الاستقامة مفهومها وأحوالها
عبد العزيز بن ناصر الجليِّل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فلقد ورد ذكر الاستقامة في القرآن الكريم، في مواطن كثيرةٍ، مرةً بالأمر بها كما في قوله تعالى: ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ) (هود: 112)..
ومرةً بالثناءِ على أهلها، وذكر ما أعد لهم من الخير والثواب، كما في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأحقاف: 13).
وكما في قوله تعالى: ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) ( الجـن: 16 ).. ومرةً بطلبِ الهدايةِ إلى الطريق المستقيم، كما في قوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ( الفاتحة: 6 ).
كما جاء في السنة الحث على لزوم الاستقامة كما في قوله : ( قل آمنت بالله ثم استقم ).. فما هو مفهوم الاستقامة وضابطه ؟
إن
الاستقامة في أبسط معانيها، تعني لزوم الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه
ولا ميل، ولا إفراط ولا تفريط.. وهذا لا يتأتى إلا باتباع الرسول - ، والاستسلام لما جاء به من ربه عز وجل، وبالطريقة التي فهمها أصحابه - رضي الله عنهم - وساروا على نهجها، والإخلاص لله عز وجل فيها.
ولا تكتمل الاستقامة إلا بأمورٍ أربعة:
الأمر الأول: معرفة طريقها، والعلم بها، واستبانتها بالدليل الشرعي الصحيح.
الأمر الثاني: العمل بها، والتزام تطبيقها ظاهرًا وباطنًا.
الأمر الثالث: الدعوة إليها، والتواصي بلزومها، ومدافعة ما يضعفها ويعيقها.
الأمر الرابع: الثبات عليها، والصبر على لزومها، ومدافعة ما يضادها حتى الممات، دون زيادة ولا نقصان.
ولو تأملنا هذه الأمور الأربعة، لرأيناها هي المذكورة في سـورة العصر.. والتي
هي مقومات الاستقامة، وبالتالي هي أسباب الفوز والنجاة من الخسران، فمن
كملها كلها فقد كملت استقامته، ومن لم يُكملها نقصت استقامته بحسب ذلك.
ولا يصدقُ وصف الاستقامة على عبدٍ إلاَّ بتحقيق أمرين كبيرين:
الأمر الأول: الاستقامة على أمر الله عز وجل ظاهرًا وباطنًا، بالإخلاص لله تعالى، ومتابعة لرسول الله في ذلك دون إفراط ولا تفريط، ولا جفاءٍ ولا غلو.
الأمر الثاني: الثبات على هذا الأمر وعدم اتباع السبل، والصبر على لزومه حتى الممات.
ونظرًا
لأهمية التوسط بين الإفراط والتفريط في تحقيق الاستقامة، فإنَّهُ لا بُدَّ
من تفصيل القول في هذا الضابط، وذلك لأن كثيرًا ممن يتحدث عن الاستقامة،
لا يتطرق إلى أهمية التوسط في تحقيق وصف الاستقامة، وإنما يقصرُ أكثر
الحديث عنها، على لزوم طاعة الله عز وجل وعدم التقصير فيها، والاستمرار على ذلك إلى الموت.
وقليلٌ
منهم من يشير إلى أن مما يضاد الاستقامة أيضًا الغلو والزيادة، ولو كان
بنيَّة الطاعة والعبادة، فكما أنَّ مما يقدحُ في الاستقامة التفريط،
وارتكاب المعاصي، فكذلك مما يقدح فيها الزيادة والطغيان، والغلو والإفراط.
قال الله عز وجل لنبيه : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ) ( هود: 112 ).. ففُهِم
من الآية أنَّ الزيادة والطغيان ممَّا يضاد الاستقامة، وبناءً على هذا
الفهم الشامل للاستقامة، فإنَّ العبد مأمورٌ بالاستقامة في دينه كله، عقيدة
وعبادة وسلوكًا، وأن يلزم الوسطية في كل أمور دينه، ويحذر من الميل إلى
أحد الطرفين، طرف التفريط والتقصير، أو طرف الغلو والإفراط.
ولو
تأملنا مذهب أهل السنة والجماعة، لرأيناه رمز الاستقامة في أبواب الدين
كله؛ فهم وسطٌ في أبواب الاعتقاد بين الغالين والجافين وفي أبواب العبادات
بين المبتدعين الزائدين فيها، ما لم يأذن به الله عز وجل، وبين المفرطين
المضيعين لها من أهل الفساد والفجور، وكذلك في أبواب الأخلاق والسلوك فهم
وسط في أخلاقهم بين الإفراط والتفريط إذ أن كل خلق محمود فهو مكتنف بخلقين
ذميمين أحدهما غلو وإفراط والآخر تقصير وتفريط..
وهذا
ما يوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: ( وكل خلق محمود
مكتنَفٌ بخلقين ذميمين.. وهو وسط بينهما.. وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود:
الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير، والتواضع الذي يكتنفه خلقان الذل
والمهانة، والكبر والعلو.
فإنَّ
النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا
انحرفت عن خلق التواضع، انحرفت إما إلى كبرٍ وعلو، وإما إلى ذلٍ ومهانة
وحقارة.
وإذا
انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قِحَةٍ وجرأة، وإما إلى عجـزٍ وخور
ومهانة، وإذا انحرفت عن خلق الحلم، انحرفت إما إلى الطيش والترف، والحدة
والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة، وإذا انحرفت عن خُلق الأناة
والرفق، انحرفت إما إلى عجلةٍ وطيشٍ وعنف، وإما إلى تفريطٍ وإضاعة، والرفق
والأناة بينهما، وصاحب الخلق الوسط مهيبٌ محبوب، عزيز جانبه، حبيبٌ لقاؤه،
وفي صفة نبينا محمد : ( من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبه ) أهـ
والحاصلُ أن الاستقامة هي: التزام دين الله عز وجل، بلزوم الوسطية التي هي سمة هذا الدين، وهي دليلٌ اتباع الرسول وما كان عليه أصحابه - رضي الله عنهم، مع الإخلاص لله عز وجل في ذلك كله، ولزوم ذلك كلهُ في حياة العبد، حتى يتوفاه الله عز وجل.
عبد العزيز بن ناصر الجليِّل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فلقد ورد ذكر الاستقامة في القرآن الكريم، في مواطن كثيرةٍ، مرةً بالأمر بها كما في قوله تعالى: ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ) (هود: 112)..
ومرةً بالثناءِ على أهلها، وذكر ما أعد لهم من الخير والثواب، كما في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأحقاف: 13).
وكما في قوله تعالى: ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) ( الجـن: 16 ).. ومرةً بطلبِ الهدايةِ إلى الطريق المستقيم، كما في قوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ( الفاتحة: 6 ).
كما جاء في السنة الحث على لزوم الاستقامة كما في قوله : ( قل آمنت بالله ثم استقم ).. فما هو مفهوم الاستقامة وضابطه ؟
إن
الاستقامة في أبسط معانيها، تعني لزوم الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه
ولا ميل، ولا إفراط ولا تفريط.. وهذا لا يتأتى إلا باتباع الرسول - ، والاستسلام لما جاء به من ربه عز وجل، وبالطريقة التي فهمها أصحابه - رضي الله عنهم - وساروا على نهجها، والإخلاص لله عز وجل فيها.
ولا تكتمل الاستقامة إلا بأمورٍ أربعة:
الأمر الأول: معرفة طريقها، والعلم بها، واستبانتها بالدليل الشرعي الصحيح.
الأمر الثاني: العمل بها، والتزام تطبيقها ظاهرًا وباطنًا.
الأمر الثالث: الدعوة إليها، والتواصي بلزومها، ومدافعة ما يضعفها ويعيقها.
الأمر الرابع: الثبات عليها، والصبر على لزومها، ومدافعة ما يضادها حتى الممات، دون زيادة ولا نقصان.
ولو تأملنا هذه الأمور الأربعة، لرأيناها هي المذكورة في سـورة العصر.. والتي
هي مقومات الاستقامة، وبالتالي هي أسباب الفوز والنجاة من الخسران، فمن
كملها كلها فقد كملت استقامته، ومن لم يُكملها نقصت استقامته بحسب ذلك.
ولا يصدقُ وصف الاستقامة على عبدٍ إلاَّ بتحقيق أمرين كبيرين:
الأمر الأول: الاستقامة على أمر الله عز وجل ظاهرًا وباطنًا، بالإخلاص لله تعالى، ومتابعة لرسول الله في ذلك دون إفراط ولا تفريط، ولا جفاءٍ ولا غلو.
الأمر الثاني: الثبات على هذا الأمر وعدم اتباع السبل، والصبر على لزومه حتى الممات.
ونظرًا
لأهمية التوسط بين الإفراط والتفريط في تحقيق الاستقامة، فإنَّهُ لا بُدَّ
من تفصيل القول في هذا الضابط، وذلك لأن كثيرًا ممن يتحدث عن الاستقامة،
لا يتطرق إلى أهمية التوسط في تحقيق وصف الاستقامة، وإنما يقصرُ أكثر
الحديث عنها، على لزوم طاعة الله عز وجل وعدم التقصير فيها، والاستمرار على ذلك إلى الموت.
وقليلٌ
منهم من يشير إلى أن مما يضاد الاستقامة أيضًا الغلو والزيادة، ولو كان
بنيَّة الطاعة والعبادة، فكما أنَّ مما يقدحُ في الاستقامة التفريط،
وارتكاب المعاصي، فكذلك مما يقدح فيها الزيادة والطغيان، والغلو والإفراط.
قال الله عز وجل لنبيه : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ) ( هود: 112 ).. ففُهِم
من الآية أنَّ الزيادة والطغيان ممَّا يضاد الاستقامة، وبناءً على هذا
الفهم الشامل للاستقامة، فإنَّ العبد مأمورٌ بالاستقامة في دينه كله، عقيدة
وعبادة وسلوكًا، وأن يلزم الوسطية في كل أمور دينه، ويحذر من الميل إلى
أحد الطرفين، طرف التفريط والتقصير، أو طرف الغلو والإفراط.
ولو
تأملنا مذهب أهل السنة والجماعة، لرأيناه رمز الاستقامة في أبواب الدين
كله؛ فهم وسطٌ في أبواب الاعتقاد بين الغالين والجافين وفي أبواب العبادات
بين المبتدعين الزائدين فيها، ما لم يأذن به الله عز وجل، وبين المفرطين
المضيعين لها من أهل الفساد والفجور، وكذلك في أبواب الأخلاق والسلوك فهم
وسط في أخلاقهم بين الإفراط والتفريط إذ أن كل خلق محمود فهو مكتنف بخلقين
ذميمين أحدهما غلو وإفراط والآخر تقصير وتفريط..
وهذا
ما يوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: ( وكل خلق محمود
مكتنَفٌ بخلقين ذميمين.. وهو وسط بينهما.. وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود:
الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير، والتواضع الذي يكتنفه خلقان الذل
والمهانة، والكبر والعلو.
فإنَّ
النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا
انحرفت عن خلق التواضع، انحرفت إما إلى كبرٍ وعلو، وإما إلى ذلٍ ومهانة
وحقارة.
وإذا
انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قِحَةٍ وجرأة، وإما إلى عجـزٍ وخور
ومهانة، وإذا انحرفت عن خلق الحلم، انحرفت إما إلى الطيش والترف، والحدة
والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة، وإذا انحرفت عن خُلق الأناة
والرفق، انحرفت إما إلى عجلةٍ وطيشٍ وعنف، وإما إلى تفريطٍ وإضاعة، والرفق
والأناة بينهما، وصاحب الخلق الوسط مهيبٌ محبوب، عزيز جانبه، حبيبٌ لقاؤه،
وفي صفة نبينا محمد : ( من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبه ) أهـ
والحاصلُ أن الاستقامة هي: التزام دين الله عز وجل، بلزوم الوسطية التي هي سمة هذا الدين، وهي دليلٌ اتباع الرسول وما كان عليه أصحابه - رضي الله عنهم، مع الإخلاص لله عز وجل في ذلك كله، ولزوم ذلك كلهُ في حياة العبد، حتى يتوفاه الله عز وجل.