أريد منكم أن تخبروني عن تاريخ الحج ومشاعرها؟
مثالاً على ذلك أن المسلمون يسعون بين الصفا و المروة هي ما فعلته هاجر
أما عن الباقي فلا أدري فأرجو إفادتي كرمي الجمار و الطواف و الوقوف بعرفة و
شرب ماء زمزم و المبيت بمنى و مزدلفة و ذبح الهدي ...الخ. و لكم جزيل
الشكر.
الجواب:
الحمد لله
فمن المجمع عليه بين أهل الإسلام قاطبة قديماً وحديثاً ، سلفاً وخلفا ، أن
الحج إلى بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام الخمس كما ثبت ذلك في الصحيحين
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره .
ومن المعروف أن الحج كسائر العبادات ، له أعمال خاصة به ، وكل عمل من هذه
الأعمال له هيئة يجب أن تؤتى على وجهها الصحيح ، كالإحرام من الميقات ،
والطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ،
ومن رمي الجمار والذبح ، إلى غير ذلك من أعمال الحج المعروفة ، فالواجب في
هذه الأعمال أن تؤدى وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم , والأحاديث التي
تبين صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا , وقد توسع الإمام ابن
القيم في "زاد المعاد" والحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" في
جمع هذه الأحاديث , وبيان ما تدل عليه وتفيده من أحكام ، وعلى المسلم أن
يهتم بمعرفة هذه الأحكام والعمل بها .
ثم ليعلم أن المقصود الأساسي من أعمال الحج إقامة ذكر الله تعالى , كما قال
تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فَإِذَا
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ )... إلى أن قال تعالى : (
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ ) البقرة / 198- 203 .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إنما جعل الطواف بالبيت والسعي
بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل . علقه البيهقي
(5/145) , وروي مرفوعا وفيه ضعف .
والمسلم إنما يعظم مشاعر الحج لأن الله عز وجل أمره بتعظيمها ، كما قال
تعالى : ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحج / 32 ، وروى البخاري (1610) عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود وقال : لولا أني رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك .
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى وهو في معرض كلامه عن أعمال الحج وشرحها
وبسط الكلام عنها : « ثم زالت تلك الأشياء وبقيت آثارها وأحكامها وربما
أشكلت هذه الأمور على من يرى صورها ولا يعرف أسبابها فيقول : هذا لا معنى
له ، فقد بينت لك الأسباب من حيث النقل ، وها أنا أمهد لك من المعنى قاعدة
تبنى عليها ما جاءك من هذا .
اعلم أن أصل العبادة معقول ، وهو ذل العبد لمولاه بطاعته ، فإن الصلاة فيها من التواضع والذل ما يفهم منه التعبد .
وفي الزكاة إرفاق ومواساة يفهم معناه .
وفي الصوم كسر شهوة النفس لتنقاد طائعة إلى مخدومها.
وفي تشريف البيت ونصبه مقصداً وجعل ما حوله حرماً تفخيماً له ، وإقبال
الخلق شعثاً غبراً كإقبال العبد إلى مولاه ذليلاً معتذراً أمر مفهوم ،
والنفس تأنس من التعبد بما تفهمه ، فيكون ميل الطبع إليه مُعيناً على فعله
وباعثا ، فوظفت لها وظائف لا يفهمها ، ليتم انقيادها كالسعي والرمي ، فإنه
لا حظ في ذلك للنفس ، ولا أُنس فيه للطبع ، ولا يهتدي العقل إلى معناه ،
فلا يكون الباعث إلى امتثال الأمر فيه سوى مجرد الأمر والانقياد المحض ،
وبهذا الإيضاح تعرف أسرار العبادات الغامضة » اهـ . انظر : مثير العزم
الساكن ( 1/285-286 ) .
إذا تبين هذا فإن الكثير من تاريخ أعمال الحج قبل
الرسول الله صلى الله عليه وسلم غير معلوم لنا , وهذه الأمور لا يضر الجهل
بها , وهناك بعض الأمور وردت الإشارة إلى شيء من تاريخها في بعض النصوص ،
ونذكر هنا شيئا من ذلك :
1- متى فرض الحج ؟ أو : متى كان بدء الحج ؟
يقول تعالى ﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ﴾ الحج / 27 .
يقول ابن كثير في تفسيره ( 3/221 ) لهذه الآية « أي نادِ ( يا إبراهيم ) في
الناس بالحج ، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه ،
فذكر أنه قال : " يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ " فقال : " نادِ
وعلينا البلاغ " فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل
على أبي قبيس ، وقال : " يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه "
فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام
والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج
إلى يوم القيامة ، ليبك اللهم لبيك ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ،
ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم . » أ.هـ.
ونقل ابن الجوزي في كتابه " مثير العزم الساكن ( 1/354 ) نحواً من ذلك مختصراً وعزاه إلى أهل السير .
هذا عن تاريخ فرض الحج قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، أما عن تاريخ
فرض الحج في الإسلام فقد اختلف فيه ، فقيل : فرض سنة ست ، وقيل سنة سبع ،
وقيل سنة تسع ، وقيل سنة عشر ، وجزم الإمام ابن القيم رحمه الله بأن فرضه
كان في العام التاسع أو العاشر ، قال رحمه الله تعالى : في زاد المعاد : «
لا خلاف أنه لم يحج - أي النبي صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلى المدينة
سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ...ولما نزل
فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير ، فإن
فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر ... فإن قيل : فمن أين لكم تأخير نزول
فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود
، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على
أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل
عمران ... » أ.هـ .
قال القرطبي في تفسيره ( 2/4/92 ) : « وقد كان الحج معلوماً عند العرب
مشهوراً لديهم ؛ فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا . »
وانظر كذلك أحكام القرآن لابن العربي ( 1/286 ) . انظر السؤال رقم ( 32662 )
2- الطواف بالبيت :
قال تعالى : ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ ) البقرة / 125 , وهذه
الآية تفيد أن الطواف بالبيت كان على عهد إبراهيم عليه السلام .
3- الرمل .
والرمل هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى . وهو سنة للرجال دون النساء في طواف القدوم وهو أول طواف يطوفه إذا قدم مكة .
- كيف كان بدء الرمل ؟
أخرج البخاري في صحيحه ( 2/469-470 ) ( 1602 ) ومسلم ( 2/991-992 ) ( 1262 )
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حُمى يثرب .
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ... ) . وفي
رواية زيادة : ( قال : ارملوا ليرى المشركون قوتكم ... ) .
4- ماء زمزم والسعي بين الصفا والمروة .
أخرج البخاري في صحيحه ( 6/396-397 ) ( 3364 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال : جاء إبراهيم بهاجر وابنها إسماعيل - وهي ترضعه - حتى وضعها عند البيت
، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء
، فوضعها هنالك ، ووضع عندهما جراباً فيه تمرٌ ، وسقاءً فيه ماءً .
ثم قضى - أي رجع - إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم !
أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك
مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .
قالت : إذن لا يضيعنا . ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية
حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال : (
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا
الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )
إبراهيم / 37 .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في
السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال : يتلبط -
فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل من الأرض يليها ،
فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً فهبطت من
الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ؛
حتى جاوزت الوادي .
ثم أتت المروة ، فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم ( فذلك سعى الناس بينهما )
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه - تريد نفسها - ثم تسمعت أيضا
فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث
بعقبه - أو قال : بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيديها هكذا
، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس : قال
النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم - أو قال :
لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا . قال : فقال لها الملك ، لا
تخافوا الضيعة ، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله
لا يضيع أهله ... ) الحديث .
قال ابن الجوزي في كتابه " مثير العزم الساكن " ( 2/47 ) : " وهذا الحديث
قد بان فيه معنى تسميتها بزمزم ، فإن الماء لما فاض زمته هاجر ، قال ابن
فارس اللغوي : زمزم من قولك زممت الناقة ، إذا جعلت لها زماماً تحبسها به )
اهـ.
5- الوقوف بعرفة :
روى أبو داود والترمذي (883) من حديث يزيد بن شيبان قال : كنا وقوفا بعرفة
مكانا بعيدا من الموقف , فأتانا ابن مِربع الأنصاري , فقال : إني رسول رسول
الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم : " كونوا على مشاعركم , فإنكم
على إرث من إرث أبيكم إبراهيم " وصححه الألباني في "صحيح أبي داود " (1688)
.
والكثير من أعمال الحج كان على عهد إبراهيم عليه السلام , ولكن المشركين
ابتدعوا بعض الأمور التي لم تكن مشروعة , فلما بعث النبي صلى الله عليه
وسلم , خالفهم في ذلك وبين المشروع من أعمال الحج .
فهذه نبذة يسيرة عن تاريخ الحج وتاريخ بعض مشاعره ، وللزيادة يمكنك الرجوع
إلى كتاب الحافظ ابن الجوزي رحمه الله المسمى بـ " مثير العزم الساكن إلى
أشرف الأماكن " المجلد الأول منه كاملاً مع بداية المجلد الثاني .
وبإمكان السائل مراجعة السؤال رقم (3748) لمعرفة نبذة عن تاريخ المسجد الحرام .
والله اعلم .
مثالاً على ذلك أن المسلمون يسعون بين الصفا و المروة هي ما فعلته هاجر
أما عن الباقي فلا أدري فأرجو إفادتي كرمي الجمار و الطواف و الوقوف بعرفة و
شرب ماء زمزم و المبيت بمنى و مزدلفة و ذبح الهدي ...الخ. و لكم جزيل
الشكر.
الجواب:
الحمد لله
فمن المجمع عليه بين أهل الإسلام قاطبة قديماً وحديثاً ، سلفاً وخلفا ، أن
الحج إلى بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام الخمس كما ثبت ذلك في الصحيحين
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره .
ومن المعروف أن الحج كسائر العبادات ، له أعمال خاصة به ، وكل عمل من هذه
الأعمال له هيئة يجب أن تؤتى على وجهها الصحيح ، كالإحرام من الميقات ،
والطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ،
ومن رمي الجمار والذبح ، إلى غير ذلك من أعمال الحج المعروفة ، فالواجب في
هذه الأعمال أن تؤدى وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم , والأحاديث التي
تبين صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا , وقد توسع الإمام ابن
القيم في "زاد المعاد" والحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" في
جمع هذه الأحاديث , وبيان ما تدل عليه وتفيده من أحكام ، وعلى المسلم أن
يهتم بمعرفة هذه الأحكام والعمل بها .
ثم ليعلم أن المقصود الأساسي من أعمال الحج إقامة ذكر الله تعالى , كما قال
تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فَإِذَا
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ )... إلى أن قال تعالى : (
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ ) البقرة / 198- 203 .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إنما جعل الطواف بالبيت والسعي
بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل . علقه البيهقي
(5/145) , وروي مرفوعا وفيه ضعف .
والمسلم إنما يعظم مشاعر الحج لأن الله عز وجل أمره بتعظيمها ، كما قال
تعالى : ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحج / 32 ، وروى البخاري (1610) عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود وقال : لولا أني رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك .
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى وهو في معرض كلامه عن أعمال الحج وشرحها
وبسط الكلام عنها : « ثم زالت تلك الأشياء وبقيت آثارها وأحكامها وربما
أشكلت هذه الأمور على من يرى صورها ولا يعرف أسبابها فيقول : هذا لا معنى
له ، فقد بينت لك الأسباب من حيث النقل ، وها أنا أمهد لك من المعنى قاعدة
تبنى عليها ما جاءك من هذا .
اعلم أن أصل العبادة معقول ، وهو ذل العبد لمولاه بطاعته ، فإن الصلاة فيها من التواضع والذل ما يفهم منه التعبد .
وفي الزكاة إرفاق ومواساة يفهم معناه .
وفي الصوم كسر شهوة النفس لتنقاد طائعة إلى مخدومها.
وفي تشريف البيت ونصبه مقصداً وجعل ما حوله حرماً تفخيماً له ، وإقبال
الخلق شعثاً غبراً كإقبال العبد إلى مولاه ذليلاً معتذراً أمر مفهوم ،
والنفس تأنس من التعبد بما تفهمه ، فيكون ميل الطبع إليه مُعيناً على فعله
وباعثا ، فوظفت لها وظائف لا يفهمها ، ليتم انقيادها كالسعي والرمي ، فإنه
لا حظ في ذلك للنفس ، ولا أُنس فيه للطبع ، ولا يهتدي العقل إلى معناه ،
فلا يكون الباعث إلى امتثال الأمر فيه سوى مجرد الأمر والانقياد المحض ،
وبهذا الإيضاح تعرف أسرار العبادات الغامضة » اهـ . انظر : مثير العزم
الساكن ( 1/285-286 ) .
إذا تبين هذا فإن الكثير من تاريخ أعمال الحج قبل
الرسول الله صلى الله عليه وسلم غير معلوم لنا , وهذه الأمور لا يضر الجهل
بها , وهناك بعض الأمور وردت الإشارة إلى شيء من تاريخها في بعض النصوص ،
ونذكر هنا شيئا من ذلك :
1- متى فرض الحج ؟ أو : متى كان بدء الحج ؟
يقول تعالى ﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ﴾ الحج / 27 .
يقول ابن كثير في تفسيره ( 3/221 ) لهذه الآية « أي نادِ ( يا إبراهيم ) في
الناس بالحج ، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه ،
فذكر أنه قال : " يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ " فقال : " نادِ
وعلينا البلاغ " فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل
على أبي قبيس ، وقال : " يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه "
فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام
والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج
إلى يوم القيامة ، ليبك اللهم لبيك ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ،
ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم . » أ.هـ.
ونقل ابن الجوزي في كتابه " مثير العزم الساكن ( 1/354 ) نحواً من ذلك مختصراً وعزاه إلى أهل السير .
هذا عن تاريخ فرض الحج قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، أما عن تاريخ
فرض الحج في الإسلام فقد اختلف فيه ، فقيل : فرض سنة ست ، وقيل سنة سبع ،
وقيل سنة تسع ، وقيل سنة عشر ، وجزم الإمام ابن القيم رحمه الله بأن فرضه
كان في العام التاسع أو العاشر ، قال رحمه الله تعالى : في زاد المعاد : «
لا خلاف أنه لم يحج - أي النبي صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلى المدينة
سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ...ولما نزل
فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير ، فإن
فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر ... فإن قيل : فمن أين لكم تأخير نزول
فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود
، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على
أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل
عمران ... » أ.هـ .
قال القرطبي في تفسيره ( 2/4/92 ) : « وقد كان الحج معلوماً عند العرب
مشهوراً لديهم ؛ فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا . »
وانظر كذلك أحكام القرآن لابن العربي ( 1/286 ) . انظر السؤال رقم ( 32662 )
2- الطواف بالبيت :
قال تعالى : ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ ) البقرة / 125 , وهذه
الآية تفيد أن الطواف بالبيت كان على عهد إبراهيم عليه السلام .
3- الرمل .
والرمل هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى . وهو سنة للرجال دون النساء في طواف القدوم وهو أول طواف يطوفه إذا قدم مكة .
- كيف كان بدء الرمل ؟
أخرج البخاري في صحيحه ( 2/469-470 ) ( 1602 ) ومسلم ( 2/991-992 ) ( 1262 )
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حُمى يثرب .
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ... ) . وفي
رواية زيادة : ( قال : ارملوا ليرى المشركون قوتكم ... ) .
4- ماء زمزم والسعي بين الصفا والمروة .
أخرج البخاري في صحيحه ( 6/396-397 ) ( 3364 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال : جاء إبراهيم بهاجر وابنها إسماعيل - وهي ترضعه - حتى وضعها عند البيت
، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء
، فوضعها هنالك ، ووضع عندهما جراباً فيه تمرٌ ، وسقاءً فيه ماءً .
ثم قضى - أي رجع - إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم !
أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك
مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .
قالت : إذن لا يضيعنا . ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية
حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال : (
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا
الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )
إبراهيم / 37 .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في
السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال : يتلبط -
فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل من الأرض يليها ،
فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً فهبطت من
الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ؛
حتى جاوزت الوادي .
ثم أتت المروة ، فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم ( فذلك سعى الناس بينهما )
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه - تريد نفسها - ثم تسمعت أيضا
فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث
بعقبه - أو قال : بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيديها هكذا
، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس : قال
النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم - أو قال :
لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا . قال : فقال لها الملك ، لا
تخافوا الضيعة ، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله
لا يضيع أهله ... ) الحديث .
قال ابن الجوزي في كتابه " مثير العزم الساكن " ( 2/47 ) : " وهذا الحديث
قد بان فيه معنى تسميتها بزمزم ، فإن الماء لما فاض زمته هاجر ، قال ابن
فارس اللغوي : زمزم من قولك زممت الناقة ، إذا جعلت لها زماماً تحبسها به )
اهـ.
5- الوقوف بعرفة :
روى أبو داود والترمذي (883) من حديث يزيد بن شيبان قال : كنا وقوفا بعرفة
مكانا بعيدا من الموقف , فأتانا ابن مِربع الأنصاري , فقال : إني رسول رسول
الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم : " كونوا على مشاعركم , فإنكم
على إرث من إرث أبيكم إبراهيم " وصححه الألباني في "صحيح أبي داود " (1688)
.
والكثير من أعمال الحج كان على عهد إبراهيم عليه السلام , ولكن المشركين
ابتدعوا بعض الأمور التي لم تكن مشروعة , فلما بعث النبي صلى الله عليه
وسلم , خالفهم في ذلك وبين المشروع من أعمال الحج .
فهذه نبذة يسيرة عن تاريخ الحج وتاريخ بعض مشاعره ، وللزيادة يمكنك الرجوع
إلى كتاب الحافظ ابن الجوزي رحمه الله المسمى بـ " مثير العزم الساكن إلى
أشرف الأماكن " المجلد الأول منه كاملاً مع بداية المجلد الثاني .
وبإمكان السائل مراجعة السؤال رقم (3748) لمعرفة نبذة عن تاريخ المسجد الحرام .
والله اعلم .