج يبغضها البغض الكلّيَّ، وبحيث إنَّه لا يحمد فيها شيئًا
أصلاً، هذا هو معنى الفرْك ووقوع هذا مستحيل".
فما أحدٌ يسلم من العيوب، فلا
زوجة بلا عيوب، ولا صديق بلا عيوب، ولا رئيس ولا مرؤوس، يقول سعيد بن
المسيَّب: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلاَّ فيه عيب، ولكن من
النَّاس مَن لا ينبغي أن تُذكر عيوبه".
فمن كان فضله أكثرَ من نقصه ذهب نقصه لفضله، ولا تُذكر عيوب أهل الفضل تقديرًا لهم.
وكم من الناس ننقدهم فإذا رأيْنا غيرهم حمدناهم.
عَتِبْتُ عَلَى عَمْرٍو فَلَمَّا تَرَكْتُهُ وَجَرَّبْتُ أَقْوَامًا بَكَيْتُ عَلَى عَمْرِو |
أنَّ أرسطوطاليس قال[3]: "اعلم أنَّه ليس من أحد يَخلو من عيب ولا من
حسنة، فلا يمنعك عيب رجُل من الاستعانة به فيما لا نقص به".
والرسول
- صلَّى الله عليْه وسلَّم - يُعطينا المثل فيذكِّرُ بفضل الأنصار؛ لأنَّ
البشر بطبعهم ينسون الحسنات؛ فقد أخرج البخاري قوله - صلَّى الله عليْه
وسلَّم -: ((أوصيكم الأنصار فإنَّهم كرشي وعيْبتي (يعني بطانتي وخاصَّتي)، فقد قضَوا الَّذي عليهم (يقصد أنَّهم وفوا بما تعهَّدوا به في بيعة العقبة)، وبقي الَّذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم وتجاوزوا عن مسيئهم))، إنَّ هذا قمَّة الإنسانيَّة والعدل.
بل ويعطينا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مثلاً أوْضح من ذلك عند الهجرة، حيثُ
استعان بعبد الله بن أريقط كدليل في رحلته من مكَّة إلى المدينة، وقد كان
ابنُ أريقط كافرًا إلاَّ أنَّه كان ذا أمانة، وصاحب خبرة جمَّة في دروب
الصَّحراء، ولا يُخالف ذلك عقيدة الولاء والبراء؛ فالفرْق كبير بين
الاستِفادة واستِثْمار قدرات الآخَرين من جهة، وموالاتهم من جهة أخرى.
قال
ابن القيم[4]: "في استِئْجار النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عبد
الله بن أريقط الدؤلي هاديًا في وقت الهجرة وهو كافر، دليلٌ على جواز
الرُّجوع إلى الكافر في الطّبّ والكحل والأدْوية، والكتابة والحساب
والعيوب ونحوها، ما لم يكن ولاية تتضمَّن عدالة، ولا يلزم من مجرَّد كونه
كافرًا أن لا يوثَق به في شيء أصلا؛ فإنَّه لا شيء أخطَر من الدلالة في
الطَّريق ولاسيَّما في مثل طريق الهجْرة".
ــــــــــــــــــ
[1] شرح النووي على صحيح مسلم: ج10 ص 58.
[2] الديباج على مسلم: ج 4 ص80.
[3] عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ج1 ص 99.
[4] بدائع الفوائد: ج 3 ص 752.
الالوكة